د. سامي عبد العال - الإنكار والسياسة: نفي النفي إثبات!!

يبدو أنَّ مجال السياسة باتَ مجالاً لإنكار الواقع طوال الوقت، فأحد أوجُه السياسة ألَاَّ تخضع لقوى خارج حدودها وبالوقت نفسه ترسم صورة الاحداث انطلاقاً من مركزيتها. لو أردنا تعريفاً آخر للسياسة بخلاف إدارة الشأن العام، فهي خطاب الانكار الدائم الذي يبرر الأحوال القائمة، أي هي برامج عمل واسع لإبقاء الأوضاع على ما هي عليه. فأنت سياسي، إذن أنت تقنع الآخرين بما تقدمه حاضراً وما ستقدمه لاحقاً، ولاسيما إذا كنت تشغل موقعاً مهماً داخل أي نظام قائم. فالمصلحة السياسية- وهي جزء من الوضع- تقول باستمرارية النظام، لأن ما جاءَ به من نتائج يقوي مكانته. وليس من سبيل إلى تغيير الحال على الأقل في الأفق القريب.

فالحاكم- وبخاصة الحاكم العربي- يقول إنَّ كل أمور الحياة على ما يُرام ولا شيء هنالك يستدعي القلق والنقد، وكذلك المسؤول يزعُم كون الحياة تسير كما هي مرسومة دون نقصانٍ، وحواريو الديكتاتور يلهجون بنعمائه وفيئه على العباد والبلاد، وأنَّه لا يوجد شيء من القمع والتسلط كما يتوهم الناس. وكذلك الدول الكبرى تنكر أي تدخل في شؤون الأنظمة السياسية المستعبدة، وأنها لا تفرض سياساتها على أية دولة، ورجال السياسة يلصقون أعينهم بالأرض غير عابئين بالمستقبل، وأنّ الحاصل مما يفعلون هو الغاية والأمل.

إنَّ رجال السياسة- باختلاف انتماءاتهم- يغُضون الطرف عما يحدث لأجل التصورات والمصالح التي يتبنونها. وأيَّا كان ما يجري بصدد مواقفهم التي قد تكون واضحة الفشل، فليس أكثر من صورٍ تجد كلَّ سخريةٍ خارج التاريخ. لأن التاريخ يفترض الاهتمام بالتفاصيل المحركة للأحداث، وربما لن تصل أيةُ أحداث إلى درجة التأثير من غير التفاعل مع علاقات الواقع ومتغيراته. الآن لا تهتم السياسة بالتفاصيل أصلاً، لكونِّها توظيفاً لأهدافٍ قائمة على الصراع والمصالح الكبرى. فلا توجد سياسات دون عملية الصراع النشط ولو ضمنياً، حيث تُعنى باستغلال القوى لإنجاز ما تريد. والصراع هو جدل الانكار والإثبات القائمين تزييف المشاهد والوقائع.

وهذا هو ما يجعل السياسيين يقَّوون مواقفهم بحيل دفاعية هي انكار ما يحدث ليعتبرونه مرحلة يتم حرقها عند أول إنجازٍ. وإذا ذَهبتَ لتعرف ما هو الانجاز الفعلي؟! ستجد السياسي جاثماً عند اعتاب الواقع مطارداً ما تفكر فيه أنت بجميع الأساليب. لأنَّه لن يرضى بديلاً عما في رأسه ولو انتظرت سنوات وسنوات، ومع ذلك في حال الانتظار سيطالك السياسي بمزيد من الوعود، فهو لا يعترف بما يجول في خاطرك عندئذ ولا بماذا بعد.

في الأنظمة السياسية وبخاصة الديكتاتورية لا توجد مقولة (ماذا بعد) هذه. لأنها مقولة تعني التجاوز للحال موضوع الاستفهام، وتأتي في أحد معانيها بمدلول التغيير والتبديل. وليس أثقل على السياسي من قضية التغيير وبخاصة إذا كان جزءاً من تكوين الممارسة والحياة العامة. ولذلك نجد السياسيين راسخين في مناصبهم حتى الممات، ويودون لو يعمروا ألف سنة كما يقول القرآن. ويلصقون مؤخراتهم بالكراسي حتى لو نفق الشعب عن بكرة أبيه!!

من جانب آخر، لا يفيد الإنكارُ في السياسة انعدام موضوعاته ( أحداثه ) ولا عدم وجود حقائق. لكنه دالٌّ على معانٍ أكبر من حجب الرؤية الفعلية إزاء القضايا محل الخلاف داخل المجتمعات، مثل قضايا: الاعتراف بالآخر، والثقة بالمواقف والعلاقات والآراء إزاء الاحداث والأفعال، وإبداء الرؤى فيما يحصل من تغيُّر، والكف عن أو التمادي بفرض الأمر الواقع، ورسم صورة ذهنية تُزيِّف موضوعها وتشغلُّه عن الأشياء الأهم، ونيل الدعم من قُوى تراقب الأوضاع أو لا تراقب، والتغطية على الممارسات المنافية لما يبدو صحيحاً أو قانونياً. ثم لا تبتعد عملية الإنكار– كهدف قادم- عن رسم صورة مغايرةٍ لما يجري بين أطراف الصراع.

الواضح من ثمَّ أنَّ الإنكار ليس موقفاً معرفياً، بل برجماتياً صراعياً للخروج من أيِّ مأزق. إن كلُّ إنكارٍ سياسي ينطوي على مُساءلةٍ من طرفٍ ما وإلاَّ لما بدا بوضعه السابق. فهو يضمر داخله طرفين متنازعين أحدهما ينكر ما يقوله الآخر، وحين يصلان إلى نقطة صراع، فلا يعترف من ينكر بما حدث. وربما يلقي تبعية الحادث على الطرف المقابل له. إن الإنكار في أساسه لون من الحجب والتغطية والتعمية بشكل متوالٍ في محاولة لجعل ما يريد محل تصديق.

لكن هل الإنكار كذب أم حقيقة مختلفة؟ هل يشمل معاني قابلة لفهم الأوضاع الجارية إزائه؟ هل النتائج المترتبة عليه ملزمة وشرعية؟ هل الحقوق تتعلق بإنكار يعترف بها أو لا يعترف؟ وماذا عن الإنكار حين يكون الموضوع المنكر واضحاً وحقيقياً؟ هل عكس الإنكار هو الاعتراف؟ هل يحتاج الإنكار لضامن يواصل استناداً إليه مسيرته وتأثيره؟

أبرز الأمثلة على ذلك- وهو ما سنناقشه باستفاضة- إنكار إسرائيل الدائم لعمليات العنف والاستيطان والاغتيال تجاه الفلسطينيين وإهدار حقوقهم المشروعة. والعكس أيضاً: إنكار الفلسطينيين الذي هو مقاومة لوجود الدولة الإسرائيلية وطبيعتها وتأثيراتها ونفوذها. ولكن الإنكار الاسرائيلي هنا جزء من الصراع الممتد، ليمثل أداة وخطاب تفاوض ومقايضة لا مناص منها. أي لكي نفهم ما يجري على الأرض لابد من إدراج الإنكار كصيغة هجومية تتلقف كالثعبان الأقوال والأفعال المقابلة. حتى وصل إلى صيغة وجودية تبتلع الطرف الآخر كما ابتلعت اسرائيل فلسطين الشعب والتاريخ.

وبالتالي ستكون وظيفته الاسرائيلية تصويراً للمشهد على أنَّه لم يكن الحال كما يراه المتابع (احتلال فلسطين). لدرجة القول بأنَّ الإنكار ليس مفرداً كأنه رد فعل لمساءلة حول القضايا والأمور الجارية بين الطرفين، لكنه أفعال تحتشد ضمن خطاب موجَّه. وقد حرصت اسرائيل على هذا الخطاب الإنكاري في الممارسات وصفقات السلام التي تبرمها مع المحيط العربي. فأي عملية اتفاق مع غير الفلسطينيين هي عملية إنكار لهم وتجاهل لحقوقهم. والأنكى أن الطرف المشارك في السلام يوافق ضمناً على عملية إنكار اسرائيل للفلسطينيين، وهو بشكل (غير ذكي) يسهم في الانكار ويحوله إلى برنامج عمل.

في هذه الحالة، ينطوي الإنكار على جملة مستويات:
  • تجاهل لوجود الطرف المقابل: إسرائيل لا ترى الفلسطينيين شعباً له كامل الحقوق والوجود فعلاً. هي تراهم مجرد فرائس أمام عدسات نيرانها وقناصيها الإلكترونيين عن بعد. الوجود الفلسطيني كيان مهيض الجانب لا تترك شاردة وواردة إلاَّ وتقلل من شأنه، هو أسلاك شائكة وطرائد تركض وراء بعضها البعض ليلاً ونهاراً. بالنسبة لنظام الدولة الاسرائيلية، ليس الفلسطينيين أناساً عاديين، بل كائنات شيطانية غريبة ومجهولة المعالم. علي إسرائيل أنْ تحدد إقامتهم الجبرية قبل إخضاعهم لعملية إنكار طويلة الأمد. هكذا فإنَّ الطرف الرئيس في أية عملية سياسية تشيطنه إسرائيل وتجعله منتهكاً قبل أية بادرة فعل منه.
وقد حدث العكس أيضاً أنَّ الفلسطينيين شيطنوا الإسرائيليين دون معرفة فعليةٍ حول ماهية الدولة الإسرائيلية وما مصدر قوتها وكيف تخوض حروباً قذرةً الواحدة تلو الأخرى رغم تأسيسها القريب. مما جعل إسرائيل في الذهنية العربية دولة خرافية ويستحيل مقاربتها. وهو ما أثَّر على كيفية التعامل معها والجلوس أمامها على طاولة المفاوضات. هذا جميعه جزء من الإنكار الخادع الذي يزيف المعرفة السياسية والممارسات في الواقع. وقد أعاق حلحلة القضايا الفلسطينية تاريخياً كما سنشير، لأنَّ أصحابها يمتلكون تصوراً غائماً حول إسرائيل بسبب اختلاطه بالأفكار الدينية والسردية المشوهة.

وهنا لا أقول إن دولة اسرائيل دولة ملائكة، بل يجب معرفتها على وجه الحقيقة، لأن الإنكار ضد المعرفة ويهيل التراب على الوعي اليقظ ويجعل موقفنا من العالم والأحداث غائماً. فلو أننا نستطيع مقاومة الصهيونية التي هي جوهر الدولة، فيجب مقاومتها بالمعرفة الحقيقية الباحثة عن جذورها وسبر أغوار كل صغيرة وكبيرة فيها. أي المعرفة دون تهويل ولا تهوين ولا تزييف ولا إنكار غير واعٍ لما يحدث. اسرائيل دولة احتلال واستعمار، لكن يجب قتلها معرفياً وفكرياً حتى أدق التفاصيل بمعارف متطورة وأدوات جد متقدمة وإبداعية.
  • تعرية الآخر من الحقائق: حيث يدرك الإنكار الإسرائيلي أنَّ الفلسطينيين ليسوا إلاَّ موضوعاً مادياً. هم محض كم لا كيف، كتل سكانية ممتدة بقطاع غزة وبالضفة الغربية ليس إلاَّ. حتى وإن حضر الفلسطينيون كطرف رئيس بالمفاوضات حول الحقوق التاريخية لدولتهم، فهو منبوذون، ولا يحق لهم المطالبة بحقوقهم المشروعة. وذلك بفضل إنكار إسرائيل لا لمجرد الحق السياسي بل لكل حقيقة ممكنة. فلا تتصور اسرائيل مجرد تصور ذهني أن هناك دولة مستقلة وسيادية للفلسطينيين. ونحن نعرف كون الحقيقة قابلة للتشكيل باعتبارها متوحدة مع القوة الغالبة، الحقيقة هي مفاهيم القوة المهيمنة والأكثر سطوة.
إنَّ إسرائيل تمتلك الواقع والأرض والسماء تحت الفلسطينيين وفوقهم، عن طريق آلتها الحربية الضخمة ووسائل التكنولوجيا. والمرعب أن يتحول الإنكار الإسرائيلي إلى أداة لتشكيل الهوية اليومية للفلسطينيين سياسياً. من هم، وكيف يتحركون، وما علاقاتهم بالعالم الخارجي، وكيف يخرجون، وكيف يدخلون إلى بلدانهم؟

فالإنكار لا يعترف بهذا كله، حتى لو امتلك الفلسطيني جواز سفر يحمل بيانات فلسطينية، فإسرائيل تقلل منه بالاحتجاز والحظر وغلق الطرقات والمنافذ. والإنكار هنا هو طمس تدريجي للهوية والانتماء. ففي الواقع يكون الفلسطيني فلسطينياً وبالتالي له الحق في التعبير عن نفسه وتاريخه، لكن بالإنكار يصبح مواطناً تحت رحمة الاعتراف من عدمه. فيشعر بكونه بلا قوة، إنه يصبح ريشه في مهب رياح الاحتلال الأرعن والمقتلع للجذور.

وهنا تتماهى الآلة العسكرية الاسرائيلية مع الآلة الإعلامية والمخابراتية لترويج خطاب إنكار مؤداه: أنَّ الإرهاب فلسطينيُّ المنشأ والممارسة، وأنَّ ما تناله إسرائيل جراء العنف الفلسطيني يجعلها دولةً في خطر. ويظل يقال: إسرائيل دولة في خطر... هكذا روجَّت دولتها ومولَّت ودعمت هذا التصور لدى مجتمعات الغرب. حتى بات الفلسطيني عنوناً لما روجت وزيفت.
  • الإنكار قابل للتكرار: إذ يظل المنكِّر للآخر مردِدَّاً لما يقول من حين لآخر، هو لا يكف عن تصدير هذا القول أو ذاك حتى بعمل النقيض. فالآلة الإعلامية الإسرائيلية تروج مراراً عما يسببه الفلسطينيون من مضايقات للمواطن الإسرائيلي. والتكرار نوع من أخذ خطوات استباقية تترتب عليها خطوات في الخطاب المطروح. فإذا كان الإنكار مجدياً مرةً، فالسؤال عندئذ: لِمَ لا يكون مجدياً في كل مرة تالية؟! وهذا هو المعنى الذي يحكم العلاقة بين الطرفين، وبالتالي ستظل الدولة الإسرائيلية تنكر ثم تنكر ثم تنكر، فيكون رد الفعل على المستوى نفسه (إنكار إزاء إنكار). أي أنَّ الذي يناقش أو حتى يتعامل مع الإنكار سيأخذه من ذيل صيغته الأخيرة.
ونتيجة الخاصية الاستباقية، كررت دول أوروبية ( مثل فرنسا وانجلترا ) أنَّ إسرائيل لديها الحق في الدفاع عن نفسها. والتعليق ليس حيادياً، لأنَّه مبني على رؤية أحادية، والسبب هو الإنكار الاستباقي الذي جعل سياسات بعض الدول تقع في شراكه.
  • الإنكار مشبع بالتصديق: فبخلاف ما قد يظن القارئ، ينطوي الإنكار على عكسه، أي معرفة الجوانب الحقيقية من القضايا محل الإنكار وإثباتها. وهو التصديق بشكل معكوس ومناقض. فكلُّ نقيضٍ لما هو حقيقي يدرك ما هي الحقيقة جيداً، ربما أكثر من الطرف صاحب المسألة( الإنكار).
ولولا انحياز المتابعين سواء أكانوا مؤيدين أم معارضين لطرف على حساب طرف، لكان الإنكار داعياً إلى البحث والتقصي ومعرفة الخلفيات التي أدت إلى ذلك. فالواقع هو الأمر الذي يكشف الأفعال سواء أكانت ضد هذا الطرف أو ذاك. لأنَّ الإنكار يعني ضمنياً فكرة الاختلاف الذي يناقش الآراء ووجهات النظر. وإنْ لم يكن التصديق (الحقيقة – قوة المشهد- فعالية الآثار) مطروحاً داخل عملية الإنكار ما كان ليعتبر نفسه طرفاً في معادلة السياسة بأية صيغة من الصيغ.

وهنا الإنكار يسير عكس ما يريد المنكر يعتبر اعترافاً مصدِّقاً لسواه وجارياً بحسب الظروف والشروط السياسية. فإسرائيل هي أكبر دليل بأفعالها واحتلالها على حقوق الفلسطينيين. وهي الشروط والظروف التاريخية التي ستهددها لاحقاً. فلئن كان الإنكار يأخذ جولاته من تطويع المشاهد لصالحة كما تفعل إسرائيل، فلأنه لا يعتمد على قوامه الذاتي، بل على إمكانيات تلك الظروف. ومع زوال الظروف، سيكون للفلسطينيين جولاتهم الخاصة دفاعاً عن حقوقهم ونيل الاعتراف بها.

وهذا ما يجعل المواقف الإسرائيلية على المحك دوماً مع عمليات الإدانة الدولية لما ترتكبه من جرائم إزاء المظاهرات الفلسطينية وأعمال المقاومة. فرغم أنها مواقف متبجحة وتنفي ما تراه العيون بواحاً، فإنَّها هشة أثناء المناقشات الدولية ولا تستطيع الاستحواذ على أصوات كافية لتدعيمها.

  • الإنكار يتحول إلى واقعٍ متناقض: فتراكم عمليات الإنكار وخطاباته سيكون تبريراً وراء تبرير، تبريرات تبرر تبريرات دون توقف. أي أنه سيتحول من موقف إبستيمولوجي يتجاهل الحقائق والأحداث إلى حجب الأفعال والاعتراف بها في الوقت نفسه. وبلا ريب ما لم تُختبر صلابة الإنكار في مراحله الأولى، ستُختبر في خطواتها التالية. ذلك لأن الواقع عملي وتجريبي، بينما سيكون التبرير خطابياً بنبراته البرجماتية الواضحة. فالواقع في تلقائيته هو الوجه الذي يقاوم بشكل يومي وهو أبلغ دليل على التكذيب الذي ينطوي عليه كل انكار.
بينما التبرير يعد حالة تابعة لحالة أولى من الانكار، ولكن لن تكون السلسلة هكذا متواصلة إلى مالا نهاية. فهناك مسألة: ما إذا كان التبرير كافياً أم لا.. وحتى في حالة كفايته لن يبنى عليه يقين، لسبب بسيط أنه يبرر سواه على الدوام. أي ليس التبرير موضوعاً في ذاته، لكنه يحمل بالمنطق فعلاً إشارياً، ولا بد من استناده إلى ما يشير إليه من وضع آخر. وفي القضايا الفلسطينية ستكون الإشارة غير واضحة من اسرائيل، لأن الطرف الثاني في المعادلة( وضع الفلسطينيين) يكشف شيئاً مخبوءاً يناقض الإنكار ابتداءً. وسيظل الحق الفلسطيني واضحاً على الأقل بالنسبة إلى أصحابه ومن يؤيدهم.
  • الإنكار منطق للنسيان: تنحو عمليات الإنكار إلى ترسيخ النسيان بصدد الحقوق. فالدخول عبر أنفاق التبريرات يجعل من المواقف المبدئية قابلة للتفاوض والأخذ والرد. وهو ما حصل تاريخياً بصدد القضايا الفلسطينية، فلم يقبل الفلسطينيون في البداية أقل من الأراضي التاريخية قبل احتلال عام ثمانية وأربعين، ثم أخذوا يناقشون مع الإنكار والتبرير الإسرائيلي العودة إلى أراضي الاحتلال قبل عام السابع والستين، لينتهي الأمر مع تواصل التبرير والإنكار إلى تعليق دولة فلسطين كلها داخل حلم تاريخي. لكن ذلك لم يكن ليعني النسيان على ما هدف إليه الطرف الإسرائيلي. بل سيمثل الأنكار نوعاً من الذاكرة، فيجب الالتفات إلى كونه يغتصب الواقع، وهذا معناه أن أقل توضيح للمسألة سيعري الإنكار ولو كان إنكاراً دائماً.
إن ذاكرة الشعوب ليست ميكانيكية حتى تفرغ نفسها بنفسها تحت تكرار الإنكار، بل هي ذاكرة تأسيسية، عامة وضاغطة مع أقل الأحداث. بكلمات واضحة، أن كل ما يحدث من قبل الإنكار لن يزيد الفلسطينيين سوى التمسك بحقوقهم. وأن الذاكرة لن تُسقِط شيئاً ذا أهمية صغُر أم كبُر. وحتى إذا تحولت فلسطين بمجملها إلى ذاكرة، فالإنكار سيفشل في نزع جذورها الأكثر عمقاً ودراية بما يجري. ولأن الإنكار عام، فلن تكون الذاكرة إلاَّ فعل انكشافٍ وتجلٍّ باستمرار. وهذا سر أنَّ الإنكار الاسرائيلي للحقوق، سيواصل في طريق بينما ستكون الوقائع والتجارب والمقاومة في طريق آخر.

في ضوء النقاط السابقة ينبني الإنكار السياسي حتما على النفي، لكن ما هي دلالة النفي؟ إنه نفي تابع لحالة مقاومة يبادر بها الآخر( وهي حالة نفي للمحتل بالأساس). مما يعني أن الآخر الفلسطيني سيكون موضوعاً للاعتراف ولو بالسلب، ولو بالمقلوب ولو بالتضمن.

من مفارقات الإنكار أيضاً أن هناك دلالة الجحود قابعة في تفاصيله، ولكن السؤال المترتب عليها: ما الذي يمكن جحوده في تلك الحالة؟ البعد الأخلاقي يتحول إلى بعد واقعي، فالجحود سياسياً هو تنويه خفي لما يعطي القائم به أهمية، من الذي يعطي الإسرائيليين أهمية؟! ستحيل الإجابة تباعاً إلى التساؤل والتنقيب عن أصل المشكلة وتداعياتها. أي أن اسرائيل ستبدو كدولة احتلال واغتصاب للحقوق. إذن الإنكار يمثل مبدأ اعتراف يعوزه قوة ضامنة لكشف الحقائق وراءه، وهو ما لم يتحقق في قضايا الفلسطينيين حتى الآن. ومازال هذا الوضع رهن المبدأ الرمزي الذي يلوح بالتناقض السافر بين ممارسات إسرائيل والمقاومة الفلسطينية، لكنه لم يحدد المسار بعد. مسار كيف ينقلب الإنكار إلى قنبلة في يد صاحبها وبالإمكان تفجيرها للنيل منه سياسياً.

ولذلك فإن اتفاقيات التطبيع الجارية بين العرب واسرائيل هي ترميم للإنكار من زاوية خلخلة الواقع له، وهو تجاهل متعمد للفلسطينيين وتقوية لأعداء الاعتراف بالحقوق المشروعة التي يبحثون عنها منذ أزمنة طويلة. ومهما تكن أهداف التطبيع من مد العلاقات وإبرام الصفقات التجارية والزعم بمساندة الفلسطينيين، فإنها أهداف تتحول إلى أسلحة في يد اسرائيل، وبخاصة أن الانكار سرْطَّن كل مواقفها وجعلها دولة الإنكار الأولى في العالم وربما في التاريخ. التطبيع خطاب لإنكار عملي، هو تحويل استراتيجية كهذا إلى خريطة خارج حدودها لتتحكم في الداخل الفلسطيني وتستولي على بقايا الحقوق الإنسانية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى