حاميد اليوسفي - النحلة التي لم تسقط في الكأس الساخن.. قصة قصيرة

أخبر أحميدة زوجته بأنه قرر الإقلاع عن التدخين وشرب الخمر . قبل أن يتم كلامه زغردت فاطمة ، وطبعت قبلة على خده ، ووعدته بأن تطبخ له بثمن السجائر طعاما يوم الأحد القادم ، لم يذق مثله في حياته .
لم يكن مدمنا على تناول الكحول . عندما يكون الشغل متوفرا ، والدخل يتجاوز مصاريف البيت ، يتناول بعض قنينات الجعة داخل البيت بعد صلاة العشاء ، وفي فترات متباعدة ، ويشعر بأن ذلك يُطهّر روحه ، كما يُطهّر الماء الساخن جسده من الأوساخ .
بعد الأزمة أصبح العمل متقطعا ، وبدون تعويض ، ومع ارتفاع الأسعار ، وازدياد مصاريف البيت مع المولود الجديد ، قرر وضع حد للتدخين ، والقطع مع تناول الخمر ، والمواظبة على الذهاب إلى المسجد خارج أوقات العمل ، لأن الباطرون رغم إسداله اللحية جريا على عادة الله يبارك من أصبح في السلطة ، لا يسمح للصلاة أن تأكل من وقت الشغل ، ويعتبر ذلك حراما وسحتا ، قد يعود على بطون العمال بالسم .
ولعل ما شجعه اليوم على التفكير في الذهاب إلى المسجد ، تذكره بأن كل الدروس التي تلقاها في مادة التربية الإسلامية ، والفيديوهات التي يرسلها له أصدقاؤه ، تمدح الصلاة داخل المسجد ، وترى أنها تقوي التواصل ، وتعمق التآخي ، وتزرع الود بين الناس ، وترفع من عدد الحسنات ، وتدفع السيئات وتطرد الشياطين . لكن هذه القيم والأخلاق النبيلة يراها كل يوم تتراجع أمام قسوة الحياة . كما اكتشف غرائب مثيرة ، خاصة في يوم صلاة الجمعة ، عندما تكتظ المساجد بالناس مع ارتفاع درجات الحرارة ، فيلتصق بعضهم بجوار بعض ، بعد دعوة الإمام إلى رص الصفوف ، حتى لا تبقى فجوة بين شخصين يتسرب منها الشيطان ، فيُفسد عليهم الصلاة . وتضيع مع الزحام رائحة المسك والطيب ، وتحل محلها رائحة العرق . وفي الصف الأمامي يجلس رجال السلطة والمنتخبون وعلية القوم . في الحقيقة لا يأتون إلى المسجد باكرا حتى يستفيدوا من هذه المواقع المتقدمة ، لكن بعض المتملقين يضعون لهم كراسي في الأماكن التي سيجلسون فيها ، كإشارة إلى أن المكان محجوز . في مثل هذه الظروف يفضل أن يفترش السجاد تحت ظل شجرة بجوار سور المسجد مع من قدم متأخرا .
تذكر عندما كان طفلا في الثانية عشرة من عمره أن المعلم أخبرهم في القسم بأن الشيطان مخلوق من نار ، رفض أن يسجد لسيدنا آدم ، فطرده الله سبحانه من الجنة. وأنه هو الذي أغوى آدم و حواء للأكل من شجرة الخلد ، التي نهاهما الله تعالى عن الاقتراب منها ، فنزلا إلى الأرض عقابا لهما . منذ ذلك الوقت والشيطان يغوي الإنسان ويبعده عن طريق الهداية ، ولهذا يلعنه المسلمون في المساجد وخارجها صباح مساء .
سأل نفسه هل يدخل الشيطان إلى المسجد ويصلي مع الناس ؟ سمع الكثير عن السرقة في المساجد . لا تكاد تمر صلاة في مسجد ، حتى يتعرض بعض المصلين لسرقة حذاء أو نعل أو هاتف أو حقيبة نقود . الناس ألفوا ذلك ، وأصبحوا ينبهون بعضهم البعض . ويضعون الإعلانات التي تحذر من ذلك عند مدخل المسجد . لا بد أن الشيطان إذا دخل المسجد سيتضايق من سماع كل هذه الشتائم التي يوجهها إليه المصلون ، فينتقم منهم ويحرض بعضهم على السرقة والزنا والكذب وغيرها من الموبقات .
مع توالي الأيام بدأ شخص في الثلاثينات من عمره يتقرب منه ، ويبادله التحية كلما دخل إلى المسجد ، ويصلي بجانبه . لم تعجبه هيأته . لحية كثة احمرت بصباغة الحناء مسدلة بشكل فوضوي ، جعلت خديه عريضين أكثر من اللازم حتى بدا رأسه مربعا ، فأثر ذلك على وسامته ، وصغر سنه . قوي البنية ، مفتول العضلات ، قصير القامة ، يرتدي جبة أفغانية . تطورت العلاقة بينهما ، وأصبح يستوقفه أمام المسجد بعض الوقت ، عندما ينتهيان من الصلاة ، وقبل أن ينصرف إلى بيته .
أخبره بأنه يسكن في حي بعيد ، وأنه يأتي في بعض الأحيان رفقة جماعة من أصدقائه ، يمتطون دراجات نارية ، لأنهم يفضلون الصلاة خلف إمام ورع وتقي ، ثم سأله :
ـ ما اسمك يا أخي في الدين ؟
استغرب احميدة للعلاقة الجديدة التي تطورت بسرعة إلى أخوة بين شخصين لا يعرفان بعضهما ورد بحياء !
ـ اسمي احميدة ولد عبد الله ، وأنت ؟
ـ عبد القادر ولد الهاشمي .
يبدو أن تصغير الاسم الشخصي لم يعجبه ، فعلق على ذلك بجرأة نادرة :
ـ يستحسن أن أناديك بأحمد وهو اسم من أسماء الرسول عليه الصلاة والسلام و تصغيره فيه نوع من الاستهزاء .
رد قبل أن ينصرف وهو يبتسم :
أحمد أو احميدة او حميد أو محمد أو موح كلها أسماء متشابهة تحيل على نفس المعنى . أعدك بأن أزور والداي في الأسبوع القادم وأقترح عليها تعديل اسمي ربما يذبحان خروفا وستكون من الضيوف !
ورغم ذلك تطور الحديث بينهما في مناسبات لاحقة حول الأئمة ، وتصنيفهم إلى ثقاة يعملون لآخرتهم ، و(شياطين) يعملون لمصلحة الحكومات ، ومن خلفها من الطغاة . وفي مرة أخرى اقترح عليه الذهاب معه لأداء صلاة الجمعة في دوار يبعد عن مقر سكناه بحوالي ثلاثين كيلومترا ، يؤم إليه العديد من المؤمنين الشباب ، رفقة أمهاتهم ، وزوجاتهم المتشحات بالسواد ، وعندما اعتذر لأنه لا يتوفر على وسيلة نقل ، عرض عليه أن يتكفل بالأمر .
فكر مع نفسه بأنه لن يخسر شيئا إذا حاول اكتشاف هذا العالم الجديد الذي أغرى العديد من الشباب حتى أصبح صيحة العصر في البلد ، وسيطر على الكثير من مقاليد السلطة والإعلام .
عندما دخل المسجد أحس بغربة قاتلة ، فهو الوحيد الذي يختلف عنهم في اللباس . ولولا وجوده برفقة عبد القادر ، لشكوا بأنه أحد الجواسيس الذين يعملون مع المخابرات .
بعد انتهاء الصلاة ، وعودتهما إلى المدينة ، وقبل أن يودعه ، اقترح عليه عبد القادر أن يزورا في المساء بيت أمير الجماعة ، ليستمعا إلى درس حول الجهاد يلقيه شيخ شاب خريج إحدى جامعات الشرق . وبدأ يعدد له مناقبه ، والشواهد التي حصل عليها ، والمناظرات التي أفحم من خلالها كبار أعداء الإسلام في الداخل والخارج ، ثم عرض عليه بعض الشروط :
ـ طاعة الأمير واجب شرعي ، والالتزام بطريقتنا في التدين ، والانخراط والمساهمة بمائة درهم شهريا للنهوض بأعمال البر التي تقوم بها الجماعة ، وتغيير الهندام العصري الذي ورثناه عن الكفار بسروال (وقشابة) من النوع الأفغاني ، والشرط الأخير هو أن يبقى الأمر سرا بيننا .
فطن احميدة إلى الفخ الذي يُنصب له ، وأراد أن يقطع شعرة معاوية ، قبل أن يغرق في بئر بلا قرار ، فرد بامتعاض :
ـ كل واحد وهَمُّه . هل تعلم أني لا أحتمل أن يفرض علي أحد شروطا . وأني أصلي حيثما شئت ، ووقت ما شئت كما يفعل باقي المغاربة . ولا دخل لك ولا لغيرك في ذلك . وأن الجلباب الذي أرتدي من صنع محلي ، ورثه أجدادنا قبل أن يعرف شيخك أين تقع افغانسان . وهل سبق لك أن سألت كيف كانت افغنستان قبل أن يدخلها أصحاب شيخك ويخربونها .؟ (دخلت عليك بالله إلى ما سير بدل الساعة بأخرى ) قبل أن نجمع الناس حولنا .
لم يكن يتوقع أن يسمع كلاما بهذه الحدة . احمر وجهه وأحنى رأسه وانصرف وهو يجر ذيول الخيبة .
تمنى احميدة أن يكون قد وضع حدا لورطة حب الاستطلاع هذه . فهو إذا استمر في ذلك سيجد نفسه كمن يغرق في مستنقع . وقد يتم توريطه غدا عن وعي أو غير وعي في إحدى العمليات الإرهابية ، وما أكثرها هذه الأيام ، فيُغرق معه فاطمة وسعيد . ومن يدري ؟ قد يستغلون تدهور وضعها بعد استشهاده أو دخوله إلى السجن ، فيطلقون عليها إحدى الداعيات ، ويلبسونها السواد ، ويقدمونها هدية لأحد الأتباع ، ويوهمونها بأن ذلك أيضا نوع من الجهاد ، وقد سموه في الشام والعراق بجهاد النكاح ، وأنه طريقها المفروش بالورود إلى الجنة .
رجع إلى عادته القديمة ، يزاوج بين الصلاة في المسجد والصلاة في البيت حسب ما يمليه عليه مزاجه .
تسرب إلى نفسه شيء من الخوف ، وتساءل كيف نسي بأن عيون المخابرات والشرطة السرية لا تنام . تراقب وتحصي حتى الذباب الذي يسقط في كؤوس الشاي ؟ تخيل نفسه نحلة كادت تسقط في كاس شاي ساخن.


مراكش صباح 18 أكتوبر 2019


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى