جبار النجدي - الشاعر جبار الكواز في ورقة الحلة.. براعة الشعر في متاهة الأمكنة

يتطلب تصفح الشعر لمشارب المكان في مدينة الحلة، أن يستدعي الشاعر (جبار الكواز) في مجموعته (ورقة الحلة) أمكنة المدنية من جهات مختلفة، في الوقت الذي يسعى إلى جعل موجودية الأشخاص في المدينة بمستوى موجودية الأمكنة، وبذلك يكون الشعر موصولاً بالأمكنة والشخصيات، لاسيما تلك الشخصيات التي أستلبها الزمن وأبطل قواها، وتلبية لهذا الأمر فأن المعنى الذي ينفلت من أصل مكاني يلحم بين حديّن ويوائم بين حالتين، وببلوغ الشعر النقطة الموصلة بين هاتين الحالتين، يحقق الشاعر المقاربة المطلوبة التي تجعل المدينة والإنسان يلتقيان في موضع مشترك، ومثلما يشترط الشخص مكاناً يشترط المكان شخصاً، ولذلك فأن الشاعر (الكواز) يقابل بين ذاكرتين، تشتغلان على عالم الأشخاص المتضمن في عالم الأمكنة، فالشعر الذي يملأ أبعاد المكان يقترن بالأشخاص الذين لهم صلات شعرية بالأمكنة المفتوحة على افتراضات الشعر، وتبعاً لذلك يكون المكان متكلماً، في حين يعبر سلوك الشخصيات في المجموعة عن الشعر الناطق بالأمكنة، وبالتالي فأن كلاهما يستسلم لمشيئة الآخر:
تدور المقاهي عليه، عباءته فرط نجوم
وكوفيته مصيدة للفراغ/عقاله إنشوطة
درب الفحامين/في أقصى الساحة/شعراء
مرد وحشاشون بلا أغطية / شرطة يتناسلون
كفئران الصحراء
تستعير مجموعة (ورقة بابل) سياق وشكل النص الطويل الذي لا يبدو بهيئة النص الواحد، وإنما تتملكه نصوص عديدة على صورة العنقود الذي يشترك كل جزء منه في جزء آخر، على الرغم من أن هذه النصوص تمحو بعضاً من نفسها، لتبيان دلالة ما يجاورها من ترسيمات مستطيلة الشكل تعمل على أن لا تكون مفرغة من غرضها، وأمر حتمي أن النص ما كان ليوجد بدونها، لاسيما وأن النص يكتسب ذاته بتعدده ليسمح لنا بالقول: أن مدينة (الشاعر الكواز) المطبوعة بشخصيات سكانها تتمتع بأهلية إنتاج الشعر، مثلما يتمتع الشعر بأهلية إنتاج المكان فكلاهما ينتج الآخر سواء بسواء، أن بوسع الفعل الشعري في النص أن يطرح نموذجاً مزدوجاً لشخصية المدينة انطلاقاً من شخصياتها وأمكنتها المتعددة الأبعاد، وبذا فأن النصوص قادرة على الحركة في كل اتجاه، حاملة المشاعر المتولدة من طبيعة المكان، والتي لا تتساوى في المرتبة، فيعضها يهتم بمسألة السمو بالمكان وشخصياته إلى مرتبة الدلالة، في حين يهتم البعض الآخر بالذكرى المصحوبة بشيء من الافتراض الذي يعلن عن إضافة مساحة جديدة للنص، تتيح للشاعر اللعب على فكرة النسيان المصحوبة بالذكرى، فالأمكنة وشخصياتها قد وضعت تحت طائلة التغيير الزمني، إلى الحد الذي يجعل نسيانها نوع من تذكرها، ولعلنا نجد ذلك في نصين مهمين في المجموعة هما: (ساحة العيد) و(الياهو حسقيل):
- كيف ننام اليوم
والمزامير احترفت لعبة العيد
وارتدت حلة الأراجيح
من أقرأها طلسم الفرح
وأوقد في نخلتها ضحكتنا
- من علّق مزمار البدوي هلال العيد؟
- ترابها كحل
وماؤها كوثر
حجارها ذهب
وحصاها كنوز
ثم يكشف لنا الشاعر (الكواز) شخصية (الياهو حسقيل) عبر وصف دلالي قصير في الترسيمة المجاورة للنص فيقول (مجاوراً لطرشي "شرارة" مازال يأتي منتصف الليل يتفقد أشباح السوق):
بنظارته الذهبية
على كرسيه الذهبي
على سلالم (دكانه) ذي الدكات الذهبية
- أين هو الآن؟
- من يذكر ما صاغت كفاه لنساء مجهولات
سوى قلائده الذهبية
يتباهين بها وسط قبور الجيران
وهكذا تصبح الأمكنة الموصولة بالشخصيات ممكنات توليدية للشعر، لكن التشفير الدلالي يعلن عن وجوده المكافئ لأنظمة المكان، ونتيجة لذلك تتضاعف صعوبة حضور المعنى الموزع بين اتجاهين، الأمر الذي يفرض المباعدة بين أشارات حضور المعنى لأشخاص افترقت فيهم المواقف وتفاوتت بهم الأيام وأوغلت أمزجتهم في سنوات انتظار الموت، وبين ما خلفته الأمكنة الآفلة من دلالة تجاه أمكنة وأشياء تغيب وتُفتَقد، ولهذه الاعتبارات فأن تقدم الشاعر (الكواز) نحو المعنى يجعله بعيداً عنه، فالأمكنة والشخصيات غائبة تماماً وهي بغيابها تعبر عن نفسها وسواها، محققة هويتها بمحو نفسها، مما يوجب إنتاج مختلف من قبل الشاعر للمعنى الذي يضمر أمراً لا يبديه، وبالتالي لا يمكن معادلته بشيء آخر، مثلما لا يذعن للازدواج والعبارة الجامعة، ولهذا نلاحظ أن المعنى في نصوص المجموعة هو ما يغيب من الأماكن والشخصيات، وفي ضوء هذا الشرط فأن المعنى هو الظهور العيني للشعر، الذي يوقظ إحساساً متخفياً، تبعاً لتحول أمكنة المدينة وشخصياتها من طور إلى آخر، وانطلاقاً من ذلك اعتمد الشاعر (الكواز) تلك الشروحات لمعاني النصوص المؤطرة بالمستطيلات على شكل ترسيمات تقف بجانب كل نص، ففي قصيدة (ساعة البلدية) لا يعد الإعلان عن الشروحات المجاورة مفسدة للنص طالما استخدمت بوصفها ضرورة لإثارة وعي استجابة القارئ:
صمتها أفزع الحمام
فانهمرت أجنحة الضوء
بشارات ظلام
من يقرع ورد الشمس؟
ويوقد خبّاز الروح
سواها في منتصف الأحلام
ويوضح الشاعر في أشارته إلى ما يمثل من دلالة في هذه الساعة، عبر محتوى ترسيمته المجاورة التي تقول (نائمة منذ ثلاثين سنة).
وتكشف الترسيمة المجاورة لنص (سينما الفرات الصيفي) عن معنى تم استبداله بذكرى تتعلق بصالات العرض السينمائي التي أصبحت في حكم الماضي ومن مخلفاته التي توحي بالسرعة التي يجري بها الزمن، وعلى الرغم من أن عبارة (صمون، وعنبة) التي احتوتها الترسيمة هي عبارة عن وجبة طعام شعبية وسريعة، إلا أنها كانت فيما مضى أحد مكملات العرض السينمائي، فهي لا تختلف بشيء عن مكملات العرض الأخرى مثل: ظلام قاعة العرض وشخصية حامل (التورج) (اللايت) وهو دليل الزبون المتأخر إلى كرسي جلوسه وغيرها، وبذلك تكون تركيبة الجملة الواردة في الترسيمة استكمالاً لدلالة النص الماثلة في المكان:
- مدافع نافرون تقصف قلعة صالح
- هاملت يقبل عبلة
- هتشكوك طيراً في سماء الدخان
- (عليا وعصام) ضيوف الحلة هذه الأيام
- أحدب نوتردام ينام تحت الجسر
إن محتوى الترسيمة التي تقف بجوار النص وموازاته، تحيل إلى وظائف متعددة، تمثل تتمات منفلتة خارج النصوص، ولعلها تماثل الدور الإنشادي للكورس في المسرح في أداء وظيفة التعليق، لكنه لا يجري هنا على ما يستجد من أحداث وما يقوم به هو الكشف عن الوجه الآخر للإضافة لتعزيز بنية الدلالة في النص، أن محتوى ترسيمة نص (الرسام شاكر الطائي) يظهر بلاغة التعليق على المتن (احتفل المثوى باللوحات وشاكر مبتسماً مات) أما متن النص فيتقن وظيفة استبدال المعنى بذكرى بعيدة:
لوحاته بلا عكاز
ألوانه تطير في السماء
يقتنص الكرى طيراً ويفتح الظلام
مازلت أراه يسبح بين الصبية
منتشياً
واللوحة فارغة منه
في الأحلام
إن اشتغالات الشاعر (جبار الكواز) في مجموعته (ورقة بابل) تُعد من المعالجات الشعرية العميقة لجزء من السيرة الذاتية لمدينة، لكنها في ذات الوقت تمثل تحريات مكانية موصولة بالأشخاص ومجللة بطقوسية الحياة والموت، وهي من منظور آخر مفارق بحث في معنى العلاقة لصورة الانقسام في النصوص التي كان بوسعها أن تجمع بين الأمكنة والشخصيات ليعبر كل منهما عن نفسه بسواه.


https://www.facebook.com/photo.php?...IBeqSFfm2HeVWfQ20r3ygyiaeDb0xuHVsjoJSDUnqekbf
L’image contient peut-être : 1 personne, lunettes et gros plan
https://www.facebook.com/photo.php?...CSIOWEIwKJyKebOEoPs8gPmZIloJ9U1YfaJkMkeeiwkVk


8

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى