عذري مازغ - من وحي الثرثرة

عادة ما تستهويني الكتابة كثرثرة رائعة ذاتية، نسج فسيفساء أفكار مختلفة غزتني او قاومتها في فترات معينة من حياتي اليومية، لذلك أحب أن أكتب على أي شيء إلا المواضيع التي لم أستوعبها جيدا، ودائما كانت المواضيع اليومية التي تقع في قربك أو في بعدك هي التي تستهويني مثل الأخبار اليومية، مواضيع سهلة على القبض ويمكن أن تحرث فيها ماشئت من مواقف باعتبارك كائن بيئي ينتمي إلى فضاء خاص، الكتابة هي أيضا امتحان خاص لنسج ما غنمته تربتك الفكرية، لا شيء جديد فيها عندك غير ذلك النسج الذي عادة نعيده حين نكلم بعضنا عن حدث معين، لذلك تفتقد بعض المفاهيم عمقها عندي من قبيل الإستدلال بباحث، اكاديمي، خبير، أديب، فيلسوف، عالم وغيرها من الألقاب الجميلة التي غالبا للتقدير تضاف لها مفاهيم الفخامة التي تهتز بمجرد حصول تكذيب في معلومات خاصة.. لندع هذا وأخبركم عن ثرثرات أخرى حصلت معي لتتقربوا قليلا إلى فهم مضوعي لهذه الفخامات:

عندما كنت أدرس في الثانوي، كانت السيدة خدوج بالحي الذي أسكنه مثار انتباه كل نساء الحي، وكانت في كل مساء تدير حلقة نسوية كبيرة في تجمع مهني قديم لم يعد له الآن بقاء، تجمع لمحاربة القمل في رؤوسهن او رؤوس أطفالهن، كانت تتكلم بصوت عالي مسموع وكانت ملمة بكل عالم الحي او الدوار الذي أقطنه وكانت تعرف كل صغيرة وكبيرة عنه وكانت تقتل أفكار النساء الأخريات المعارضات كما تقتل القمل على رؤوسهن، وكانت بفضل هذا تتوفر على صديقات يصلنها بكل تفاصيل النساء الآخريات اللاتي لا يتوافقن معها وكانت بذلك تصنع كاريزما شخصيتها بشكل كانت ثرثراتها العائمة معادة وتحتل درجة عالية من المصداقية في الرأي العام الدواري (من الدوار: الحي)، ريادتها هذه فتحت لها أيضا علاقات متميزة حتى مع الرجال، فهي جميلة ممتلئة، كانت تتقن الطبخ بشكل هي صاحبة الشأن في كل حفلات الحي حيث هي المستشارة في أمور الطبخ، في تهييء العروسة والأعراس وغير ذلك مما تستلزمه حفلاتنا الشعبية الفولكلورية وهذا كله لا يعني أن لها علاقات خاصة مع الرجال بل كان الرجال يعتبرونها رقما هاما في مجتمعنا وحتى في الإنتخابات البلدية أو البرلمانية كان لها وزن خاص في تمييل كفة هذا المرشح او الآخر، كان زوجها حدو رجل تقي متدين يعمل بدكانه لبيع مواد الإستهلاك بالتقسيط وكانت له مكانة اجتماعية خاصة وليدة كاريزما زوجته نفسها وربما بمهنته بالدكان كانت تحمل له اخبار الدوار التي كان يغذي بها زوجته أثناء الفراش والتي هي الأخرى كانت تصيغها وتنسجها بشكل مبدع، كان دخلهم متوسط وربما مع ذلك هم الأغنياء بالدوار ولكن الفضل الكبير في ذلك، يعود لزوجته وعلى نقيض ما سيعتقدء المرء تجاهها من خلال علاقاتها الإجتماعية، فهي لم تكن تأخذ مقابل مالي لإدارتها للطبخ والحفلات والأعراس بل كانت هناك امور تحصل لها بالمعجزة، فبمجر إصابة أحد أطفالها برعشة برد يأتي الجميع محملا بالهدايا لمواساتها في ابنها، أما كونها كانت لها علاقات حميمية مع رجال خاصين فلم تكن في الواقع إلا وشايات نساء أخريتها يحسدنها على مكانتها ولا يحظين ببروك يديها في طقطقة تفجير القمل على رؤوسهن.

حدث آخر كان يصنع الكاريزما، في رواية لسعدية اسلايلي حول جبل عوام (الجبال لا تسقط) ذكرت فيها حادث ترشيح احد النقابيين ضد المحجوب الصديقي لنيل الأمانة العامة للنقابة، القصة تروي عن شخص اراد منافسة المحجوب الصديقي في الترشيح فاصطف ضده صف المناضلين يهددونه بالإشارة ولما لم يفهم ودخل مخه احتجزوه وادخلوه على الجص (أو الكص بالمغربية) لكي يتعلم حسن التقدير فيما يتعلق بأسياده النقابيين التاريخيينن الرواية ذاتها تكلمت عن "ماتشيزية" (ذكورية) النقابيين بالإتحاد المغربي للشغل، كانت رواية جميلة بحس انوثي فيمينزمي تصف علاقة النساء بقادة نقابيين كان يفترض فيهم، بما تشبعوه من مبادئ الماركسية، أن يكونوا عبرة في التعامل مع المرأة (لسوء الحظ اهديت الرواية لرفيق إسباني يقرأ العربية بشكل الآن لا أستطيع توثيق وقائع الرواية بشكل مطلوب) وعموما كانت رواية ذكرتني ب"لالة" خدوج التي ادارت دوار جبل عوام بفيمينزمية رائعة دون احتجاز شخص أو تشمر للسواعد.

(لا زالت ثرثرتي لم تصل إلى المراد، صبركم محمود!!)

للأسف، المعلومات التي قدمت للسيدة سعدية اسلايلي عندما كتبت روايتها حول جبل عوام، برغم سياقها الفيمينيزمي الجميل، كانت من طرف مكتب نقابي ذكوري إخواني بجبل عوام، المكتب الذي كان ينظر إلى "لالة" خدوج على أنها عاهرة وكان يقدم ظاهرة الكاريزما على انها ظاهرة قوامة الرجال، في الوقت الذي كانت النساء بجبل عوام صانعات لبطولات نضالات عمال مناجم جبل عوام .

شخصيا، كان (ب. ل) نقابي امي بشكل تام (أقصد امي الكتابة والقراءة) لكن كان ذا ذاكرة ملهمة، كان يتقن فن الخطابة (لغة العمال طبعا) وكان أكثر من ذلك مثل خدوج في ذكر التفاصيل وهذا كان رائعا بالنسبة للعمال وهو ايضا مثل خدوج تعرض للوشاية المغرضة، وشاية ذكورية: يقال انه كان قاتلا قبل التحاقه بجبل عوام وهي برغم سلبيتها منحته القوة الكاريزمية وربما احسن تمثيل للقاتل هو وصفه بأنه قتل دفاعا عن النفس (شرعية الدفاع في الثقافة الأمريكية الذكورية "الديموقراطية")، ربما زوجته كانت أرنب مثل زوج خدوج، ربما ايضا كانت تنعش ذاكرته أثناء النوم بمعلومات تلقتها في حمام النساء كما كان حدو ينعش ذاكرة لالة خدوج من معلوماته كدكاني، لا ادري برغم فصاحة (ب.ل) الأمي الذي كنت أحسده عليها، كانت خطاباته قوية وثائرة برغم أنه لم يكن لا ماركسيا ولا شيوعيا مثلي: كان يومن بالنضال العمالي ووحدتهم ولكنه في نفس الوقت كان ينسف كل النضالات التي قام بها العمال في إرادة الله، اما خدوج وهي مسلمة جيدة كانت لاتحضر الله إلا في مآدب العزاء .

أتذكر أول مرة أردت ان ألقي كلمة في جمع عمالي بمناجم جبل عوام، برغم انتفاخ مخي بالنضال الطبقي، باللينينية، بالماركسية الألتوسيرية والبولنتزية، برغم اطلاعي على كتابات ماو، انجلس، غرامشي، ماركس، مهدي عامل، ثقافات البروليتراية بشكل عام..ـ توقفت عند اول جملة نطقتها، بدت مخيلتي فارغة تماما من كل هذه الثقافات، تاه كل شيء في ذاكرتي فجأة، ربما لأني في تلك المراهقة السياسية كنت اريد ان اكون زعيما نقابيا كالمحجوب الصديقي الملعون، وكان هم أن أكون زعيما مخلا لعامل الثرثرة في العمل النضالي، كان علي ان ألتزم بأبجديات الكاريزما: ان اقتل القمل على رؤوس العمال كما فعلت خدوج.

في جبل عوام، كان هناك عمال رائعون جيدا حتى في السخرية السياسية (الفكاهة السياسية)، اتذكر احد العمال (الآن بسبب السنوات نسيت اسمه وعموما تذكر الأسماء يحتاج إلى زيارة أخرى للمنطقة، فبرغم اني كنت اعرف جميع العمال، الكثير منهم الآن لا أذكر اسمه، ورغم ذلك احتفظ لهم في ذاكرتي بما هم اثروا فيه علي، لازلت اذكر ملامحه حتى الآن ولا اجزم ان اسمه قدور) كنا نلتئم إلى هذا العامل في مجمعه في النفق 10 تحت الأرض في انتظار قبول المصعد، كان الكثير منا يفضل البقاء للإستمتاع بفكاهته هذه ما لم يكن مستعجلا، كان فنانا في السخرية ويتقن طرح معاناتنا في المنجم بأسلوب فكاهي ممتع بنسج ممتع بين ثقافتنا العمالية والشعبوية وتفاهة السياسيين وتناقضات عامة.
  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى