إشبيليا الجبوري - هادي العلوي.. الزاهد العضوي على الطريقة التاوية

(1-3)

"ماذا سيكتب هادي العلوي حيال محننا؟ تساءل أحد أصدقائه اليساريين القدامى، مضيفا إجابة مقتضبة: ربما سيكتب عن ما نفكر به، بأن أفكارنا تحسنت، لكننا نواجه أيضا مآزق متعددة وكثيرة في حياتنا.. ولهذا سنحتاج إلى مزيد من الوعي المنظم". بهذا أصنف تصريح صديقه الذي يجلس في زاوية الدار، ملتحفا بعباءته الخشنة المصنوعة من الكتان، ذات اللون الترابي الغامق.
اليوم من عام ١٩٩٨، أعلن عن نفسه “يوم الزاهد العضوي عن العلوي هادي” ، وأفتتح سائر حوار: مسارات الزاهد العضوي في الفكر”. وكان ٢٧ من سيبتمبر لحظة لا لبس فيها، لتسيط الضوء من جديد على حياة وأفاق أعمال “الزاهد العضوي”، لا على (طريقة غرامشي في مثقفه)، بل على ( الطريقة التاوية). في كل عام من هذا اليوم يعلن أقامته حداده، أحياء لموته، الخريف الذي يعلن موت الزاهد العضوي، مثقفا عضوياحذاقا، جامحا بشغفه، عنيدا بنيره وبساطته، ورعا زاهدا، أنموذجا للمفكر الحريص على أخيه ألانسان ومصيره الكوني، وعن التحولات التي أجتاحت تنهيب ذاته بالشهوات، والمكابد التي أخذت تنتفض بالجوع و تتمرد في اضطرابات. إن الطاقة وشذرات الحماس اللذين أحاطا بهذه المناسبة الخاصة بالزاهد العضوي/ هادي العلوي، والتي أجريت في بيت لصديقه في لندن، حين كان زائرا له مرة، والتأمل الفكري والحوار العادي، والنظرية والممارسة، وهذه ميزة تاوية محضة، وميزة ظاهرة عند الزاهد العضوي، المفكر العراقي العلوي، هادي، التي تم عليها تسليط الضوء على المفكر الخلاق متبحر في الورط ومحنها.
تبعته رحلة للتعرف على حياة المفكر العراقي العلوي هادي أو الزاهد العضوي، "كما أسميناه"، تميزا عن غيره "غرامشي ومثقفه العضوي"، التعرف على حياته الأولى، وتحولات سكنه وأقامته، ثم العودة إلى دراساته من أجل نزهة العقل والمعرفة، وطبيعة ما يتنزه به سيرا على الأقدام في أشتداد المحن. مغطية دراسته وسفراته خارج العراق، لأغرض الدراسة.. ومنها السياسية، وعن المنزل الأخير الذي سكن حتى أخر أيامه، في إحدى غرفه مع أهله، ومكتبته، وما كان يفضل له من شح بفائض طمأنينة الرضا، رغم الوضع القاسي في الشام، وطبيعة تورط الأقدار بمحن من حوله صحبة، يمنح ولا يأخذ، متقشفا، يرفض من يعطيه شيئا، لباسه البسيط ظل طويلا لم يفارق تقشفه، زاهدا، كريم النفس، يهطل علما ويزخر ثقافة بمهجة لا تكل ولا تمل من متعة التنوير الصافي بكل كلماته وشكيمته وهدؤ بساطته في الحوار وتواضعه عند السماع.
في تلك اللحظات لا أحد يستطيع مقاومة الاستفسار والمشاكسة بالتساؤل، عما كان يمكن قوله عن (الزاهد العضوي) عن محنة الواقع، مأزق حاضر المنطقة، وكيف قراؤها من زاوية تجديد نقد خطاب التراث، وكيف سيقرأ حقيقة الوعي الاجتماعي لواقعه عن متغيرات المنطقة العربية والأسلامية، وبالقليل الذي تعلمناه منه، تخليناه يحضر، بالإجابة "ما الذي أعرفه. أحتفظ بحكمي على نفسي، أما بالنسبة إلى العراق والمنطقة والاسلام، فالأمر متروك للذين يعرفون التفاصيل الدقيقة عنه". هذا متخيل مجازي. نفاجأ أنفسنا به، ربما، ذلك لفتوة وعينا وإطلاعنا.
لكن رؤى وتطلعات المفكر الكبير (هادي العلوي) كانت تستند إلى اطلاع عميق على خفايا ما يدور بالمنطقة والمجتمع وثقافته التابعة. وكان إصراره على نبش الخصوصيات التاريخية، وأختلاط الهويات، هو الذي قاده إلى الانفصال نظريا عن "الحتمية الاقتصادية للاممية"، وأستراتيجيات الثورة العلمية الغربية للتاريخ، وقيادة دفة الصراع الأممي، نقده الماركسي المباشر على النظرية والتطبيق البولشفي والثورة التروتسكية التي يميل على تحليل التاريخ بالاخفاقات، أو اضراب روزا لوكسيمبورغ العام، لا يقلل من شأن أهميتها، لكن ليس مفتاحا سحريا، عن الحتمية الأقتصادية للأممية، بحسب الادبيات المعلنة، بل، وضجره من الصورة الوصفية لمجتمع يتألف من البروليتاريا والبرجوازية تهيمن عليه الدولة والطبقات الحاكمة. وقدم نتاج مخاض عن دراسات وتجليات، ضمنها بمهارة الاسلوب، تحليلا فاطنا ذكيا للطبقة الوسطى وطبقات أجتماعية أخرى، وأعادة دراسته العلاقات بين الدولة والمجتمع من عمق فلسفة الشرق وتاريخ الصراعات فيها، منبها، ما قدمه، منظورا جديدا للثورة أحتلت فيه الثقافة موقعا محوريا جذبا لتطوير آلياته. ورفض النموذج البولشفي للهجوم المباشر أو الاستيلاء على السلطة كأستراتيجية للثورة (تجربة الحزب الشيوعي العراقي) أو تجارب الاحزاب الشيوعية في امريكا الجنوبية اللاتينية، أو، حتى الاوربية منها، بمبررات الهيمنة الرأسمالية في أو ربا او أمتداد مخالبها داخل هرم السلطات في دول العالم الثالث، وأختراقها مجتمعاتها المدنية، وفي الحقيقة أستمدادها عن القوة في ذاتها؛ في التجمعات النقابية للعمال والجمعيات المدنية والأحزاب السياسية والدينية. وتصور العلوي هادي، أستراتيجية بديلة هي مواجهة المواقع، فتح مجال العقل على نقد التراث، كالتراث الأسلامي، على سبيل المثال، الذي قام بحفريات عظيمة، بكشح الغبار عنها، من عقول الاستغراب من العرب، حصريا. تلك البدائل في أعادة مواجهة المواقع، والتي يعمل عليها الثوريون بمقتضاه على كسب المجتمع المدني؛ من خلال الصراعات الثقافية والأيديولوجية، وعلى تحويل الأفكار التحررية إلى شعور عام، ومن ثم يعملون طيلة الوقت (ثورة ثقافية) كي يحولوا الدولة.
* اكاديمية، عراقية الاصل، بريطانية الجنسية


ترجمتها عن الالمانية: أكد الجبوري
العالم الجديد




إشبيليا الجبوري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى