حنان حلبوني - نبض.. قصة قصيرة

- اسمك الثلاثي؟
- غضبان عذاب الغضبان.
- اسم الأم؟
- عمشا المفتّح.
- مكان وتاريخ الولادة؟
- دمشق 1938
- المهنة؟
- حفار قبور.
- العنوان؟
- مقبرة الدحداح.
- عنوان السكن وليس العمل!
- نعم، السكن وليس العمل؛ أسكن في غرفة صغيرة في مقبرة الدحداح أنا وزوجتي.
- طيب يا سيد غضبان، منذ متى وأنتَ تعمل في تجارة الأعضاء البشرية؟
- سيادة المقدم، أرجوك اسمعني، أنا لم أعمل يوماً في تجارة الأعضاء البشرية، ولا في أيّ تجارة أخرى، أنا يا سيدي عبدٌ فقير، من الحيط للحيط ويا ربي السترة.
- وماذا تعمل إذن؟
- يا سيدي أنا حفار قبور، أكسب رزقي من هذا العمل وليس لديّ أيّ عملٍ آخر.
- وماذا تقول في ما وجدته الدورية في التابوت ليل السبت الثاني والعشرين من تموز؟
بدأت معالم التوتر والذعر ترتسم على وجه غضبان، وبدأ يرتجف ويتأتئ ويفأفئ، ازداد إصرار المحقق على انتزاع الاعتراف من بين شفتيه ولو اضطره الأمر إلى استخدام أساليب أخرى، لكن غضبان أصرَّ على اللفّ والدوران، فقال في محاولة التفافٍ وتذاكٍ:
- وماذا وجدت الدورية في التابوت؟!
- يبدو أنك لا تعرف من تجادل يا سيد غضبان، أنا المقدم هشام، مرّ من تحت يديّ هاتين الكثير من المجرمين، أكثر مما تتصور، فلا تتعبني واعترف بجريمتك، ليس من أجلي ولكن من أجلك أنت، اعترف قبل أن أنتقل إلى أسلوبٍ آخر لا تحبه ولا ترضاه ولا يناسب عمرك.
- يا سيدي أقسم لك إنني أجلّك وأحترمك، ولا أريد إتعابك، ولكنني حقاً لا أعرف عمَّ تتكلم، ولا أعرف ماذا وجدت الدورية في التابوت.
صرخ المحقق بأعلى صوته: مساعد جميل، يا مساعد جميل.
عندها فقط، انتفض غضبان وقال للمحقق بصوتٍ خفيضٍ راجف شبيهٍ بمواء قطٍّ موجوع:
- سأعترف يا سيدي سأعترف، لا تنادِ المساعد جميل أرجوك سأعترف بكل شيء.
- إذن هيا تكلم، قل لي ما الذي وجدته الدورية في التابوت؟ أخبرني كلي آذانٌ صاغية.
- سأتكلم، لكن من بعد إذنك أريد شربة ماء، فقد جفّ حلقي.
شرب غضبان جرعةً من الماء، ثم بدأ بالكلام:
- كانت ليلةً موحشة، لم يكسر هدوء الموت سوى أصوات المدافع، القمر في المحاق والظلام شديد، لم أستطع النوم فخرجتُ من غرفتي وتجولتُ قليلاً بين القبور، ثم صنعتُ كوباً من الشاي وجلستُ أشربه وأدخّن سيجارة، التفتُّ إلى مدخل المقبرة فرأيتُ أنوار سيارةٍ تتجه نحوي، ثم نزل منها رجلان، شعرتُ بالخوف الشديد، لكنني سرعان ما شعرتُ بالاطمئنان حين كشفتُ تفاصيل وجهيهما؛ إنهما ابنا صديقي ضرغام، اقتربا مني وفي يد أحدهما كيسٌ أسود، استقبلتهما وطلبتُ منهما الجلوس، ثم صببتُ لهما كوبين من الشاي.
- ثم ماذا حدث بعد ذلك؟ هل تريد مني أن أسحب الكلام من فمك سحباً؟
- سأخبرك بكل شيء يا سيدي، فقط اصبر قليلاً... ثم سألتهما عن صديقي ضرغام، فأدمعت أعينهما، وأخبراني بأنه توفي، حزنتُ كثيراً لأنه كان من أعزّ أصدقائي، وسألتهما كيف حدث ذلك؟ وأين هو الآن؟ هل دفنوه أم لم يدفنوه بعد؟ فقدّما لي الكيس الأسود وطلبا مني دفن ما بداخله، وحين فتحتُ الكيس وجدتُ قلباً بشرياً...
- إذن هذا هو القلب الذي وجدناه في التابوت؟
- أجل يا سيدي، هذا هو القلب الذي ظننتم أني أتاجر به.
- لم تكن تتاجر به، إذن؟
- سأقول لك كل شيء؛ القلب هو قلب صديقي ضرغام، وقد طلب مني ابناه أن أدفنه....
- وأين بقية الجثة؟
- سأخبرك ولكن دعني أشرب جرعة ماء.
- اشرب.
- لصديقي ضرغام قصةٌ عجيبة؛ بدأت منذ عام ثمانية وأربعين، حين انضم إلى المجموعات الفدائية وحمل السلاح ونزل إلى القتال، في تلك الفترة أصيب إصابةً شديدة وبُترت يده، لكن إصابته لم تقعده عن القتال ففي عام سبعة وستين ارتدى بزةً عسكرية وحمل السلاح بيدٍ واحدة وقاتل حتى فقد رجله، لكنه لم يستسلم بل استمر بالقتال برجلٍ صناعية، وفي عام ثلاثة وسبعين فقد عينه، لكنه لم يمتنع عن القتال واستمر بعينٍ زجاجية، ثم حمل السلاح عام اثنين وثمانين في لبنان وفقد رجله الثانية، لكنه لم يتوقف عن القتال.....
- المهم ما الذي حصل بعد ذلك؟
- المهم أنه بقي يقاتل حتى آخر أيام حياته، وفي كل معركة كان يفقد عضواً من أعضائه ولم يبقَ من جسمه شيءٌ سوى قلبه الذي أحضره لي ولداه وطلبا مني أن أدفنه ثم انصرفا. حملتُ القلب بين يديّ وبينما كنتُ أغسله وأكفنه وأحضّره للدفن، انتفض وبدأ ينبض، في البداية كانت نبضاته متقطعة، لكنها سرعان ما انتظمت، وحين رأيتُ ذلك احترتُ في أمري؛ ماذا أصنع في ذلك الليل البهيم وحيداً ممسكاً قلب صديقي، لا أدري ماذا أفعل به؛ هل أدفنه؟ أم أتركه؟ وكيف أدفن قلباً حيّاً نابضاً؟! ثم لم أجد أمامي إلا التابوت، وضعته في داخله وجلست أفكر ماذا أفعل إلى أن جاءت الدورية وأحضرتني إلى هنا، وهذه هي قصتي من أولها إلى آخرها.
- والله لا أعرف ماذا أقول، قصتك غريبةٌ وعجيبة، ولم تصادفني قصة شبيهة بها طوال حياتي.
ثم تنهّد تنهيدةً طويلة، وطلب من العناصر إحضار القلب ليتأكد من نبضه، وفعلاً شعر بالنبض حين أمسكه بين يديه، وإلى الآن مازال في حيرة من أمره؛ ماذا سيفعل بهذا القلب الحيّ الذي لا يتوقف عن النبض أبداً؟



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى