مصطفى الحسناوي - أطروحة الحصان

أياما بعد إيغاله في بياضات الصمت والجنون عانق نيتشه الفيلسوف الألماني حصانا في إحدى ساحات مدينة طورينو يوم 3 جوان 1889. نعلم بأن ذلك اليوم كان حاسما في حياة نيتشه وفلسفته لأن سيصمت نهائيا طيلة عقد بأكمله قبل أن يموت على عتبة القرن العشرين. عاد إلى حضن أمه في فيمار التي قالت حينها بأن من حسنات الجنون هو أنه أعاد إليها ابنها من فوضى التيه. بكى نيتشه حين رأى الحوذي يلهب بالسوط ظهر الحصان، ثم سقط ككتلة جامدة بعد ذلك. تاهت نظراته في قارة أخرى غريبة وظلت العربات التي تجرها الأحصنة تتفاداه. حين عانق الفيلسوف الحصان ظل الحوذي ينظر إليه مندهشا والسوط معلق في الهواء. انهمرت دموعه لتغمر عنق الحصان. أي أخوة فادحة ربطت حينها بين الفيلسوف الباكي المتأثر والحصان الذي ظل واقفا؟. لن يكتب نيتشه شيئا عن هذه الحركة الغريبة، سيدمن الصمت ولن يقول شيئا أبدا بعد ذلك مدة عشر سنوات حتى وفاته سنة 1900. هل كان هذا الصمت/العزلة الغريبان، صمت قرن انتهى؟. نحن لا نعرف في الحقيقة من الذي بكى الآخر هل هو نيتشه أم الحصان، وإذا كنا نعرف أشياء معينة عن الفيلسوف فنحن لا نعرف أي شيء عن الحيوان. إنها الوقائع التي حدثت في ذلك اليوم الفارق في طورينو. يوم 17 ماي 1914 كتب الكاتب التشيكي المقيم في براغ فرانز كافكا في مذكراته شذرة طويلة تضمنت حديثا عن ظهور حصان في ثنايا ما يشبه حلم يقظة بدأها بالحديث عن بقائه وحيدا في المنزل مع أبيه بعدما سافرت أمه وأخته إلى برلين، وبدا له أنّ أباه خائف من الصعود لتناول العشاء معه. هل يلزمني لعب الورق معه؟ يتساءل كافكا. (ظهر لي الحصان الأبيض لأوّل مرة البارحة قبل أن أنام. أعتقد بأنه خرج أوّلا من رأسي الذي كان وقتها مستديرا نحو الجدار، وأنه قفز أسفل السرير، فوق جسدي، ثم غاب بعد ذلك)، لكن السطور السابقة على هذا المقطع لا تترك لنا أي شك حول هوية هذا الزائر، إذ ظهر الحصان الأبيض أوّل مرّة في منتصف إحدى نهارات الخريف في شارع مقفر في أغلب الأحيان. خرج من ممر بيت كان فناؤه مليئا بمخازن شاسعة لشركة نقل، وكما يحدث دائما فإن حصانا أعزلا، حتى لو خرج مخترقا الممر فإنه لا يثير الانتباه، إذ لم يكن الحصان الأبيض ملكا للشركة. رآه أحد العمال الذي كان منهمكا في ربط أكياس البضائع بالحبال واقفا أمام الباب، رفع عينيه وجال ببصره في الفناء حتى يرى إذا ما كان الحوذي سيأتي للحاق به. لكن لا أحد أتى، حينها انتصب الحصان واقفا على رجليه الخلفيتين بنرفزة واضحة بمجرد ما وضع الرجل الأولى على الرصيف، قدحت بضع شرارات على البلاط، وفي لحظة مّا كاد أن يسقط لكنه استعاد توازنه، ثم صعد الشارع المقفر تقريبا ساعة الغروب وهو يخب لا سريعا ولا بطيئا. عبر العامل عن حنقه ضد ما اعتبره إهمالا من طرف الحوذي، ونادى على بضعة أسماء في الفناء، فتراءت بعض الرؤوس حين علموا بسرعة بأن الحصان غريب عن الشركة اكتفوا بالبقاء جنبا إلى جنب بمحاذاة الباب مندهشين قليلا، ثم انطلقوا بعد ذلك لملاحقته بعدما تجاوزهم بمسافة كبيرة وحين فقدوا أثره عادوا أدراجهم خائبين. بلغ الحصان أحياء الضواحي راكضا بلا توقف، وتآلف مع الحياة في الأزقة أكثر مما يستطيعه عادة حصان أعزل. خطاه البطيئة لم تكن تخيف أحدا ولم يكن يغادر رصيفه أبدا، ولا الأماكن الذي يسمح المرور فيها قانونيا، وإذا ما كان ضروريا التوقف بسبب مرور سيارة قادمة من شارع آخر فقد كان يتوقف، وحتى أمهر الحوذيين وأكثرهم دراية بفن سياقة الخيل، ما كان ليسوقه كما كان يفعل هو نفسه، بالقليل النادر جدّا من الأخطاء. منظر الحصان كان مثيرا وهو يتجول في الأزقة ويمخر الشوارع أعزلا محترما قواعد النظام الحضري، كأنه على درجة عالية من الذكاء، ومراعيا كلّ الأنظمة التي تحكم العيش في وسط مديني. كان حصانا استثنائيا. من يدري، قد يكون هاربا من استغلال أو خضوع مّا، متمردا على منطق الربح التجاري الرأسمالي في شركة مّا، أو هاربا من أب مّا، لن يستطيع، بحكم أنه حصان، أن يكتب له أية رسالة. الناس كانوا يتوقفون بين الفينة والأخرى ليتفرجوا عليه، يلاحقونه بنظراتهم مبتسمين، ضربه حوذي كان يسوق عربة مشروبات روحية بسوطه حين عبر بجواره على سبيل المزاح، فجفل قليلا وانتصب واقفا على رجليه الخلفيتين لكنه لم يسرع الخطو. ذاك كان الحادث الذي رآه رجل بوليس تحديدا، فتقدم نحو الحصان الذي حاول الذهاب في اتجاه آخر وأمسك بلجامه (بالرغم من أن الحصان كان قوي البنية فقد كان في فمه لجام مثل أحصنة الجر المنذورة للأشغال الشاقة) وقال له بشكل ودي: (توقف! إلى أين تركض؟). ظل ممسكا به للحظات وسط الطريق معتقدا أن مالكه لن يتأخر عن المجيء لاستعادة الحيوان الهارب. هنا يأتي حصان الحلم عند كافكا الذي يمرق من رأسه وهو مستدير الوجه إلى الجدار. لكن نهاية الحلم تختلف عن نهاية الوقائع التي سردها قبله، فحصان الحلم تماهى وخط الانفلات والهروب وحصان الواقع اندغم في خط الأسر. لاشيء يشير إلى أنّ كافكا كان على علم بالوقائع المشار إليها قبل الحلم، شركة النقل في عربات تسحبها أحصنة الجر، السوط، السقوط، الشرر المقدوح، لكنها كلها وقائع وردت في الفقرة الموجزة السابقة على الحلم، وسط الشارع وفي لحظة موجزة والرأس مسنود إلى الجدار...تلك الأحداث التي تسبق الأحلام، أو تمهد لها. قد تكون هناك مرئيات أخرى وأشكال ظهور متعددة، ضائعة بالنسبة لنا داخل ثنايا الهمس والهسيس، ممحوة في جوانية شهود مجهولي الهوية. ثم هناك حصان الطفل الصغير ذو السنوات الخمس، فيفريي وأفريل سنة 1908 في فيينا حصان الطفل الصغير الذي خلده فرويد تحت إسم (الحالة هانز)، والذي تطور لديه نوع من القلق الغريب اتجاه الأحصنة، وخصوصا تلك التي تصعد وتنزل عبر منصة التفريغ في المخزن المواجه لمنزل عائلته، جارة العربات. خاف هانز خصوصا الأحصنة البيضاء، خشى أن تعضه وأن تسقط لأنه رأى يوما أحدها وهو يسقط جارا خلفه العربة، سقط حين ألهب الحوذي ظهره بضربات السوط العنيفة، بعد أحدث فوضى عارمة وضجيج بصفائح حوافره. لم يعد هانز الصغير قادرا ولا راغبا في الخروج من منزل والديه، لكن أحد أصدقاء العائلة هرع للمساعدة، وصاغ لهذا القلق البسيط شكلا ومحتوى صار بعدها جزءا من تاريخ الطب النفسي. لقد حول خوف الطفل إلى فوبيا، عكف على تحليلها من خلال مجموعة من المقارنات والأمثلة، ليؤكد أخيرا بأن (الحالة هانز) هي عموما (قلق لا علاقة أصلية له أبدا مع الأحصنة) كما أورد ذلك في (خمسة تحليلات نفسية) التي ضمت رسما مضطربا لحصان من إنجاز الطفل موضوع الحالة، وفيه نرى العين واللجام والأشرطة الرابطة مصورة بسرعة بقلم رصاص. إنها أحصنة عابرة بين عالمين وقارتين وقرنين التاسع عشر والعشرين. أحصنة ترصد التحولات وتحضر نوعا مّا كشهود عليها. أحصنة النهاية والبداية. ما يتبقى إذن هي آثار قرن انتهى سرعان ما تغيب وتنمحي. ما يبقى هو أثر الجنون (نيتشه)، أثر الأرق ليلا (كافكا) وأثر الفوبيا (هانز)، والجغرافيات التي ترسمها والفصل الاستثنائي الذي يصاحبها، أي عند نهاية فصل الشتاء بين جانفيي وماي. لكن حصانا آخر سيأتي ليعوض الآخر، ويفرغ الإصطبلات ويترك جانبا اللجامات والأشرطة الرابطة التي كانت تخيف هانز الطفل الصغير. لقد عوضت آلات أخرى ديناميكية ومتحركة الأحصنة، ولم يتبق من الحصان غير أطروحة-حصان. يقولون في الفرنسية التعبير التالي: Etre à cheval entre deux، وركوب الحصان هنا يعني التنقل/الانوجاد بين شيئين، عالمين، قضيتين، قارتين إلخ...وهو ما يؤكد بالتالي أن الحصان كما الكائنات الأخرى في الواقع والأدب والفلسفة يظل مجرد أطروحة. لنستحضر أيضا حصانا تاريخيا وفلسفيا خلده هيجل الفيلسوف الألماني، حين أطل ورأى نابليون يعبر أزقة مدينة إيينا حيث يقوم الفيلسوف وقال لجلسائه: (أنظروا إن التاريخ يسير أسفل نافذتي على صهوة حصان). حين أتيت للإقامة في المدينة الصغيرة حيث قضيت الآن أكثر من عقدين، راعني العدد الكبير للأحصنة التي تعبر أزقتها وشارعها الوحيد، أحصنة من مختلف الأحجام والألوان تجر عربات نقل البضائع المسماة (كروصة)، وتجر عربات نقل الركاب المسماة (كوتشي). كان ذلك في الحيز الفاصل/الرابط بين قرنين العشرين والواحد العشرين. تندلق الحياة اليومية بإيقاع مرن وينعلن التجاور بين الإنسان والحصان والآلة بطريقة سلسة لا تقف أبدا عند التناقضات الظاهرة بين العربة التي يجرها حصان وسيارة الدفع الرباعي. لكن الأحصنة هنا، عكس حصان كافكا، لم تفر من قدرها لتمخر الأزقة بكل أريحية بل تظل طيلة النهار تجر العربات المثقلة بالبضائع والكوتشيات الملأى بالركاب، بينما حوذيون شبان يلهبون بطونها الضامرة وظهورها المتقرحة بالسياط لتركض بسرعة، أحصنة لا تأتي في الحلم بل تظل طيلة النهار تمخر الإسفلت صعودا وهبوطا، وتكتوي بلهيب الواقع بالرغم من أن بعضها طاله النحول والهزال ولم يبق منه غير الجلد على العظام. تعبر الأحصنة مثل استعارات خراب، أو حيوات مشوهة صحراء الواقع حيث تتعملق سلطة السيمولاكر، وحيث يصير الزائف الزمن الأساس للحقيقي. إنها أحصنة منفية في شقائها اليومي، طاعنة في النسيان، لا حلم يأويها. مرة وأنا جالس في مقهى تمتد أمامه حديقة خضراء طاعن في قراءة كتاب، توقفت ورميت ببصري بعيدا فأبصرت بالصدفة حصانا أبيضا وسط العشب الأخضر واقفا كأنه هو الآخر ينظر إلي. كان هزيلا جدّا ونحيلا، مجرد هيكل عظمي يكسوه جلد متقرح مليئ بالبثور والجراح، كان ينظر بعينين متعبتين وبين الفينة والأخرى يلتهم عشب الحديقة. بعدها رأيته مرارا يعبر الأزقة والشارع الوحيد، وسط أرتال السيارات والشاحنات غير عابئ بشيء شبيها بحصان دون كيشوت المتعب من كثرة أسفار صاحبه وهذيانه وجنونه. بدا لي أن الحصان الأبيض الهزيل قد صار منذ سنوات مهملا وسط حياة مهملة، بعدما وهنت عظامه ولم يعد قادرا على تحمل الأشغال الشاقة. من يدري لربما كانت الأحصنة التي تعبر الأمكنة في المدينة الصغيرة هي الأخرى مجرد أطروحة حصان. من يدري؟ قد يكون ذلك حلما...مجرد حلم. لكن المؤكد هو أن زمن الأحصنة هنا/الآن أو أطروحتها على الأقل لم ينته بعد. حتى والزمن راكب على صهوة حصان بين قرنين العشرون والواحد العشرون.



* نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 27 - 01 - 2014

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى