محمد فيض خالد - القمّاش.. قصة قصيرة

تراه وقد تربّعَ فوقَ عربته الكارو ، مهتز ّ الكِرش، يهشّ حماره العفي ، يُلهبُ ظهره بسوطهِ الجلد الطويل، تتدافع كلماته الحماسية ، تتواصل من فمهِ بنغمةٍ رديئة غير مهومةٍ، يُحذِّر الصّغار من التعلق بها ، يهزّ رأسه الكبير ، يرمي بنظرهِ بين الحينِ والآخر للوراءِ؛ يطمئن على بضاعتهِ ، صُرر القماش الخام حزّمها في طريقهِ للسّوقِ ،. كما تعوّدَ أن يفعل عند كُلّ اسبوع ، ورث المقدس " عزرا" مهنته عن أبيهِ الخواجة " فلتس" ، الذي استوطن القريةَ منذ عقودٍ طويلة، قالوا بأنّه قدِم من قريةٍ من قُرى المنصورة بوسطِ الدلتا ، بدأ حياته صبيا يافعا ،يحملُ صُرة القماشَ فوقَ كتفهِ ، يجوبُ بهِا النجوعَ والكفور في الزِّمامِ ، رويدا رويدا انتعشَ حاله ، وأصبحَ من كبارِ التُّجارِ ، كما ذاعَ صيته كمرابي شهير صاحب مال وفير ، آلت ثروته من بعدهِ لابنهِ الوحيد " عزرا " الذي سَارَ على نهجهِ واستنّ بسنتهِ ، لكن وعلى الرّغمِ من وفرة مالهِ ، ونماء تجارته واستقرار معاشه ، يشعر بحسرةٍ في قلبهِ، وكمدا في نفسهِ يُخفيه ، حتى عن اخلص أصحابهِ ، لم تستطع " تريز" الفاتنة اللّعوب ، زوجته التي أتى بها من بحري بعد حبٍّ عصرَ فؤاده ؛ أن تهبه من يُخلّد اسمه من بعدهِ ، أو يرثهُ كما ورث أبيهِ من قبل ، ما اضطره رغم بخلهِ الشديد ، وحرصه الذي أصبح مثلا يُضرب ، أن يتجرأ فيحلّ كيس انفاقه ، فيراجع الطبيب مرارا وتكرارا دون مللٍ ، عبثا يتلاشى أمامه شعاع الأمل في كُلّ مرةٍ ، ولما استيأس رضي من حظه حتى أصبحَ قدرا مقدورا ، لم يُخبر " تريز " ببلواه ولا زيارات الطبيب الفاشلة ، يلاحق اسئلتها المتكررة، وهي تطلب بالحاح ابنا يملأ عليها فراغها ، لكن كانت إجاباتهِ معروفة : لقد كتب لي صنفا من الدّواءِ جديد ، ولابدّ من الصّبرِ ولزوم الراحة ، وكأنّ" تريز" في كلامها كانت على درايةٍ بخبيئةٍ زوجها ، لكنها اخفت عنه سرها، واشغلته بأسئلتها التي كانت تحرق كبده في كُلّ مرة ٍ.
وفي يومٍ من أيامِ شؤومهِ ، صحا من نومهِ على صوتها تتلوى ألما ضربَ بطنها ، وبكاءٍ كبكاءِ الأطفالِ ، رقّ لحالها ورحم آهاتها ، فحملها على عجلٍ للبندر ِ عند الطبيبِ المختص ، وبعد الكشف تهلّل وجه الحكيم الذي خلا بهِ جانبا، انفرجت أساريره ، وهو يقول : مبارك يا خواجة اشهرا قليلة ، ويشرف ولي عهدك ..
هاجت نفسه مع كلامِ الرجلِ ، قبضَ بقوةٍ على المقعدِ، تناول الوصفة من يدهِ في صمتٍ ، اشاحَ بوجههِ العابس بعيدا عنها ، وهي تلملم خصلات شعرها الأحمر في ذهولٍ تحت عصابتها الزرقاء ، رماها بعينٍ حارقة ثم انصرف َأمامها دون أن ينبث بحرفٍ ، اخفت " تريز" عنه حبا قديما نبتَ بينها وبين ابن خالته الأعزب، وعبثا حاولت كتمانه، لكن آنَ أوان أن يظهر في بطنها المنتفخ ، وجنينها المُتخلِّق منذ أسابيع ، وبينَ عشيةٍ وضحاها هَجَرَ " عزرا " القريةَ ، باعَ البيتَ والدُّكان ، رَحَلَ وحيدا بعد أن ضحى بحبِ عمرهِ ، صارع فكره أيامًا صعاب ، يتخبّط كالمجنونِ في مآلهِ ، سأل نفسه سؤالات كثيرة : كيف هان عليها فلوثت شرفه ، وعصفت ببراعمِ حبهما الغضّة ، وكأنّ حُبا لم يكن ، استقر في قلبه ، فعمدَ إلى أن يُزهقَ روحها ثم علقَ جسدها بحبلٍ ، في طرفهِ حجر وألقى بهِا في الترعةِ الكبيرة ، ليغيب للأبدِ.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى