أ. د. عادل الأسطة - رقصة (الفالس) مع بشير

سأشاهد مساء الثلاثاء 8/6، في قاعة المركز الثقافي الفرنسي في نابلس، الفيلم الإسرائيلي "رقصة (الفالس) مع بشير". الرقصة يمارسها جندي اسرائيلي على شاطئ مدينة بيروت في صيف العام 2891، وبشير هو بشير الجميل الرئيس اللبناني القتيل في ذلك العام، في ذلك الصيف، وكان انتخب رئيساً للبنان - عُيّن - ولم تكتمل فرحته.
يقوم الفيلم على الاسترجاع، فبعد عشرين عاماً من انتهاء الحرب، يجري مخرج سينمائي حوارات مع جنود اسرائيليين عديدين شاركوا في تلك الحرب، ومنهم من أصيب بعقدة الذنب، وإن ظل يمارس حياته في اسرائيل وعلى شواطئ يافا وتل ابيب، ومنهم من غادر البلاد ليبدأ حياته هناك في اوروبا، إذ تذكر بولندا وتذكر الطريق الى مطار أمستردام، ويجلس المخرج مع أحد الجنود في مسكن في غابة تكسوها الثلوج شتاء، وتزدهر فيها الأشجار وتورق ربيعاً. وهناك يصبح الجندي ثرياً من وراء بيع الفلافل. وهذا الجندي لا يريد القتل، ولقد سيق إلى الحرب سوقاً، وإثر ذلك أخذ يتقيأ، وفي الطريق إلى لبنان حلم بامرأة تأخذه، ورأى نفسه يضاجعها، فقد غدت قاربه الى البحر وفيه، بعيداً عن صيدا التي أطلقت النيران فيها على سيارة لبنانية مدنية قتلت العائلة اللبنانية التي كانت بداخلها. وستظل الصورة هذه تلازمه، وسيتذكرها وهو في الطريق الى مطار أمستردام.
وسأتذكر وأنا أصغي إلى هذا الجندي يتحدث مع المخرج قصيدة محمود درويش المعروفة "جندي يحلم بالزنابق البيضاء". الجندي فيها لا يريد أن يقتل، ولقد جاء الى فلسطين ليحيا مشارق الشموس لا مغاربها، ولم يكن يعرف أن حياته ستكون في فلسطين جحيماً. لم يأت ليقتل، ولكنه قتل، ولم يعرف الحزن، مثل الجنود، في ساحة الميدان، ولكنه أخذ يحلم بالرحيل الى بلاد بعيدة يحتسي فيها قهوة أمه في الصباح بهدوء.
(سألاحظ صورة محمود درويش في قاعة المركز الثقافي الفرنسي، وسأتساءل إن كان وضعها مع عرض الفيلم عائداً إلى إدراك من في المركز أن هناك تشابهاً بين قصيدته وبين قصة الجندي في الفيلم، وسأعرف أن هذا لم يخطر ببال موظفي المركز، فهم وضعوا الصورة لأن رساماً فرنسياً زار فلسطين ورسمها لدرويش. وحين يجري نقاش مع د. صالح عبد الجواد سأقول له إن هناك تشابهاً وتقاطعاً بين الفيلم وقصائد لدرويش، ولم يكن هذا أيضاً خطر بباله وسيدون ملاحظاتي، ربما ليقرأ القصائد التي أتيت عليها).
وما لفت نظري أيضاً في الفيلم ما رواه أحد الجنود الذين حاورهم المخرج. قال الجندي: وأنا ذاهب الى الحرب وأشارك فيها لم أشعر أني البطل الذي ينقذ أصحابه. لقد شعر هذا الجندي، في أرض المعركة، وفي جحيم الحرب، بالخوف ما جعله يهرب الى منطقة يشعر فيها بالأمان، بخاصة حين أطلق الفدائيون القذائف على دبابته. وسيحتمي بصخرة، حتى اذا ما هدأت الأحوال، واعتقد الفدائيون بعدم وجوده في المنطقة، ذهب الى البحر وأخذ يسبح عله يعود الى الشاطئ الاسرائيلي. طبعاً سينقذه جنود اسرائيليون، وسيعود الى المعركة.
سأتذكر وأنا أصغي الى هذا الجندي ما ورد للإسرائيليين من صور في الأدب الصهيوني الذي عالجه غسان كنفاني في كتابه في الأدب الصهيوني، وسأتذكر أيضاً الصورة التي رسمها الإسرائيليون لأنفسهم إثر حرب 1967، والعبارة التي أشاعوها عن جيشهم: المحارب اليهودي شجاع، والجيش لا يقهر، ولا يعرف أفراده الانسحاب. أما بخصوص المحارب اليهودي في الروايات التي درسها كنفاني فقد بدا أسطورياً: إنه بكرباجه يؤدب قرية عربية كاملة.
ستبدو صورة الجندي الاسرائيلي هنا، في الفيلم، مختلفة عن تلك التي بدت في نصوص قديمة، في "اكسودس" لـ (ليون أوريس) وفي "لصوص في الليل" لـ (آرثر كوستلر) ..الخ. هناك اليهودي لا يعرف الخوف، خلافاً لما بدا عليه في الفيلم.
وسأتذكر، وأنا أشاهد الفيلم، قصائد محمود درويش مراراً، لا لأن صورته المعروضة تذكرني به وبقصائده، وإنما لتشابه كثير من مناظر الفيلم مع الصور التي قدمها درويش في أشعاره، وهي صور استقاها هو نفسه أصلاً من الأدب الاسرائيلي الذي قرأه جيداً في الستينيات ورد عليه: الجنود العائدون من الحرب واستقبال أهلهم لهم في محطة القطارات، المحبوبات اللاتي يفتقدن محبيهم (شولميت وسيمون في قصيدة درويش: الكتابة على ضوء بندقية)، وسأتذكر، وأنا أرى في نهاية الفيلم مجازر صبرا وشاتيلا، ما كتبه (جان جينيه) الأديب الفرنسي "أربع ساعات في صبرا وشاتيلا".
هل غاب إميل حبيبي في متشائله عن ذاكرتي؟ لغة الترجمة - أعني العربية - فيها من الأخطاء النحوية الكثير. هل حقاً يتقن المستشرقون اللغة العربية أكثر من أبنائها؟ اسألوا إميل حبيبي، واقرأوا هذا في متشائله، فعنده الخبر اليقين.

بعيداً عن السياق.. قريباً من السياق
ثقوا بالماء... يا سكان أغنيتي
الأسبوع المنصرم ستتصل بي السيدة منى من اللد. وأنا لا أعرفها وجهاً لوجه. فجأة، منذ عام ونيف، وربما منذ عامين، أخذت تتصل بي لتسألني عن محمود درويش وأشعاره. (فيما بعد سأعرف أنها حصلت على رقم تلفوني وجوالي من الدكتور فاروق مواسي). والسيدة منى أعدت رسالة دكتوراه في جامعة اسرائيلية عن الشاعر وأثره في الوعي الثقافي الفلسطيني، وقد أشرف عليها أستاذ دكتور اسرائيلي - يهودي. ولما كانت بحاجة الى مصادر ومراجع، ولما كانت بحاجة الى النظر في مقاطع شعرية وتأويلاتها، فقد أخذت تتصل، ولما كنت لا أشعر بالضجر - مثل محمود درويش، فقد اتصلت به في غير وقت ما جعله يمل ويفكر في تغيير رقم هاتفه، وقد قال لها هذا بنرفزة، وأسمعتني هي صوت درويش، فقد واصلت اتصالاتها وما زالت. (فيما بعد سأجد عذراً للشاعر، فقد كان مرض القلب يثقل عليه، ويحتاج الى الراحة، وستجد هي، العذر له أيضاً).
الأسبوع المنصرم ستتصل بي منى، وستسألني عن رأيي في مقطع لدرويش كانت فسرته تفسيراً لم يرق لدارسة اسرائيلية تعمل في مركز (دايان) للدراسات، حيث ينوي المركز نشر رسالتها بالعبرية. كانت الدارسة قرأت تأويلاً لسطر درويش لم يرق لها، ما جعل منى تتصل بي لتسأني عن رأيي. هل غدوت واحداً من أفضل من يؤولون أشعار الشاعر ويفسرونها، لفرط ما كتبت عنه؟ هل غدوت مرجعاً لدراسة أشعاره؟ لا أدري، ولا أدري أيضاً، حتى اللحظة، رأي درويش النهائي في دراساتي عنه وعن أشعاره، وربما يدري بهذا المسنان: البطل وخضر والقاص أكرم هنية، فقد كانوا قريبين منه.
كان السطر ورد في قصيدة درويش: "طوبى لشيء لم يصل"، وقد ظهرت في ديوان "محاولة رقم 7" (3791) والسطر هو: "أتراك يا وطني/ لأن صدورهم مأوى عصافير الجليل وماء وجه المجدلية". وقد رأت منى أن المجدلية نسبة الى المجدل، وترجمتها الى العبرية (أشكلون)، وأما الدارسة الاسرائيلية فقد ذهبت الى أنها مريم المجدلية، والدة المسيح. وسأنحاز لتأويل الباحثة الاسرائيلية فأنا أعرف القصيدة.
كتب درويش هذه القصيدة يرثي فيها شهداء مجزرة (فردان): كمال ناصر وكمال عدوان ويوسف النجار، وقد نسي هو مناسبة كتابتها أو تناسى، وذلك حين حاورته فيها. صدور الثلاثة كانت مأوى لأبناء الجليل، ومكاناً لبكاء المجدلية/ المجدليات حين يبحثن عن صدر حنون يبكين عليه.

عادل الأسطة
2009-07-12
  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى