مقتطف محمود شاهين - (26) نهاية البداية!

( القسم الأول من الفصل الأخير من رواية قصة الخلق )

لم يكن محمود أبو الجدايل يوما ضد الله أو ما يعبر عنه بأي مفردة لغوية إن كانت دينية أو فلسفية أو علمانية ، إنه وكما يعرف جميع قرائه ومتابعيه ، ضد ما لفقته عقول بدائية على الله كالكاهن عزرا وغيره من كتبة التوراة الكثر، تجاوز حدود الاجتهاد الممكن إلى الافتراء والكذب على الله ، فلا يعقل أن يكون الله العظيم حسب الافتراءات التي قدمه بها الكتبة التوراتيون ، وغيرهم فيما بعد . ورغم ذلك أدى نشر الحوارات المتلفزة حول الوجود والقائم به والغاية منه، ونشر بعض الفصول من رواية " قصة الخلق" التي يقوم محمود أبو الجدايل بكتابتها ، إلى تعرضه للمزيد من الهجمات والتهديدات والشتائم على صفحات التواصل الاجتماعي المختلفة من قبل متعصبين اسلاميين جعلوا من أنفسهم وكلاء لله على الأرض، فطالب بعضهم بشنقه أمام جامع الحسين في عمان ، وآخرون ارتأوا قتله برصاصات صائبة هذه المرة . أحدهم اكتفى بقطع رجله ويده من خلاف كمرتد. والمقصود بالخلاف أن تقطع رجله اليمنى ويده اليسرى أو العكس. شخص طريف اكتفى بتطليق زوجته منه كمرتد . فهو الآن كافر وملحد ولا يحق له الزواج من مسلمة مؤمنة تقيّة ، رغم أنها لا ترتدي النقاب! آخر ترك الأمر لله وتمنى عليه أن يرسل سهمين ليخترقا قلب وعنق محمود أبو الجدايل ليكون عبرة لكل زنديق !

لم يفاجأ محمود أبو الجدايل باشتداد الهجمات عليه على صفحات التواصل الاجتماعي والمواقع الثقافية .. بل رأى في الأمر ما هو أفضل من الرؤوس المقطوعة والجثث المذبوحة والأحناش الملقاة أمام باب بيته ، أو تنفيس دواليب سيارته وإرسال صور قتلى على هاتفه .. غيرأن ذلك لا ينفي أنه كان يعيش في قلق شبه دائم ، وإن حاول أن يخفيه ويتجاهله قدر الامكان.. وخاصة أمام لمى التي لم تتخلص من قلقها حتى بعد أن انتقلت هي ومحمود إلى بيتها ...

أسيل القمر راجعت حلقات الحوار ووجدت الكثير مما يمكن أن تسأله لمحمود في الحلقة الأخيرة، غير أنها فضلت أن تترك الأمر للمشاهدين ليسألوا عنه ، وارتأت أن تدخل في حوار مع محمود حول السبل الممكنة لجعل الناس يعتقدون بهذا الفكر، وأنه الأقرب إلى المنطق والحقيقة ، طالما أن محمود يصر على أنه اجتهاد وليس حقائق مطلقة .

اتصلت بمحمود لتخبره عما خلصت إليه .. وافق على الأمر. اتفقا على اللقاء وإجراء الحوار الذي سيكون على الهواء مباشرة ، بدءا من الحادية عشرة مساء ، إلى وقت غير معلوم تتوقف فيه أسئلة المشاهدين .

استقبلت محمود بقبلات لا تخلو من حرارة عشق ، وإن صممت على أن يظل هذا العشق بريئا وعذريا بناء على رغبة محمود ، واحتراما للمى التي أصبحت صديقتها .

دخلا إلى الأستوديو بعد أن شرب محمود قهوته . وما أن حان الوقت حتى شرعت أسيل في الكلام :

" أعزاءنا المشاهدين . أهلا ومرحبا بكم في الحلقة الأخيرة من أفق المعرفة والحوار مع الفيلسوف والمفكر محمود أبو الجدايل .

تعرفون أو يعرف معظمكم على الأقل كم أثارت الحلقات السابقة ردود فعل مختلفة من جمهور المشاهدين ، معظمها مؤيد ومشجع لفكر الأستاذ محمود وبعضها معارض وشاجب بالمطلق ، عدا ما جرته هذه الحوارات عليه من تهديدات وشتائم يندى لها الجبين كما يقال ، إضافة إلى محاولات الاغتيال والارهاب التي تعرض لها جراء فكره الانساني النيّر ، وكأن هؤلاء البشر لا يريدون فكرا انسانيا ، يرى الألوهة في أسمى تجلياتها ، منزهة عن العذاب ، وعن كل ما هو شراني، وتسعى إلى تحقيق قيم الخير والعدل والمحبة والجمال، وبناء الحضارة الانسانية. ويصرون على الاحتفاظ برؤية أسلافهم لألوهة تعذب وتنتقم من البشر بأبشع عذاب وأفظع انتقام . والأسوأ أن يرى هؤلاء في مفاهيم أسلافهم، الفهم الصحيح للألوهة، الذي لا يرقى عليه أي فهم مهما كان. وأن آلاف الديانات والمعتقدات والأفكار البشرية الأخرى خطأ، وبالتالي فإن أتباع هذه الأفكار والمعتقدات كفرة وملحدون ، ينبغي قتلهم إذا أمكن !!

سنبدأ حوارنا مع الأستاذ محمود حول السبيل الذي يمكن أن يقود مجتمعاتنا ولو إلى الاعتراف بمعتقد الآخر كحد أدنى مما نطمح إليه ، فمعظم الامم تسعى إلى التعاون والتسامح في هذا العصر، ولا يعقل أن لا نسير بركب الحضارة الانسانية . وآمل من المشاهدين أن يحضروا أسئلتهم لطرحها على الأستاذ محمود عبرالاتصال بأرقام الهواتف التي ستظهر على الشاشة ، ما أن ننتهي من الحوار حول المقدمة .

أستاذ محمود لنتفق أولا على أن أي استخدام لمفردات من نوع الله أو الخالق أو القائم بالخلق ، أو المبدأ الأول أو المحرك الأول أو المصمم الذكي ، كلها تشير إلى معنى واحدا ، هو الله .

- وأضيفي العقل الطاقوي ، أو الطاقة العقلانية ،أوالطاقة المادية أي ( الطقمادية ) إلى هذه المفردات ، لتشمل بذلك معظم المصطلحات الدينية والفلسفية والعلمانية .

- ليكن . أسئلة كثيرة قد تخطر على البال حسب النصوص التوراتية التي وردت إلينا ، بدءا من خلق السموات والأرض والكائنات في ستة أيام ، وكيف تم ذلك ، مثلا كيف خلق الله النور قبل أن يخلق الشمس والقمر، مرورا بالخالق الذي لم يكن يريد معرفة وخلودا للإنسان الذي خلقه، ويضع سر المعرفة في شجرة يحرم على الانسان الأكل من ثمرها ، وسر الخلود في شجرة أخرى.. وانتهاء بالعبادة وتقديم القرابين للإله . كيف يمكن أن نقنع مجتمعا ما أن هذا الكلام غير صحيح وغيرمنطقي ويتناقض مع العلم والمنطق وأي فكر مهما كان ؟ وأنه مجرد اجتهاد لعقل بشري بدائي لمعرفة الوجود والغاية منه ، وأنه تجاوز حدود الاجتهاد الممكن إلى الافتراء على الله كما ترى أنت .

- لا بد من تغيير مناهج التدريس أولا .. فالتسليم بكل ما جاء في الكتب حتى غير الدينية ، مسألة لم تعد موجودة في التعليم الحديث في العالم ، فكل مادة مهما كانت خاضعة للتفكير فيها .. أما أن نقول لطلابنا ولإنساننا أن الله خلق الخلق في ستة أيام منذ قرابة ستة آلاف عام ، أي بعد قرابة ثلاثة آلاف عام من بدء عصر الزراعة وتدجين المواشي حسب الكتاب المقدس اليهودي المسيحي، والقرآن فيما بعد ! فهذا قتل لأبنائنا ومحاولة يائسة لبرمجة عقولهم على التسليم بالخرافات والأساطير، بحيث لا يصدقون العلم حين يكبرون ويعرفون أن عملية الخلق بدأت منذ مليارات السنين ولم تنته بعد ، أي ما تزال قائمة .

ولا بد من القول لهم إن عملية الخلق في ستة أيام وردت في قصص الخلق السابقة على الديانات المعاصرة ، كما في قصة الخلق البابلية حيث خلق مردوخ السموات والأرض والكائنات في ستة أيام . غير أن مردوخ يختلف عن إله العقائد السماوية المعاصرة ، بأن خلق السماء والأرض من جسد جدته الإلهة تيامة ، وخلق الانسان من هذا الجسد لكن بعد أن عجنه بدمه . وبهذا يكون الانسان مخلوقا من جسد آلهة ، وأن دماء الألوهة تسري فيه . ولا يقتصر الأمر على الانسان ، بل على الوجود كله الذي جاء من جسد آلهة ، لنصبح بذلك أمام وحدة وجود . وهذا يقارب الفلسفة الوجودية الصوفية العلمانية المعاصرة التي أتبناها، والتي تشير إلى أن الوجود واحد وجاء من مصدر واحد بغض النظرإن كان إلها أو طاقة عقلانية ، قد تقبل بالألوهية وقد لا تقبل .

هذا الاجتهاد الفكري التراثي البابلي متقدم بما لا يقاس على الاجتهاد اليهودي وما تلاه من اجتهادات مسيحية وإسلامية ، نقلته بصورة مشوهة فيما بعد. ويمكن التطرق إلى اجتهادات أمم أخرى كثيرة سعت لأن تقدم فهما للوجود والغاية منه .. بذلك نضع الطلاب أمام أفكار وتصورات مختلفة للوجود والقائم به والغاية منه، تجعلهم يخلصون إلى رؤى مختلفة .. وأن المسألة مسألة اجتهادات لا غير دون أن يصل أي منها إلى حقيقة مطلقة ، بذلك أيضا يسعى الطلاب بدورهم إلى التفكير لعلهم يقاربون الحقيقة المطلقة . لا يمكن تقبل خالق لم يكن يريد معرفة للإنسان ، باعتبار المعرفة من اختصاص الآلهة، حتى تأتي الأفعى لتدله على ذلك .. كيف يمكن للانسان ان يعيش دون معرفة ؟ كيف له أن يعبد الله نفسه دون معرفة .. ثم كيف كانت الأفعى تملك معرفة ؟ من أين جاءت المعرفة للأفعى ؟ وهل الانسان مدين للأفعى أو للشيطان بالمعرفة ؟ ( إذا كانت الأفعى شيطانا في زي أفعى كما يرى المفسرون المسيحيون ) وإذا كان الله لا يريد معرفة للإنسان فلماذا قام بتعليمه الأسماء بعد أن أكل من التفاحة أو من ثمر الشجرة ، حسب نصوص دينية لاحقة. وصار عارفا للخير والشر؟ هل اضطر الله أن يخضع لإرادة الأفعى أو لإرادة الشيطان ؟ وبالتالي ما الذي أرادته الأفعى من هداية الانسان إلى المعرفة بأكل التفاحة أو ثمر الشجرة التي لا نعرف ما هي، وإن أصبح شبه اجماع ديني على أنها شجرة تفاح؟ هل هو تمرد على الله ؟ الطريف في الأمر حسب النص التوراتي أن الله أتى بالحيوانات والطيور إلى آدم ليطلق أسماء عليها، قبل أن يأكل التفاحة ، وقبل أن يكون لديه معرفة على الاطلاق . فكيف أصبح لديه لغة ومعرفة بالحيوانات والطيور؟ :

2: 19- وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ مِنَ الأَرْضِ كُلَّ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ وَكُلَّ طُيُورِ السَّمَاءِ، فَأَحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ لِيَرَى مَاذَا يَدْعُوهَا، وَكُلُّ مَا دَعَا بِهِ آدَمُ ذَاتَ نَفْسٍ حَيَّةٍ فَهُوَ اسْمُهَا
2: 20- فَدَعَا آدَمُ بِأَسْمَاءٍ جَمِيعَ الْبَهَائِمِ وَطُيُورَ السَّمَاءِ وَجَمِيعَ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ. وَأَمَّا لِنَفْسِهِ فَلَمْ يَجِدْ مُعِينًا نَظِيرَهُ

كان هذا الكلام في الإصحاح الثاني كما هو واضح في النص. بينما لم تؤكل ثمار الشجرة حاملة أسرار المعرفة إلا في الإصحاح الثالث:

4:3 فَقَالَتِ الْحَيَّةُ لِلْمَرْأَةِ: «لَنْ تَمُوتَا!
5 بَلِ اللهُ عَالِمٌ أَنَّهُ يَوْمَ تَأْكُلاَنِ مِنْهُ تَنْفَتِحُ أَعْيُنُكُمَا وَتَكُونَانِ كَاللهِ عَارِفَيْنِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ».
6 فَرَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّ الشَّجَرَةَ جَيِّدَةٌ لِلأَكْلِ، وَأَنَّهَا بَهِجَةٌ لِلْعُيُونِ، وَأَنَّ الشَّجَرَةَ شَهِيَّةٌ لِلنَّظَرِ. فَأَخَذَتْ مِنْ ثَمَرِهَا وَأَكَلَتْ، وَأَعْطَتْ رَجُلَهَا أَيْضًا مَعَهَا فَأَكَلَ.
7 فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَلِمَا أَنَّهُمَا عُرْيَانَانِ. فَخَاطَا أَوْرَاقَ تِينٍ وَصَنَعَا لأَنْفُسِهِمَا مَآزِرَ.


فكما ترين لا يكاد يخرجنا كاتب النص من معضلة إلا ليوقعنا في معضلة أكبرمع الله .. فهل هناك ما هو أسوأ من هذا التشويه لمفهوم الالوهة؟ وبالتأكيد كان الله مسرورا لأن آدم لم يأكل من ثمارشجرة الحياة، وإلا لأصبح خالدا مثل الآلهة. هذا ما يراه عزرا ، فالله لم يكن يريد معرفة وخلودا للإنسان ..أي أن الله ضد الانسان بالمطلق ! هل يعقل أن يكون الله على هذه الصورة التي جاد بها عقل الكاهن الكاتب !؟ وهل يعقل أن يصدق بعض الناس هذا الكلام لأكثر من ثلاثة آلاف عام وحتى يومنا ؟

لقد تطرقت بقدر أكبر من التفصيل لقصة الخلق التوراتية، في روايتي " عديقي اليهودي " وفي دراستي للتوراة في مجلد من عشرة أجزاء، وغيرها من مؤلفاتي.

أثبتت أن النصوص التوراتية ، نصوص متخيلة ومشوهة لنصوص أسطورية سابقة عليها ، أنتجتها ولفقتها عقول بدائية ، لا علاقة لها لا بالمنطق ولا بالتاريخ ، ولا بالعلم ، ولا بفهم الألوهة ، والوجود والغاية منه .

- شكرا أستاذ محمود . ونأمل أن تستفيق أممنا من هذا السبات الطويل على هذه الأفكار.. يمكن أن نفتح الآن باب الأسئلة للمشاهدين . ولمن فاتتهم بعض الحلقات

أو الحلقات الرئيسية في هذا الحوا ر المطول ، أشير إلى أن فلسفة الاستاذ محمود أبو الجدايل الوجودية تستند إلى مذهب وحدة الوجود، أي أن الوجود واحد وليس وجودين : خالق ومخلوق ، إنما حسب رؤيته هو ، وهي رؤية حديثة ، ولذلك أسماها الصوفية الحديثة، أو مذهب وحدة الوجود الحديثة . وتقوم على مبدأ أن الخالق طاقة عقلانية سارية في الكون والكائنات ومجسدة فيهما ، وأن الغاية من الخلق هي أن يرى الخالق نفسه مجسدا فيه ، وأن يقوم بدوره في عملية الخلق لتبلغ غاياتها المنشودة ، بإقامة حضارة انسانية ، تتحقق فيها قيم الخير والعدل والمحبة والجمال.

وبناء على هذا الكلام ، يرى الأستاذ محمود أن عملية الخلق ما تزال في بداياتها ، بل إنها ما تزال تحبو حسب تعبيره أيضا ، رغم مرور أكثر من أربعة عشر مليار عام على بدايتها .

نحن في انتظار أسئلتكم .

********

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى