محمد المهدي السقال - حكاية رجل كالطَّوْد

في غرفة عمي ذات خريف :


لا تخفي عيناه كلّما تحسَّستا ظِلَّ صاعدٍ إليه، ما يُضمرُهُ بسبب التناوُب عليه في تفَقّدِ أحواله بين الساعة والساعة، في مواجهة تساؤل أصحابي عن اعتكافه الذي طال أكثر من عشر سنوات،لا أجد أشبهَ بِعمِّي المعتزل في غرفة السطح، غير أبي العلاء المعري رهين المحبسين، أقتربُ من العتبة دون افتعال تلك الكحّة المتقطعة إيذاناً بوصولي، قال لي في المرة الثانية: صرتُ أعرفك من رائحة خطواتك.
ظلّتْ أمّي عنيدةً في مُصالحته لآخر لحظةٍ في حياتها، غير أنّها لم تذكُرْهُ أمامنا بسوءٍ يُكَرِّهنا فيه، سمعتُها تنتفضُ في وجه أبي مُتوسِّلاً إليها برحمة عزيز قوم ذُلّ: كيف يكون ذليلاً واسمُه على كل ألسنة المدينة إلى الأطراف؟ لا أدري إن كانتْ تعيِّرهُ في خُلْوة الليل، بما صار يظهر عليه من تراجُع عن الحلم بالتغيير الذي عهدناه مُتعلّقا به.
دعاني ذلك المساء إلى جانبه ، بعدما كنت أتَّخِذ الركن تحت النافذة مُقْـتََعَداً لمُجالَسته، سألتُه يوماً عن توجيهي إلى ذلك الموقع بالذات، رغم تسلّل المطر من بين شقوق الإطار، صمتَ كثيراً ثم قال: من خلال صوتك أتلمّس خيوط الضوء في العتمة، كثيرة هي عباراتُه التي لم أفهمْها إلا بعد رحيله.
- طال صمتُكَ يا عمّي ، متى تخرج للناس؟
أطرقَ برأسهِ وهو يتلفّظ حروفاً لم أستبِنْها، يفهم أنّي قصدتُ استفزازه للعودة إلى حكْي ظروف إخْلاءِ سبيله بعد الذي صار.
أسرّ لأبي أن أنه وقع على محضر بخط اليد، يلتزم فيه بعدم التفكير في كتابة مذكراته ، ناهيك عن الانتقال إلى التعبير، حلّفوهُ على المصحف و سجّلوا عليه تصريحاتٍ بالشّرف و نذوراً بتحريم أبنائه عليه، إن هو تجرّأ على تدوين سيرته،
في حوار بينهما ، سمعتُ أبي يحكم ببطلان القسم و التصريح بالشرف والنذور، ما دامت عهوداً تحت الضغط والإكراه، لكن عمّي ظلّ منسجماً مع ما وعد نفسه به، إلى حدود ذلك المساء.
- سأحكي لك ، وأنت تتولّى صياغة الكتابة، ألستَ تقول بأنك مفلح في السرد؟ اُكتبْ، وكرّرها للمرة الرابعة حين عمّ سكون يعكس تردّدي، بينما أخذتْ تتكوّم بجبيني قطرات أستبق مذاقها المالح كعادتها حين تنساب بين شفتيّ.
- اُكتبْ ، فزمانه قد ولّـى.
ثم استدرك مُتوجساً ما يمكن أن أفكّر فيه:
- رغم أن الكفر ملة واحدة.
كان ضمير الغائب عائداً دوماً على الراحل إلى حيث نرحل في نهاية المطاف، لم أجرُؤْ على مساءلة عمّي، كيف يرفض مثل أبي تصديق حكاية التحول فجأة من زمن الرصاص إلى زمن الممكن؟
اعتذرت عن الكتابة اليوم، بدعوى حاجتي للنوم باكراً، جال مبتسما بعينيه المطفأتين في مساحة سقف الغرفة، ثم استلقى على ظهره دون تعقيب، قبّلْتُ يدَه اليُسرى قبل الانسحاب، لم يُمانعْ مثل أبي الذي كان يدفع لي بيمينه خوفاً من الشيطان.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى