نضال الصالح - سلافة.. قصّة قصيرة

.. أنتَ تعرفُ كلَّ شيء من السنوات الخمس والعشرين التي قضيناها معاً، أمّا ما تعرفه من السنتين الأخيرتين في حياتي فليس كلَّ شيء مع أنني كنت أكتب إليك دائماً.. كنتُ أقول لك كلَّ ما اعتقدتُه مهمّاً، لكنَّ الأيّام الأخيرة كشفت لي بأنني لم أعطِ الأشياء ما تستحقّه، بأنني كنتُ أفرّقُ بينها بمكيال مثقوب، وبأنَّ ما أردتُ أن أشيّعه إلى غير رجعة من حياتي، سيرجُّ هذه الحياة كلِّها، سيقلبها على النحو الذي يجب أن تكونه .

سُلافة يا عبد الله سُلافة.. سُلافة هي السبب.. لو رأيتَها أنت لصدّقتَ أيّة امرأة من لازورد هذه السلافة هي التي فعلت فيَّ ذلك.. سأحكي لكَ القصّة من بدايتها.. التقيتُ سُلافة – أوّل مرّة – منذ سنتين.. عندما تقدّمنا معاً إلى اختبار الوظيفة التي تجمعنا الآن في مكتب واحد، ولم يكن ثمّة ما يثيرني فيها، كأن عينيَّ كانتا مشدودتين إلى لجّة عماء داكن.. كانت تشدّ على كفّي في تحية الصباح.. تهصر أصابعي بما تستطيع من قوّة، فأسلّها منها على عَجَل.. أشرب القهوة من يدها كلَّ يوم، فأقول "شكراً" واحدة ثمَّ أغوص في الأوراق المطلوب منّي إنجازها.. تسألني عن أشياء كثيرة تخصّني، فأكتفي بواحدة من السيدتين الوقورتين: "نعم" أو "لا".. تقترب منّي، فأبتعد عنها .

"تلك عادتي مع النساء جميعهن كما تعرف.. تذكرُ أنَّ ارتطامي بهنّ بدأ مع زواج صاحب الجلالة أبي من امرأة أخرى، امرأة دميمة، لكنَّ الأموال المحشوَّة تحت جلدها جعلته يتركنا ليقوقىء بين يديها.. بكتْ أمّي حينها كما لم أرها تفعل ذلك من قبل.. ضمّتنا إلى صدرها بخوف وحنوّ بالغين، ثمّ دعتِ الله أن ينتقم لصبرها الذي ضيَّعَتُه مع رجل لا يصون العِشْرَة - كما قالت - لكنها هي الأخرى فقدت صبرها بعد شهور خمسة، ودفعت بنفسها إلى أوّل طالب للزواج منها.. وأخيراً سميحة التي رمَتْ - في غمضة عين - خمس سنوات من حبّ عاصف في الجامعة وراء ظهرها لتتزوج رجلاً لا تعرفه من بلاد بعيدة، لكنّه مثل زوجة صاحب الجلالة محشوٌ تماماً"

هذا الصباح اجتاحني طوفان خالق.. قدّمت لي سلافة القهوة كعادتها كلّ يوم، ثمّ جلستْ أمامي.. رفعتُ الفنجان إلى فمي، فرأيتُ عينيها تحدّقان فيَّ.. هزّتني رعشة مفاجئة وأنا ألتقي بهما.. أحسستُ بأن ناراً طائشة تشتعلُ في جسدي كلّه، وأنَّ دمائي تلهثُ في عروقها كأنّما تريد أن تنفر منها.. أنني في حضرة امرأة من لازورد حقّاً كما كنتُ أشتهي طوال تلك السنوات التي فرّت من حياتي دون معنى.

"مرّةً واحدة استطاعت سُلافة أن تسلبني قوقعة الصمت التي أتحلزن فيها كلّما كانت ثمّة امرأة تقتنص حيّزاً من المكان الذي أكون فيه.. كنتُ مأخوذاً بقدرتها الفائقة على إقناع الآخرين وتعديل مواقفهم كلّما حادَثَتْهُم في شأنٍ ما.. قلتُ وهي تنتهي للتوّ من دفع الشيخ "عطا" المستخدم في المؤسسة إلى تسجيل ابنته في المدرسة:

- ليتَ لي لسَانك يا آنسة سُلافة.

فاسّاقط من فمها شلاّلٌ من الضحك الصاخب، ثم قالت:

- ليسَ باللسانِ وحده يحيا الإنسان.

قلتُ:

- كأنّما في لسانك تميمةٌ من السحر

فكررتْ أن ليس باللسان وحده يحيا الإنسان، ثم أمطرتني بوابل من مدوّنات التاريخ عن رجال ونساء استطاعوا أن يغيّروا وجه العَالم، ومصائر شعوب، وخرائط دول، و.. وأن هؤلاء لم يحققوا ذلك بألسنتهم الساحرة فقط، بل بصدقهم، وإيمانهم، و.. وأضافت:

- الكلمة التي تغادر القلب تدخل القلب يا بسّام.

هكذا دونما ألقاب نادتني سُلافة، فأحسستُ بأن ثمّة جداراً يتهشم بيننا، ولم أكن أريد ذلك مع أية امرأة، فاحتميتُ بالصمت".

رأت سُلافة تسمّر يديّ، والفنجان بينهما، فابتسمتْ.. هزّتني الرعشة الأولى من جديد.. بَدَت لي ابتسامتها نهراً من النبيذ يشيع الخدر في الرأس من رؤيته فقط.. اكتشفتُ أيّة هناءة فاتنة تلك التي تضوّعها شفتاها، ولم أكن أنتبه إليها من قبل.. أيَّ ليلٍ آسرٍ يظللُ عينيها، وكنتُ أوصد قلبي أمام نجمتيه.. أيّة شقائق تضجّ في خدّيها كلّما تحدّثت، وكنتُ أنأى عن العندَم الملتهب فيهما، وصحتُ بصمت: "يا لسُلافة" ثم غبتُ في اللازورد.

"ومرّة واحدة فقط أزحتُ أنا غطاء قوقعتي وسألتُ سُلافة كيف تجد وقتاً لتقرأ هذه الكتب كلّها التي تتحدّثُ عنها،

وثمّة ما يمنعها من ذلك.. العمل الذي يلتهم يومَها من الصباح حتى العاشرة ليلاً.. من الثامنة حتى الثانية ظهراً في المؤسسة، ومن الرابعة حتى العاشرة ليلاً في مكتب تجاري خاص لتحملَ عن أبيها الذي قدّده السلّ مسؤولية الأسرة.. كيف تمتلئ بهذه السعادة الفائضة منها دائماً والحياة حولها تتشظّى بالذابل من المسرّات.. كيف.. وأمطرتُها أنا هذه المرّة بوابل من الأسئلة اللاهثة، فاسّاقط من فمها هذه المرّة عنقود من الهمس الشفيف، قالت:

- أحبَّ ما تفعل يا بسّام"

لم يدم غيابي في اللازورد كثيراً.. أنهضني منه رأس سلافة الذي تدثّر بصدري كأنه حمامة هاربة من صقيع مُزمن، ثم أصابعي وهي تتموّج بين طيّات شعرها المسترسل فوق كتفين ناحلين، ودمعتان تومضان في عينيها لكنّهما لا تقويان على السقوط، وكأنني سمعتُها تقول:

- لو كنتَ تنتبه، لو.

فهمستُ دون إرادة مني:

- إلى ماذا يا سُلافة؟

أشارت سُلافة بإصبع مرتعشة جهة القلب.. تمنيّتُ لو أستطيع أن أضعه أمامها لترى أيّة براكين مجنونة كانت تتشظّىفيه حينها، وكيف لا تقوى أمطار العالم كلها على ترميد جذوة واحدة منه، وكانت عيناها ما تزالان تومضان بندى الدمعتين العذراوين فيهما.

"وتلك كانت مرّة واحدة فقط أيضاً التي انتفضتُ صارخاً بسلافة التي أسرفتْ في الضحك مع الزير فاروق بعد أن غادر المكتب، فاستقبلتْ مُضريتي بهدوء مثير وعينين صاخبتين بمشاعر مختلطة عليّ.. مشاعر غامضة، غائمة، لكنها جميعاً - كما قدّرتُ - كانت تزدهي بما أثارته من غيرة فيّ، فقلت:

- لا فاروق، ولا غيره، يعنونني في شيء. هذا المكتب للعمل، وليس لـ..

وكدتُ أسوطُ أذنيها بكلمة جارحة، لكنها - كعادتها - استقبلت غضبتي بهدوئها المثير، قالت:

- وأنا أيضاً لا يعنيني فاروق ولاغيره، يمكنه أن يصطاد بنات المؤسسة كلهن إلا سُلافة.. أنا أعرف نفسي، وأنت تعرفني، وفاروق يعرف، و..

قلت:

- ولكن ما مِن أحد يرحم يا سـُ…ــ.. أقصد يا آنسة سُلافة.

وأضفتُ وأنا أحاولُ أن أرمم الشرخ الذي أصاب جداري الأثير:

- ثم إنك تعرفين أن فاروق هذا ابن ……

وكادت تثب من فمي - من جديد - كلمة جارحة، خادشة للحياء، لكنما عينا سلافة اللتان اصطخبتا بدمع مباغت أخمدتا ما كان يتقافز في فمي من كلمات، وقالت وهي تهمُّ بمغادرة المكتب:

- اسمعْ يا بسّام، هذه هي المرة الأولى والأخيرة التي أسمح لك فيها بالتحدّث إليّ فيما يعنيني وحدي، أو بمحاولة الوصاية على علاقتي بالآخرين.

وقبل أن تغلقَ الباب تماماً، أضافت:

- ثقْ بنفسك يا بسّام".

هل وضعتُ قلبي أمام سُلافة حقّاً، فذوّبها أتونه، ولذلك أخذتْ تردد بوجد:

- لماذا كنتَ تنأى؟ لماذا؟.. لماذا كنتَ كلّما سكبتُ في كفّيك ماء لهفتي في الصباحات أطلقتَ شمسك الحارقة عليه؟.. كلّما أعددتُ لك القهوة على نار القلب أمطرتها بشكرك اليتيمة تلك؟ .. كلّما طيّرتُ حمائم الكلام إليك أثرتَ صقور الصمت نحوها؟.. كلّما..

وسُلافة توغل في تراتيلها الليلكية تلك أذكرُ أنني اكتويتُ بالجمر.. اشتعلت في روحي شهوة عارمة إلى نوم أبديّ في بؤبؤي عينيها الملوّنين بمدى مسفوح من زرقة لا تنتهي.. رشفتُ لمىً هائجاً.. اغتسلتُ بماء الأرجوان، وقبل أن تأخذني رجفة الروح، صحتُ - بصوتٍ هذه المرّة – "يا لسلافة"، ثم غبتُ في اللازورد.


* قصّة قصيرة من مجموعة بعنوان: "طائر الجهات المخاتلة".
أعلى