محمد يوب - القصة القصيرة فن إقلالي

مقدمة لابد منها: في المشهد الثقافي العربي هناك صراع محتدم حول الحجم الذي ينبغي أن تكون عليه القصة القصيرة؛ بين فريق يؤمن بشرعية القصة القصيرة الرشيقة الذي فرضته مستجدات الفكر (ما بعد حداثي) الذي يميل جهة الإقلال اللغوي. وفريق آخر يجتهد للقضاء على هذا التيار الفكري لصالح المشروع الحداثي المولع بالسرد الإنشائي الخطي. وسأسعى من خلال هذه الدراسة إلى مناقشة المحددات الفلسفية والنقدية التي أفرزت هذا الصراع.

مسار القصة القصيرة

لقد عرفت القصة القصيرة عبر مسارها التاريخي مجموعة من التغيرات على مستوى البناء الفني؛ بفعل تأثير المتغيرات الفكرية والأيديولوجية التي أفرزتها الظروف السوسيوثقافية في أوروبا؛ من قصة قصيرة تقليدية تروم الإمعان في الوصف؛ والإطناب في تناول الأحداث وسيرورة الشخصيات في الزمان والمكان؛ إلى قصة حداثية فرضتها ظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية؛ حيث القصة في هذه المرحلة كانت تبحث عن القيم والمعاني في عالم مليء بالفوضى، والقاص يحاول البحث عن الانسجام، والنظام، وهي قصص قصيرة تقدم المادة التعليمية والتربوية، التي تسعى إلى نشر الأخلاق والمعاني النبيلة؛ ومحاولة خلق عالم منتظم فيه خلاصات وتجارب إنسانية.
ثم بعد ذلك سلكت القصة القصيرة منعطفا جديدا في ستينيات القرن الماضي إلى ما بعد الحداثة؛ بسبب التحولات الاقتصادية العنيفة التي أدخلت العالم في عصر جديد من التطور السريع لثورة تكنولوجية المعلومات، وأشكال الاستهلاك والاقتصاد المُعولم. وفي هذه المرحلة أعلن بعض الباحثين من أمثال: فرنسوا ليوتار وغواتاري عن نهاية السرديات الكبرى وبداية السرديات الصغرى؛ ومنها القصة القصيرة التي تعتمد على أقل الكلمات للوصول إلى فائض المعنى والمتعة الفنية والجمالية؛ بأسلوب مستعار وبطريقة تقترب من اللهو والعبث الرافض لنظام العالم. ويمكن تلخيص خصائص القصة القصيرة ما بعد الحداثية في: تقنية ما وراء القص – فكر ما بعد الحداثة – إهمال القواعد السردية – تداخل الأجناس – الانعكاس الذاتي – التهكم من الواقع – التناص – السخرية والتهكم – محاكمة النظام – خلط العوالم الموازية – البطل الذكي – الإنسان مصنوع من اللغة – النقد داخل القصة- اللغة المصنوعة – يعلم كيفية كتابة القصة من داخل القصة ـ الفن الإقلالي.

القصة القصيرة فن إقلالي

إذا كانت الرواية ملحمة البورجوازية كما قال باختين؛ فإن القصة القصيرة كائن تعبيري نخبوي تتطور بتطور البناء الفكري والسياسي والاقتصادي للإنتلجنسيا؛ التي سلكت في حياتها محطات متعددة من الأسرة الممتدة إلى الأسرة النووية باختراع حبوب منع الحمل لتقليص عدد الولادات؛ ومن البيوت الكبيرة إلى الشقق الصغيرة؛ ومن الوجبات الدسمة إلى وجبة الهامبورغر وهكذا..؛ ما انعكس على القصة القصيرة، حيث تطورت من الاتجاه التقليدي إلى الاتجاه الحداثي إلى الاتجاه ما بعد الحداثي هذا الأخير الذي تشكلت فلسفته في ستينيات القرن الماضي؛ وانتقل إلينا بفعل الترجمة وعملية المثاقفة والتأثير والتأثر؛ ومن بين الأفكار التي نادى بها الفكر ما بعد الحداثي هو الاتجاه في الكتابة القصصية والإبداع الأدبي والفني عموما إلى الحد الأدنى من الكلمات؛ وهو الذي ينعت بـ(الفن الاختزالي) أو(الفن الإقلالي) ويعني تقديم موضوع العمل القصصي في أقل عدد من خصائصه الدالة عليه، وحذف الكثير من التفاصيل؛ وهو أسلوب جديد في الكتابة مقبل من الحركة الفنية للرسم والنحت المبسط الذي يستخدم أبسط الألوان والحد الأدنى منها؛ وقد خرج عن قيم التشكيل المتوارثة، وبالتالي تعلقه بنزعة التجديد وملاحقة التحولات الفنية المتأثرة بالتكنولوجيا ووسائل الاتصال بين الحضارات والشعوب؛ وقد فرضته ظروف الواقع المعيش وإكراهات الحياة؛ الشيء الذي انعكس على مستوى الإبداع القصصي القصير الذي اتصف بالحجم القصير المبني على التكثيف والإيجاز المشبع بالمضمرات النصية والبصرية والدلالية. وما ‏ينجم عنها من صراع وما تمتاز به من تركيز في استخدام الدلالات اللغوية المناسبة لطبيعة الحدث ‏وأحوال الشخصية وخصائص القص وحركية الحوار والسرد ومظاهر الخيال والحقيقة؛ وغير ذلك من ‏القضايا التي تتوغل في هذا الفن الأدبي المتميز.

القصة القصيرة فن رخامي

إن القصة القصيرة تشبه قمة الجبل العائم والمختفي جميعه تحت الماء؛ مما يستلزم غوصا نحوه بالتأمل واستكشاف خصائص الأداء القصصي؛ وهي ذات طابع زئبقي متفلت؛ تطور نفسها بحسب الظروف والمناسبات؛ ففي القرن الماضي وجدت لنفسها حيزا مكانيا في الصحافة الورقية؛ ما ساعد على انتشارها بشكل لافت للانتباه؛ وفي القرن الواحد والعشرين طورت نفسها بتطور الشبكة العنكبوتية؛ فحافظت على مكانتها كأحد أشكال التعبيري الأكثر مقروئية؛ والذي ساعدها على ذلك هو حجمها الرخامي الرشيق الذي يتلاءم وطبيعة الجريدة اليومية…وقد اختارت هذا التوجه القصير كما فعلت أشكال تعبيرية أخرى مثل الرواية التي شذبت من حجمها في اتجاه الرواية القصيرة أو النوفيلا؛ خوفا من الاختفاء مثلما وقع للملحمة.
ومن طبيعة القصة القصيرة أنها تقدم لحظة عابرة منفصلة؛ تشمل موقفا معينا يعبر عنه الكاتب بإيجاز، من دون إسهاب أو إفاضة؛ أو تقدم شريحة حياتية ترصد شيئا من تفاصيل الحياة المحكمة؛ إنها لقطة فنية من الحياة لكنها في الوقت نفسه تشتمل على جميع عناصر ودراما الحياة؛ وهي بذلك لا تملك المساحة الكافية للثرثرة والإفصاح وتقديم الإجابات؛ إذ إنها لو أفصحت وأفاضت في الثرثرة، لما أصبحت قصة قصيرة. فهي كما قال فرانك أوكونور: الصوت المنفرد الذي لا يشبه الأصوات الأخرى؛ فهي شكل تعبيري خالص؛ نقي؛ مستقل بذاته غير مقبل من أجناس أخرى كما يدعي الكثيرون؛ فهي تشبه نبات الجذمور؛ رشيقة كراقصة الباليه؛ تنمو وتترعرع بلا جذور؛ تتفاعل وتتقاطع مع أشكال تعبيرية أخرى؛ تتقاطع مع الشعر في صناعة المجاز والموسيقى والصورة الفنية؛ وتتقاطع مع المسرح في التكثيف والتوتر والصراع للتعبير عن لقطة واحدة معزولة من الواقع المتخيل…

القصة القصيرة وامتداداتها في نفسية القارئ

إن الاسهاب في ذكر التفاصيل؛ والاستطراد في الحكي؛ واحترام هذه الشروط يزيد من مشقة كاتب القصة القصيرة؛ لأن طول القصة القصيرة يفقدها وحدة التأثير والانطباع الذي تخلفه في القارئ؛ لأن طول القصة القصيرة قد يفرض على القارئ التوقف ومن هناك يضيع على نفسه فرصة الاستمتاع وتتبع القصة من بدايتها إلى نهايتها.
ولهذا السبب فإن حجم القصة القصيرة محكوم بعدد الكلمات وعدد الصفحات على المستوى البصري، لكنها مفتوحة وغير مكتملة في ذهن المتلقي تولد لديه قصصا متعددة من خلال عملية التخييل التي ينتجها؛ والتخييل ينهض وينمو من خلال ما يترجمه ذهن القارئ من مضمرات. لأن الموسوعة اللغوية على الرغم من ضيقها على المستوى البصري، فإنها على مستوى ما توحي به من دلالات يجعلها أكثر عمقا؛ لأنها مفتوحة على التأويل والتواصل المتجدد؛ وهذا التجدد يزيد في تخصيب مستوى الدلالة، من خلال عدول اللغة عن الحقيقة إلى المجاز؛ وتوسعها في المعاني؛ وانزياحاتها الأسلوبية؛ وهكذا تصبح اللغة أداة إخفاء وستر بقدر ما هي أداة كشف للقارئ أو المؤول. فعمق اللغة وإبداعها هو في باطن النص وليس في ظاهره؛ ومهمة القارئ الفطن البحث في ما تقوله اللغة في العمق وليس في الظاهر؛ فالتأويل معني بما تخفيه اللغة أكثر من عنايته بما تظهره.
بمعنى أن القصة القصيرة محكومة في شكلها الملفوظ وحجمها الملحوظ بعدد معين من الصفحات لكن لها امتدادات زمنية في نفسية القارئ؛ لما تشكل لديه من رؤية ارتدادية في أعماق الذات لتجسيد انفعالاتها.

May 17, 2016
٭ القدس العربي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى