سالم يفوت - هابرماس ومسألة التقنية..

مقدمة
ينتمي يورغن هابرماس(*) Jürgen Habermas إلى الجيل الثاني من مدرسة فرنكفورت أو النظرية النقدية. فقد دأب مؤرخو الفلسفة الألمانية المعاصرة في القرن العشرين على تقسيم مراحل تطور النظرية النقدية إلى مرحلتين أساسيتين : المرحلة الأولى وهي التي تأسست فيها النظرية النقدية على يد كل من هوركهايمر Max Horkheimer وأدورنو Theodor Adorno ثم ماركوز H. Marcuse ؛ والمرحلة الثانية يمثلها هابرماس بشكل أساسي. فقد أمد مدرسة فرنكفورت بدماء جديدة نتيجة تأثره بمصادر فلسفية معاصرة أخرى وإطلاعه الجيد على المناحي الفلسفية المعاصرة في فرنسا ممثلة في فلسفات الاختلاف خصوصا مع ميشال فوكو وجاك دريدا. ولعل كتابه الخطاب الفلسفي للحداثة يعتبر أروع شاهد على ذلك. فقد حاول فيه هابرماس تحليل ودراسة أكثر النصوص الفلسفية التي أدمجت في صيرورتها أسئلة الحداثة ابتداء من فلاسفة الأنوار وكنط إلى دريدا، دون إغفال أي نص تناول مسألة الحداثة من أفق الاتفاق مع فكر الحداثة أو الاختلاف معه. ومن هذا المنظور اختلف هابرماس مع فلاسفة ما بعد الحداثة، ومع دريدا بالذات معتبرا أنهم يمثلون تيارا مناهضا للحداثة، لكن دون أن يبتعد عنهم نهائيا أو يعتبر نفسه نقيضا لهم. “ففي الوقت الذي تنفصم فيه العرى الداخلية بين تصور الحداثة والأسلوب الذي يتم به فهم تلك الحداثة نفسها في أفق العقل الغربي، يغدو ممكنا إضفاء بعض النسبية على عمليات التحديث المتواصلة بشكل أوتوماتيكي تقريبا، واعتماد نظرة الملاحظ ما بعد الحداثي الانتقادية”(1).
من كنط الذي سمح نسقه الفلسفي بانفتاحات فكرية لتدشين أول نظرة فلسفية في الحداثة مع هيغل، كما يعتقد هابرماس، إلى دريدا الذي يعبر عن لحظة فكرية من لحظات ما بعد الحداثة القائمة بشكل من الأشكال، على استلهام نمط السؤال النيتشوي(نسبة إلى نيتشه)، مرورا بماركس وماكس فيبر M.Weber وهايدغر والنظرية النقدية وبياجي وغيرهم..استنادا إلى كل هذا الركام الفلسفي والعلمي، وانطلاقا من الرغبة في جعل النظر الفلسفي أكثر إلتصاقا بواقعه وأكثر نقدية في عالم تنتصر فيه النزعات الوضعانية والذرائعية ويتم فيه إقصاء كل فكر نقدي، أراد هابرماس إعادة بناء النظرية النقدية بشكل يجعلها تستجيب أكثر للمعطيات الجديدة.
وقد اعتمد في عملية إعادة البناء تلك على أعمال الفيلسوف هربرت ماركوز، خصوصا منها كتابه الإنسان ذو البعد الواحد. ولعل كتاب هابرماس: التقنية والعلم كإيديولوجيا(2) هو الكتاب الذي يدشن المرحلة الثانية من مراحل تطور مدرسة فرنكفورت أو النظرية النقدية. فقد عثر هابرماس في أعمال ماركوز على العديد من العناصر التي وظفها في مشروعه الفلسفي ومناسبة للابتعاد قليلا عن النظرية النقدية الأولى. منذ نهاية الكتاب وهو منشغل بنظرية العقلنة: عقلنة الحياة والمجتمع الحديثين.
كما أصدر هابرماس، في السنة نفسها التي أصدر فيها كتاب التقنية والعلم كإيديولوجيا، كتابا آخر يتناول نفس الموضوع تقريبا، إنما ببعض الإسهاب ومن منظور أكثر تجذرا في تاريخ الفلسفة، عنوانه: المعرفة والمصلحة(3). وبهذا العنوان كذلك كان هابرماس قد ألقى سنة 1965 درسا افتتاحيا بجامعة فرنكفورت، ثم نشره ثلاث سنوات فيما بعد ضمن كتابه التقنية والعلم كإيديولوجيا.
إن ما سوف ينصرف إليه اهتمامنا في هذا البحث هو تناول موقف هابرماس من الحداثة والتقنية ومن مختلف التيارات الفلسفية لمعاصرة المناصرة للعلم، وأبرزها الوضعانية المحدثة، أو المؤيدة للتقنية تأييدا يصل إلى حد الإعجاب.
في أصول مناهضة الوضعانية
إن معايشة هابرماس لمجهودات التحديث في ألمانيا، خصوصا بعد الحرب العالمية الثانية، ولمرحلة البناء المسترشد بالعقلانية، حيث الخطاب الثقافي والسياسي يكبت السؤال ويقصى النقد، دفعته إلى اختيار الاستمرار في تقليد ثقافي وفلسفي ألماني يتخذ من السلب والنفي والنقد مبدأه الموجه ويجعل من الفلسفة أداة لتفكيك الأفكار والمعتقدات الرائجة والمتداولة ومحاكمة الفكر الوضعاني الذي يكن له عداء نظريا مكينا(4).
ولو بحثنا عن أصول ذلك العداء لوجدناها منغرسة في أعماق الخيار النقدي لمدرسة فرنكفورت، وتضرب بجذورها فيها. فبالرجوع إلى أسئلة النظرية النقدية يتبين للمرء أن نقد الوضعانية شكل هاجسا أساسيا لدى دُعاة تلك النظرية،المتقدمين منهم و المتأخرين. فالكشف عن الآليات النظرية والتاريخية والعلمية التي حكمت الفكر الوضعاني، والكشف عن إرادة القوة التي كانت تحايث تلك الآليات استدعى منهم جميعا القيام بحفريات الجنوح العلموي لدى النزعات الوضعانية. وسوف نكتفي هنا بنموذج منهم، نعتبره بليغا، هو نموذج هربرت ماركوز (1898-1986).
فقد خصص هذا المفكر العديد من مؤلفاته لنقد كل أشكال الاستقطاب، وعلى رأسها الاستقطاب العلموي والتقني، باعتبار التقنقراطية الوجه الآخر للفلسفة الوضعانية. فإذا كان أفلاطون أراد أن يجعل من الفلاسفة سادة، فإن التقنوقراطيين يريدون أن يجعلوا من المهندسين مجلس إدارة مديري المجتمع”(5).
ففي كتابه العقل والثورة(6) يؤكد أن الوضعانية من حيث اشتقاقها تعني مذهب الإيجاب والقبول Positivisme، وهما أمران يجب أن يفهما في معناهما السياسي والإيديولوجي في سياق القرن التاسع عشر في فرنسا بالذات بعد الثورة الفرنسية. إن الإيجاب كان يعني قبول الأوضاع الراهنة والوقوف منها موقف الرضا والمناصرة؛ خلافا للرفض أو النفي الذي كانت تحمل لواءه فلسفات أخرى عاصرها أوغست كونت (1798-1857)، رائد الوضعانية، في فرنسا أو خارجها، أبرزها فلسفة هيغل (1770-1831) التي كانت ترتكز على فكرة السلب والتناقض، وهو ذات الاتجاه الذي سار فيه ماركس (1818-1882) فيما بعد مع تعديله كي يستقيم على قدميه. هذا فضلا عن الفلسفات الاشتراكية الخيالية في فرنسا كفلسفة سان سيمون (1760-1825) ومذهب برودون (1809-1865) الفوضوي. إنها اشتراكيات تستند إلى فلسفة اجتماعية رافضة تتخذ موقف الرفض من الأوضاع الراهنة ومن النظم الاجتماعية القائمة كما يدعو إلى تغييرها تغييرا جذريا في الوقت الذي اكتفت فيه الوضعانية مع كونت بالدعوة إلى الإصلاح في إطار ما هو قائم وما هو موجود. لذا فإن الإعجاب بالعلم ومعاداة الفلسفة لدى هذا المفكر لا يمكن أن تفهم إلا في هذا السياق، سياق الهجوم المرير على فلسفات السلب والرفض ممثلة في المذاهب الفلسفية الاجتماعية التي عرفت انتشارا في فرنسا، وفي فلسفة هيغل واليسار الهيغلي في ألمانيا.
إن الوضعانية، مع أوغست كونت، لا يمكن أن تفهم على أفضل نحو ما لم نستحضر الخصم الذي كانت هاته الفلسفة تواجهه. فقد جاءت كرد فعل واع على الاتجاهات النقدية الهدامة في فرنسا وألمانيا. وهو رد فعل اتخذ طابعا مريرا بوجه خاص في ألمانيا فقد تم وصف مذهب هيغل، لقاعدته النقدية، بأنه فلسفة سلبية تنفي أي واقع لا معقول. لكن رد الفعل الإيجابي (= الوضعاني المحافظ) رأى في محاولة هيغل قياس الواقع وفق معايير العقل المستقل وتحديا للنظام القائم وبحثا عن إمكانيات الأشياء دون معرفة واقعها الفعلي لأنها تقتصر على الصور المنطقية ولا تصل إلى العمق الفعلي الذي لا يمكن استنتاجه في هاته الصور. إن الفلسفة السلبية، نظرا إلى بنائها التصوري، “تنفي” (أو تنكر) الأشياء على ما هي عليه. فالأمور الواقعة التي تؤلف الوضع القائم أو الحالة الراهنة، حين ينظر إليها في ضوء العقل، تصبح سلبية، محدودة، عارضة -أي تصبح صورا زائلة داخل عملية شاملة تؤدي إلى تجاوزها. وهكذا نظر إلى الجدل الهيغلي على أنه أوضح أنموذج لكل سلب هادم لما هو معطى...”(7).
حارب كونت أيضا هذا النمط الفرنسي من الفلسفة السلبية، أي ضد تراث ديكارت وعصر التنوير.
ولعل النقطة التي يصبح فيها الارتباط واضحا بين وضعانية القرن التاسع عشر والوضعانية المحدثة هي توجيه الفكر نحو الأمور الواقعة، ورفع مكانة التجربة بحيث تصبح هي صاحبة القول الفصل في كل معرفة(8).
تجدر الإشارة أيضا إلى أن المشروع الذي قدمه كونت لبناء علم اجتماع جديد على أسس منهجية جديدة، كان الهدف منه فصل النظرية الاجتماعية عن ارتباطها بالفلسفة السلبية ووضعها في فلك المذهب الوضعاني (= الإيجابي). وفي الوقت ذاته تخلى كونت عن الاقتصاد السياسي بوصفه عماد النظرية الاجتماعية، وجعل من المجتمع موضوعا لعلم مستقل، وهو “علم الاجتماع”(9).
والحقيقة أن الخطوتين كانتا مترابطتين: فعلم الاجتماع أصبح علما نتيجة تخليه عن وجهة النظر المتعالية للنقد الفلسفي. وأصبح ينظر إلى المجتمع الآن على أنه مجموع مركب من الوقائع متحدد بدرجات متفاوتة، تحكمه قوانين عامة بدرجات متفاوتة أي أنه مجال يعامل كأي مجال آخر للبحث العلمي. ورأي كونت أن التصورات التي تفسر هذا المجال يجب أن تستمد من الوقائع التي يتكون منها هذا المجال، أما مضمونات التصورات الفلسفية التي تحاول أن تصل إلى أبعد من ذلك فينبغي استبعادها.
هكذا يرى ماركوز أن اسم الوضعانية (= الإيجابية) اسم سجالي، أي لا يمكن أن يفهم إلا في سياق خلافي واختلافي، أي لا يفهم إلا باستحضار الخصم الذي كان يحاربه. حينئذ يتبين للمرء أنه نحت للدلالة على ذاك التحول من نظرية فلسفية إلى نظرية تريد أن تكون علمية(10). فحلول الملاحظة محل التأمل في علم الاجتماع عند كونت، يعني تأكيد النظام بدلا من أي خروج على النظام؛ وهو يعني سلطة القوانين الطبيعية بدلا من الفعل الحر، والتآزر بدلا من اختلال النظام. والواقع أن فكرة النظام، التي كانت أساسية في مذهب كونت الوضعاني، لها مضمون شمولي في معناها الاجتماعي، فضلا عن المنهجي، ولقد كان التأكيد المنهجي ينصب على فكرة علم موحد، وهي نفس الفكرة التي تسيطر على التطورات الأخيرة للوضعانية(11).
ينعت ماركوز الوضعانية، أو الفكر الإيجابي، في موضع آخر، بأنها فلسفة أحادية البعد(12) تعكس تطور المجتمع الأحادي البعد الجديد وأشكال الرقابة التقنقراطية فيه. ثمة إذن طابع إيديولوجي ملازم لكل جنوح وضعاني وعلموي، فربط صدق الفكر والمعرفة باختيارهما الواقعي، وجعل العلوم الفيزيائية نموذج اليقين والدقة، والاعتقاد بأن تقدم المعرفة منوط بالاحتداء بذلك النموذج، كلها علامات على انتصار معايير الواقع التكنولوجي حيث يتحول العالم إلى عالم أدوات ومنافع ومصالح. لذا فإن ما يميز الحضارة الصناعية المتقدمة ويشهد على التقدم التقني هو الرفاه، والفعالية وافتقاد الحرية الفردية. “وهل ثمة ما هو أكثر عقلانية من إلغاء الفردية عن طريق مكننة الأعمال الضرورية اجتماعيا، لكن الشاقة ؟”(13). إن لغة الفعالية والإنتاجية هي لغة النظام التكنولوجي. وحتى الحقوق والحريات التي كانت عوامل أساسية في المراحل الأولى من المجتمع الصناعي تقل أهميتها وحيويتها في مرحلة أكثر تقدما، وتفرغ من مضمونها التقليدي. “فقد كانت حرية الفكر والكلام والضمير شأنها شأن المشروع الحر الذي كانت تخدمه وتذود عنه تهدف هي المكونة في جوهرها من أفكار نقدية إلى استبدال ثقافة مادية و فكرية بالية بثقافة أخرى أكثر فعالية وعقلانية. وعندما أخذت تلك الحريات والحقوق صفة المؤسسات شاطرت المجتمع الذي أصبحت جزءا لا يتجزأ منه، مصيره وبكلمة واحدة، إن الإنجاز يموه المقدمات”.(14)
يصف ماركوز المجتمع الصناعي المعاصر بأنه مجتمع يضفي صفة العقلانية على اللاعقلانية؛ باعتباره مجتمعا تسنده حضارة منتجة، ناجعة، قادرة على زيادة الرفاه وعلى إضفاء صفة الحاجة على ما هو زائد عن الحاجة وتحويل ما هو كمالي إلى ما هو ضروري والهدم إلى البناء. وبمقدار ما تحول الحضارة القائمة عالم الشيء إلى بعد للجسم والروح الإنسانيين، يصبح مفهوم الاستلاب بالذات إشكاليا. فالناس يتعرفون على أنفسهم في بضائعهم، ويجدون جوهر روحهم في سيارتهم وجهازهم التلفيزيوني الدقيق الاستقبال، وفي بيتهم الأنيق وأدوات طبخهم الحديثة. إن الآلية التي تربط الفرد بمجتمعه قد تبدلت هي نفسها، والرقابة الاجتماعية تحتل مكانها في قلب الحاجات الجديدة التي ولدتها.(15)
فالأشكال السائدة من الرقابة الاجتماعية هي أشكال تكنولوجية بمعنى جديد. ومما لا ريب فيه أن البنية التقنية وفعالية جهاز التدمير والإنتاج قد ساهمتا، في المرحلة الحديثة الراهنة، في إخضاع السكان لتقسيم العمل الحالي. ولكن الرقابات التقنية غدت اليوم تعبيرا عن ذات العقل الذي أصبح خادما لكل الجماعات ولكل المصالح الاجتماعية، بحيث وأن كل تناقض يبدو لا عقلانيا وكل معارضة مستحيلة.(16)
يعتبر ماركوز أن ثمة رابطة ما بين العقل ما قبل التكنولوجي، والمتجلي في علاقات التبعية في أشكالها السابقة على العصر الصناعي، والعقل التكنولوجي. فإذا كان تميز العلاقات الأولى هو طابع التبعية الشخصية فإن ما يميز هذا العقل الأخير هو استمرار التبعية، إنما في لون جديد، إذ يحل محل التبعية الشخصية، شيئا فشيئا نوع آخر من التبعية : تلك التي تخضع المرء “لنظام أشياء موضوعي”، ويعني به القوانين الاقتصادية وقوانين السوق وغيرها... ولئن كان “نظام الأشياء الموضوعي” من صنع السيطرة ونتائجها هو الآخر، فإن السيطرة تعتمد الآن على درجة أكبر من العقلانية، عقلانية مجتمع يدافع عن بنيته الهرمية ويستغل في الوقت ذاته وبصفة أنجع الموارد الطبيعية والفكرية ويوزع على نطاق متعاظم باستمرار أرباح هذا الاستغلال. نحن نحيا ونموت تحت راية العقلانية والإنتاج، كما يقول ماركوز، إنها إيديولوجية النظام الاجتماعي التكنولوجي الذي يرهن العقل النظري بالعقل العملي انطلاقا من أنهما متمايزان ومنفصلان ومن أن الحياد الذي هو جوهري وأساسي بالنسبة إلى العلم الخالص، يمكن نسبته أيضا إلى التقنية. فالآلة لا تبالي بالاستعمالات الاجتماعية التي صنعت من أجلها، وأن كل المطلوب أن تتفق هذه الاستعمالات مع الإمكانيات التقنية للآلة. بيد أن هذا التصور لا يبدو مطابقا للواقع. فالعلاقة القائمة بين العلمي وتطبيقه، بين عالم الإنشاء العلمي وعالم الإنشاء والسلوك، وثيقة جدا وتخضع لمنطق واحد وعقلانية واحدة : منطق السيطرة وعقلانيتها.(17)
يقيم ماركوز البرهان على الطابع الأداتي النزعة للعقلانية الاجتماعية، ذلك الطابع الذي يجعل منها قبليا وبشكل مسبق تكنولوجيا، والتأكيد على أن هاته الأخيرة شكل من أشكال الرقابة والسيطرة الاجتماعية.(18)
يقول ماركوز : “إن التكنولوجيا المعاصرة تضفي صيغة عقلانية على ما يعانيه الإنسان من نقص في الحرية، وتقيم البرهان على أنه يستحيل “تقنيا” أن يكون الإنسان سيد نفسه وأن يختار أسلوب حياته. وبالفعل، إن نقص الحرية لا يطرح نفسه اليوم على أنه واقعة لا عقلانية أو واقعة ذات صبغة سياسية، وإنما يعبر بالأحرى عن واقع أن الإنسان بات خاضعا لجهاز تقني يزيد من رغد الحياة ورفاهيتها كما يزيد من إنتاجية العمل. إن العقلانية التكنولوجية لا تضع شرعية السيطرة موضع اتهام، وإنما هي تحميها بالأحرى والأفق الأداتي النزعة للعقل يطل على مجتمع كلي استبدادي موسوم بالسمة العقلانية”.(19)
يتبين، إذن، أن التقنية ليست شيئا محايدا عديم اللون والطعم والرائحة. كما أنها ليست مجرد تطبيق عملي لممارسة نظرية هي العلم. إنها منطق أو وضع أو موقف فلسفي أوإيديولوجي. ليست آلات وأدوات ووسائل عمل، في يد الإنسان، بل إنها أدوات ووسائل تكرس منطق السيطرة وتكشف عصر التقدم التقني وأيديولوجيا النظام التكنولوجي.
ثمة مشابهات بين هذا الموقف الذي دافع عنه ماركوز ثم هابرماس، وموقف الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر M. Heidegger الذي يعتبر الوضعية الأساسية للأزمنة الحديثة هي “الوضعية التقنية”، ولأن العصر عصر تقني. فالتقنية شكل من أشكال الحقيقة وكيفية من كيفيات الوجود، أو نمط من أنماط تجلياته.
إنه موقف يصبّ في القول “بلا حيادية” التقنية، خلافا للموقف الماركسي الذي يعتبرها مجرد تطبيق للعلم.(20)
لقد تبلور هذا الموقف من التقنية والعلموية، بداية مع كل من هوركهايمر وأدورنو في كتابهما جدل العقل الذي خصصناه لنقد تجليات الحداثة التقنية.(21)
التقنية والعلم كإيديولوجيا
ينفي هابرماس وجود حياد أو براءة أو صفاء علمي. فالعلم في سياق العقلانية التقية تحايثه حسابات السياسة أي إرادة قوة بالمعنى النتشوي، ينبغي إخراجها إلى واضحة النهار. وهو أمر يتطلب نقد الوضعانية والتيارات المعجبة بالعلم والنزعة التقنية. فهاته جميعا تعبيرات متنوعة للإيديولوجيا المكونة للحداثة التقنية.
تعتبر الوضعانية، في نظر هابرماس، تعبيرا عن ذلك الجنوح إلى تحنيط العلم لدرجة يتحول معها إلى إيمان جديد واثق من قدرته الهائلة على تقديم أجوبة لكل الأسئلة المطروحة واقتراح حلول ناجعة لكل القضايا. أما النزعة التقنية فهي الجنوح إلى اعتبار التطبيق العملي للمعرفة العلمية هو وحده الكفيل بأن يقدم المجتمع ؛ بل إنها تنظر إلى التقنية نظرة أداتية محيلة إياها إلى وسائل محايدة قوامها التوظيف العملي للمعرفة العلمية ومتناسية أن التقنية تحول الإنسان نفسه إلى وسائل وأدوات، فتقمع طاقاته الإبداعية والتحررية. بهذا المعنى تكون إيديولوجيا ينبغي انتقادها من خلال نقد الحداثة والمجتمع الحديث الذي يجمع بين العلم والتقنية والصناعة وحول ذلك إلى “قوة منتجة أولى”. فمنذ أن تحول العلم إلى قوة منتجة ذات وظائف اجتماعية، بات قوة إيديولوجية باعتباره يلعب دورا أساسيا في منح المشروعية للنظام الاجتماعي والسياسي الحديث المؤسس على العقلانية التقنية.
يضع هابرماس على عاتقه، إذن، مهمة كشف الغطاء عن الوهم العلموي والتقنوي الذي يجعل النموذج التقنوقراطي النموذج الأسمى في العلاقة بين القرار السياسي والمعرفة العلمية.(22) وقد حاول في النص الأساسي الذي خصصه لمسألة التقنية، وهو كتاب : التقنية والعلم كإيديولوجيا أن يستأنف ابرز أطروحة دافع عنها ماركوز ويناقشها ؛ ألا وهي الاعتقاد بأن التكنولوجيا تضفي على الأشياء صفة الأدوات وتحيلها إلى مجرد وسائل فتنقلب بذلك إلى عائق أمام التحرر إذ يتحول الإنسان نفسه فيها إلى أداة.
يرجع الفضل إلى ماكس فيبر M. Weber في استخدام مفهوم “المعقولية” لوصف الشكل الرأسمالي للنشاط الاقتصادي، والنمط البرجوازي للمبادلات، والأنماط البيروقراطية للسيطرة. وعليه فإن العقلنة تعني توسيع المجالات المجتمعية التي تخضع لمعايير القرار العقلي. والتي تشير بموازاة مع تصنيع العمل الاجتماعي ومكننة الحياة الاجتماعية وإضفاء الصفة الآلية والتقنية على حياة الإنسان.(23) أن ما يميز الحضارة الصناعية المتقدمة هو رزوحها تحت أشكال من الرقابة المتعددة المستويات تحشر في عداد العقلنة والتخطيط والترشيد المتوخية كلها تحقيق “غايات” و”أهداف” معقلنة.
ويؤكد هابرماس أن “العقلنة” المتزايدة للمجتمع تتم بموازاة مع عملية إضفاء صبغة المؤسسة على التقدم العلمي والتقني. فبقدر ما يتدخل العلم والتقنية في مؤسسات المجتمع ويفقدها طابعها كمؤسسات، بقدر ما تغدو الإنتاجية هي المعبئ الوحيد للمجتمع وتضع نفسها فوق كل مصلحة.
هكذا يحول هابرماس مفهوم العقلنة، مثلما استخدمه ماكس فيبر، ويكيفه تكييفا يجعله يسير على قدميه، وليس على رأسه كما كان الأمر مع ماكس فيبر. وهابرماس، هنا، يسير في خطى ماركوز الذي انتقد الطابع الصوري للمعقولية في صيغتها الفيبرية وكأنها مجرد عملية تتم في حدود نشاط عقلي يقرره رئيس مؤسسة رأسمالية متوخيا منه تحقيق غابات وأغراض عملية استناد إلى معايير العلم والتقنية. فهو يرى أن خلف هذه “المعقولية” المظهرية ثمة إرادة سياسية ثاوية تسعى إلى توسيع مجال السيطرة وعقلنته. فكل عقلانية تكنولوجية يحايثها منطق للسيطرة يتمثل في إخضاع الإنسان لنظام الأشياء. فطالما أن معقولية من هذا القبيل تقوم على وضع الخطط والاختيار بينها بحثا عن أفضلها، واستخدام التكنولوجيا الملائمة وتهيئ الأنظمة المناسبة والمواتية، لبلوغ غايات ثابتة ومحددة، فإنها تبقى شيئا يتم في غفلة عن التفكير وفي خلسة من المصالح الاجتماعية الكبرى. معقولية من هذا القبيل، لن تخدم سوى علاقات التسيير والتحكم التقني؛ إنها تفترض نوعا من السيطرة على الطبيعة أو على المجتمع. ذلك أن النشاط العقلي حينما يطرح لنفسه غايات يتحول إلى رقابة. لذا فإن “عقلنة” شروط الحياة تعني في نهاية الأمر تحويل السيطرة إلى مؤسسة لها شرعيتها، والتي لا ينتبه إلى أنها شرعية سياسية: وهذا هو جوهر النقد الذي يوجهه ماركوز ثم هابرماس لماكس فيبر.(24)
ففي المجتمعات الرأسمالية المتقدمة صناعيا، تتجه السيطرة إلى أن تفقد طابعها القمعي الهيمني لتتحول إلى نوع من السيطرة “المعقلنة” دون أن تتخلى، مع ذلك، عن طابعها السياسي أو تفقده.
لكن الطابع القمعي لا يختفي كلية، بل يتخذ لنفسه مظاهر وتجليات تتمثل في خضوع الأفراد ورزوحهم تحت نير جهاز الإنتاج والتوزيع واندماجهم الكلي في منطقه. إلا أن الأفراد لا يعون بالجوهر القمعي لكل ذلك لأنه يضفي على نفسه رداء جديدا من الشرعية مفاده الزعم بأن السيطرة على الطبيعة والتحكم في الإنتاجية المتزايدة هو ما سوف يضمن للأفراد شروط عيش رغد.
لقد فاق تعاظم قوى الإنتاج، والذي هو أحد مميزات التقدم العلمي والتقني المعاصر، كل النسب والحدود. ومبادئ العلم الحديث قد ركبت وبنيت، مسبقا، على نحو يمكن معه استخدامها كأدوات مفاهيمية من طرف عالم الرقابة الإنتاجي الذي يجدد نفسه بصفة أوتوماتيكية. وكان من نتيجة ذلك أن اندمجت النزعة الإجرائية النظرية بالنزعة الإجرائية العملية وامتزجت بها. وهكذا قدم المنهج العلمي، الذي فتح الباب على مصراعيه أمام السيطرة الفعالة على الطبيعة، مفاهيم محضة، ولكنه قدم أيضا مجموع الأدوات التي سهلت سيطرة الإنسان على الإنسان على نحو مطرد الفاعلية من خلال السيطرة على الطبيعة. ولقد اصبح العقل النظري، بمحافظته على بقائه وحياده، خادما للعقل العملي. ولقد كان هذا التلاقي مفيدا لكليهما. واليوم ما تزال السيطرة قائمة، ولقد أخذت طابعا أكثر شمولا بفضل التكنولوجيا، وبوجه خاص بوصفها تكنولوجيا. فالتكنولوجيا تبرز ابتلاع السلطة السياسية من خلال امتدادها إلى كل دوائر الثقافة.
إن التكنولوجيا المعاصرة تضفي صيغة عقلانية على ما يعانيه الإنسان من نقص في الحرية، وتقيم البرهان على أنه يستحيل “تقنيا” أن يكون الإنسان سيد نفسه وأن يختار أسلوب حياته. وبالفعل أن نقص الحرية لا يطرح نفسه اليوم على أنه واقعة لا عقلانية أو واقعة ذات صبغة سياسية، وإنما يعبر بالأحرى عن واقع أن الإنسان بات خاضعا لجهاز تقني يزيد من رغد الحياة ورفاهيتها كما يزيد من إنتاجية العمل.
إن العقلانية التكنولوجية لا تضع شرعية السيطرة موضع اتهام، وإنما هي تحميها بالأحرى، والأفق الأداتي الوسيلاني النزعة للعقل يقود إلى مجتمع كلياني مستبد وقد أضفيت عليه الصفة العقلانية.(25)
إن “العقلنة” في هذا المجال، التقني والأداتي، لن تفهم حقيقتها، حسب هابرماس، إلا في المعنى الفرويدي : عقلنة الكبت والسيطرة عليه.
إن فكرة كون العلم الحديث يعتبر حصيلة تكوين تاريخي، لم يقتبسها هابرماس، وقبله ماركوز، من “التفكيك” الهايدغري للميتافيزيقا الغربية، بل اقتبسها من هوسرل وبالضبط من كتابه : أزمة العلوم الأوربية.(26)
وفي سياق مادي متمركس، حاول أرنست بلوخ E. Bloch أن يطور هذه الفكرة لينتهي إلى أن معقولية العلم الحديث حرفها النظام الرأسمالي، مما جعل التقنية الحديثة تفقد براءتها كقوة إنتاجية خالصة. لكن ماركوز يعتبر أول من اتخذ نفس الفكرة منطلقا تحليليا لنظرية في المجتمع، مجتمع الرأسمالية المتقدم. وبهذا الصدد يذكر هابرماس أن لديه تحفظا من تلك النظرية لأنها تعاني من عدة التباسات لم يدخل في تفاصيلها.
ومن مؤاخذاته على ماركوز، بخصوص هذه المسألة أنه يسقط في نوع من المثالية الحالمة التي تؤمن بانبعاث علم وتقنية جديدين بعد انتهاء سيطرة الإنسان على الإنسان واندثار أشكال الرقابة التي تحول دون تحرر الإنسان؛ وهو ذاته الموقف الذي دافع عنه ماركس الشاب في مخطوطات 1844 والعديد من أقطاب مدرسة فرنكفورت أنفسهم، فيما بعد، أمثال هوركهايمر، وأدورنو وغيرهما، بصيغ متخفية ومواربة.(27)
وحجة هابرماس على ما يقول، نص صريح لماركوز يقول فيه: “ولكن ما أحاول أن أبينه هو أن العلم قد اتخذ بفعل منهجه ومفاهيمه، وسيلة لتعزيز عالم ظلت فيه السيطرة على الطبيعة مرتبطة بالسيطرة على الإنسان. فالطبيعة، المعقولة والملجومة من قبل العلم، ما تزال ماثلة في جهاز الإنتاج والتدمير التقني الذي يضمن للأفراد حياتهم ويسهلها، والذي يخضعهم في الوقت نفسه لأرباب الجهاز. وهكذا يتداخل تسلسل العقل الهرمي مع تسلسل المجتمع الهرمي. ومن هنا أقول: إنه لو طرأ تغير على اتجاه التقدم فحطم العلاقة الوثيقة القائمة بين عقلانية التقنية وعقلانية الاستغلال، لطرأ أيضا تغير على بنية العلم بالذات. وفي مثل هذه الحال ستتطور فرضيات العلم، من غير أن تفقد طابعها العقلاني في سياق تجريبي مغاير تماما (سياق عالم تمت تهدئته)، وسينشيء العلم بالتالي مفاهيم عن الطبيعة مغايرة كليا وسيقرر وقائع مغايرة جوهريا.(28)
وكأن ماركوز، من خلال هذا النص، يلوح بإمكانية وجود علم غير مرتبط بالسيطرة، اي علم متحرر وتحرري، أي علم لا تشد فيه التكنولوجيا قبضتها وهيمنتها تدريجيا على الطبيعة لكي لا يشدد الإنسان قبضته على الإنسان ويحكم هيمنته تدريجيا عليه. أي أن صاحب كتاب الإنسان ذي البعد الواحد، يتناسى أن ثمة ارتباطا وثيقا بين التقنية مثلما هي متداولة في الازمنة الحديثة والمعاصرة وبين بنية النشاط العقلاني المتجه نحو تحقيق غايات محددة: وهو ما يفسر ضرورة الأشكال المتعددة للرقابة والاحتكام إلى النجاعة والإنتاجية. وكأن تاريخ التقنية هو تاريخ لإضفاء الموضوعية والأداتية على النشاط العقلاني للإنسان بالتدريج.(29) وعليه لا يتصور هابرماس كيف يمكن التخلي عن التقنية، عن هاته التقنية لصالح أخرى تختلف عنها اختلافا نوعيا تكون فيها الطبيعة شريكا للإنسان بدلا من أن تظل موضوعا لاستغلاله.(30)
وبهذه المناسبة يدعو هابرماس إلى ضرورة القيام بمراجعة نقدية للعديد من الأطروحات الأساسية التي يستند إليها ماركوز والتي هي، نوعا ما، أطروحات تنتمي إلى المادية التاريخية. لا بد في اعتقاده من إضفاء صفة النسبية على مجال انطباق مفهوم الإيديولوجيا ونظرية الطبقات واللذين يشكلان الإطار المفاهيمي الذي ضمنه بلور ماركس الفرضيات الأساسية للمادية التاريخية، كما لابد من إعادة صياغته انطلاقا من اعتبارات جديدة. وهو هنا يقترح استبدال الزوج: قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، بزوج آخر أكثر تجريدا هو العمل والتفاعل. فعلاقات الإنتاج تميز مجالا لم ينغرس فيه الإطار المؤسسي إلا خلال المرحلة الرأسمالية الليبرالية من تطوره؛ أما قبلها أو بعدها فلا. صحيح أن قوى الإنتاج، حيث تتراكم عمليات التعلم المنظمة في الأنظمة الفرعية للنشاط العقلاني الهادف إلى تحقيق غايات محددة، شكلت منذ البدء محركا للتطور، إلا أنها، على ما يبدو، وخلافا لما تصوره ماركس، لا تشكل طاقة ثورية محررة في كل الظروف والأحوال تسير دوما في اتجاه الانعتاق. على أية حال، لم يعد صحيحا منذ أن أصبح النمو المتصاعد لقوى الإنتاج تابعا لوتيرة التقدم العلمي والتقني والذي هو تقدم يقوم بأداء وظيفة إضفاء الشرعية على السيطرة. ويفترض هابرماس أن النظام المرجعي القائم على العلاقة بين الإطار المؤسسي (أي التفاعل) وبين الأنظمة الفرعية للنشاط العقلاني الهادفة إلى إنجاز غاية محددة (أي العمل بمعناه الواسع) أكثر ملاءمة لإعادة بناء تاريخ المراحل الاجتماعية الثقافية التي مرت بها البشرية.(31)
غير أن هابرماس ما يلبث أن يعود إلى الأطروحة الماركوزية الشهيرة التي ترى أن الفئات المهمشة وحدها، في المجتمع الصناعي المتقدم، هي التي لا تقع تحت نير الوعي التقنوقراطي(32) ويعني هذا أنها هي القادرة على تحرير هذا المجتمع، فتلك الفئات تشكل البديل الموضوعي الجديد للطبقة العاملة التي اندمجت في المجتمع الرأسمالي وأصبحت تستفيد منه؛ أي تحولت إلى قوة إيجاب عوض أن تكون قوة سلب مثلما اعتقد ماركس.
فمنذ أن أصبح العلم قوة إنتاج ذات وظائف مجتمعية، صار من الضروري إعادة النظر ومراجعة الموقف من التقدم التقني والعلمي وانعكاسه على بنية المجتمع الصناعي المتقدم ؛ كما بات من الضروري إعطاء نفس جديد لنقد النزعة العلموية والوضعانية من حيث إنه نقد لم يعد من الممكن أن يظل شأنا ذا صلة وارتباط بالخلافات النظرية داخل جدران الجامعة.
المعرفة والمصلحة
أشرنا، آنفا، إلى أن هابرماس ينفي وجود “حياد” علمي في سياق العقلانية التقنية. فالعلم والتقنية، في المجتمعات المتقدمة صناعيا، تحايثهما حسابات السياسة. ولعل هذا ما يفسر الموقف التقليدي لمدرسة فرنكفورت المعادي للمذهبين اللذين يعبران عن الإيديولوجية المكونة للحداثة التقنية ويضفيان عليها شرعية موهومة أولاهما: النزعة الوضعانية والنزعة التقنية، ورديفتهما النزعة العلموية.
أبرزنا، سالفا، تجذر نقد هاته النزعات الثلاث في التراث الفرانكفورتي خصوصا مع هوركهايمر وأدورنو وماركوز، وقلنا إن معايشة هؤلاء لمجهودات التحديث في ألمانيا، خصوصا بعد الحرب العالمية الثانية دفعتهم إلى خيار السير في تقليد ثقافي وفلسفي ألماني يتخذ من السلب والنفي والنقد مبدأه الموجه ويجعل من الفلسفة أداة لتفكيك الأفكار والمعتقدات الرائجة ومحاكمة الفكر الوضعاني. ويجمل بنا أن نذكر بأن الوضعانية، في نظر هابرماس جوهرها تقديس العلم والاقتناع بقدراته السحرية الخارقة على تقديم حلول وأجوبة لكل الأسئلة والمشاكل. أما النزعة التقنية فقوامها إحالة المعرفة العلمية والتكنولوجية إلى إيديولوجيا.
هذا من جهة، ومن جهة ثانية يذهب هابرماس إلى أن ما جعل من العلم قوة إنتاج ذات شأن في المجتمع المعاصر المتقدم، ارتباطه بالتقنية والصناعة الحربية والتصنيع المدني والتسيير الإداري وعملية صنع القرار واتخاذه. وهذا ما جعل العلم يتعرض لعملية تسييس هو والتقنية، مثلما جعل السياسة تتعرض لعملية علمنة. لقد أصبح التقدم العلمي والتقني المحرك الحقيقي لتوسع قوى الإنتاج، مما كرس الأطروحات الوضعانية التي تصب جميعا في مماثلة المعرفة بالعلم ومماهاتها به.(33) وفي ذلك إضفاء، غير مباشر، للشرعية على النظام السياسي والاجتماعي القائم على العقلانية التقنية وعلى كل القيم والشعارات التي أفرزتها هاته الأخيرة في المستوى الإبستمولوجي النظري أو في المستوى العملي: كالنجوع والفعالية والواقعية والإجرائية والبرغماتية.
يميط هابرماس اللثام عن الأوهام الثاوية خلف هاته المفاهيم التي تصب جميعا في تكريس سيادة العلم والتقنقراطية وسيادة النموذج التقنقراطي. كما يزيح ألقاب عن وهم موضوعية المعرفة العلمية وبراءتها ونقائها، وذلك من خلال إبراز أشكال تخفي المصلحة والمنفعة الإنسانيتين في الممارسة النظرية العلمية.
ففي مقدمة كتاب المعرفة والمصلحة يعلن هابرماس عن نيته في إعادة بناء ما قبل تاريخ الوضعانية المحدثة وذلك برد الاعتبار للتأمل الفلسفي خصوصا وأن الوضعانية تريد أن تبني نفسها كاتجاه، على أنقاض التصورات التقليدية للعالم ولا سيما الميتافيزيقية منها، وعلى فهم لا تاريخي للعلم يحيل الوقائع إلى معطيات مباشرة. لذا لا بد من رد الاعتبار للفلسفة وللسؤال الفلسفي لا في ثوبه الميتافيزيقي فحسب، بل وكذلك في ثوبه الابستمولوجي من خلال تنشيط المعرفة العلمية واستئناف النظر فيها كممارسة تاريخية وكحركة فكرية وكفعل فلسفي يعطي للعلوم التجريبية قيمتها الإجرائية الحقيقية وللعلوم الاجتماعية مكانتها الفعلية في تقسيم العمل النظري. يذهب هابرماس إلى أبعد من ذلك حينما يدعو إلى إعادة بناء الوضعانية المحدثة من منطلق القصد المنهجي في تحليل ارتباط المعرفة والمصلحة. ذلك أن الانتقال من نظرية المعرفة إلى نظرية العلم (أو الابستمولوجيا) لم يكن انتقالا بدون خسائر وضحايا. وأبرز ضحية، حسب هابرماس، هو التفكير الفلسفي. إن الابستمولوجيا الوضعانية أساسها نفي التفكير والاستغناء عنه.(34) من ضحاياه، أيضا، الفهم الذي يطرح كمقابل للتفسير ومعارض له. وهابرماس، في نقده للوضعانية بمختلف صيغها، انتبه إلى أن الفهم ومختلف مشتقاته كان يقصي من طرف الوضعانيين باسم العلمية والحذر العلمي ؛ هذا مع أن تكوين العلوم التجريبية نفسها يتضمن بالضرورة لحظة فهم، ولو بصورة ضيقة، ثم في مرحلة ثانية عندما تتأكد شرعية الفهم باعتباره مؤسسا للعقلانية وموسعا لمجال الابستمولوجيا ضد المحاذير الوضعانية، يتعين مواجهة إدعاء علوم التأويل في زعمها بأنها تعتبر البديل الوحيد للوضعانية. ومن أجل دحض هذا الزعم أثبت أن الهيرميتوتيكا نفسها غير ممكنة ما لم تتوفر لحظة التأمل الذاتي النقدي مثلما تعكسه العلوم النقدية وهي في اعتقاد هابرماس: الماركسية والتحليل النفساني والفلسفة بوصفها نظرية نقدية. لأن كل هيرمينوتيكا لا تستند إلى الإنشغالات النقدية تظل عاجزة عن أداء دور حقيقي لا يسقط في الإيديولوجية.
يعترض هابرماس، إذن، على النزعات الوضعانية بخصوص موقفها من العلوم التجريبية؛ ودورها الايديولوجي كنزعات تضفي صفة الشرعية على أشكال الرقابة والقمع في المجتمع الصناعي المتقدم برفعها شعار “حياد” العلم والتقنية وبراءتهما، ومناداتها بضرورة توفر ذلك حتى في العلوم الاجتماعية كشرط للحاقها بركب العلوم الدقيقة. وهو شرط يتجاهل خصوصية العلوم الاجتماعية ونوعية أساسها الابستمولوجي، كما يتغافل عن المحدودية المنهجية والمفاهيمية والإجرائية لكل حقل علمي.
يؤكد هابرماس، إذن، على ألا حياد في الممارسة العلمية إذ كل نمط من أنماط المعرفة يخضع لتوجيه مصلحة معينة. ومن أجل الكشف عن المصالح الثاوية خلف كل نشاط معرفي تتعين ممارسة النقد في بعده الاستكشافي الحفري. وهو أمر لا تسعف الباحث فيه سوى العلوم الاجتماعية المسلحة بأعمال فرويد ونيتشه وماركس.(35)
ويميز هابرماس بين ثلاثة أنواع من المصالح:
ثمة أولا المصلحة التقنية أو الأداتية، وهي تلك التي تنظم العلوم التجريبية. فهاته الأخيرة تتحدد في كون دلالة عباراتها ذات الطابع التجريبي تكمن في قابليتها للاستغلال التقني. وهذا هو سر الارتباط بين المعرفة التجريبية والمصلحة التقنية.
ثمة ثانيا المصلحة العلمية ومجالها هو مجال التواصل بين البشر والذي هو حقل العلوم التاريخية التأويلية التي تنطلق من فهم المعنى عبر قناة التأويل، تأويل الخطابات والنصوص.
ثمة أخيرا المصلحة من أجل التحرر، ومجالها العلوم الاجتماعية النقدية (الماركسية والتحليل النفساني وفلسفة التأمل النقدي). فالمصلحة من أجل الانعتاق توفر الإطار المرجعي للفرضيات النقدية باعتبار أن التأمل النقدي يحرر الذات من سلطة الأصنام والأوهام وقوى الجمود.(36) ما تجدر الإشارة إليه هو أن المصلحة لا تكون نشيطة إلا داخل الفعل النقدي الذي يكشف إلى واضحة النهار المصالح المحركة للأنشطة التي تولدها ضغوط المؤسسة.
المصلحة التقنية مؤشر على بعد العمل، والمصلحة العملية مؤشر على بعد التفاعل، والمصلحة التحررية المؤسسة على النقد مؤشر على الفعل النقدي.
ويتبين لمتصفح كتاب هابرماس، المعرفة والمصلحة، والذي تناول فيه بالدرس مفهوم المصلحة، الحضور القوي للتراث النقدي الألماني انطلاقا من كنط إلى فرويد وماركس مرورا بهيغل ونيتشه. غير أن الملاحظ هو أن هابرماس كان منشغلا بتطوير هذا التراث النقدي كي يرقى إلى نظرية للمجتمع تصلح أن تطرح عناصر نظرية تواصلية في الحداثة.(37) وهذا ما أدى به إلى إقصاء كل النزعات التي تكبت السؤال النقدي وعلى رأسها النزعة الوضعانية التي تطرح العلم باعتباره النشاط الوحيد الذي ينتج عبارات ذات معنى، مقصية بذلك التفكير في إيديولوجيا العلم والتقنية من خلال كبت السؤال بخصوص المصالح الاجتماعي الآجلة والعاجلة التي تكمن خلف كل قرار تقني.وبذلك تتكرس مشروعية السيطرة التقنية للمصالح القائمة،كما تظل المضمرات الايديولوجية للعلم والتقنية في الظل لا تطالها يد النقد
خاتمة
أوقفتنا الصفحات السابقة على موقف هابرماس من الحداثة والتقنية ومن مختلف التيارات المناصرة للعلم وعلى رأسها الوضعانية المحدثة. وقد تأكد لنا بهذا الخصوص أن ذلك الموقف ينحو، إلى حد كبير، نفس المنحى الماركوزي رغم أنه يوحي لنا بابتعاده قليلا عنه في بعض الأحيان إلى حد أبحنا فيه لأنفسنا مرة القول بوجود مشابهات بين موقف هابرماس وموقف هايدغر من مسألة التقنية وفي النقطة المتعلقة بنفي وجود “حياد” في العلم والتقنية لكنه ما يلبث أن يعود إلى الأطروحة الماركوزية التي مفادها أن الفئات المهمشة في المجتمع الصناعي المتقدم هي وحدها التي لا تقع تحت نير الوعي التقنقراطي،أي أنها هي وحدها القادرة على تحريره
والحقيقة أن فئة الطلاب، والتي يقصدها ماركوز وهابرماس، ليست طبقة بالمعنى الصحيح للعبارة لكون أوضاع أفرادها المتشابهة أوضاعا عابرة وقتية ما يلبث بعدها أولئك الأفراد بعد تخرجهم من الجامعة أن يعودوا إلى انتماءاتهم الطبقية الأصلية، يضاف إلى هذا أن المجتمع الرأسمالي المتقدم علميا وصناعيا، مثلما استوعب الطبقة العاملة وأدمجها فيه، استوعب كذلك فئة الطلاب خصوصا بعد أحداث ماي 1968 بباريس. فالإصلاحات التي قامت بها السلطات الفرنسية لهياكل الجامعة وبرامج التعليم بها، وتنويع المسالك التخصصية بها، كلها أدت إلى احتواء الغضب الطلابي وقادت إلى تلافي أسبابه الممكنة مستقبلا، وهو ما عرف باسم مصطلح “التسوية”. ومن الأمور الجديرة بالملاحظة، بهذا الصدد، أن الوعي التقنقراطي هو الذي كتبت له السيادة، في النهاية، حتى داخل الوسط الطلابي. ولا أدل على ذلك من تناقص عدد الطلاب الأوربيين الذين يقبلون بعد حصولهم على شهادة الباكلوريا (أو الثانوية العامة)، على الدراسات النظرية الطويلة الأمد، وتفضيلهم عليها الدراسات التي تقدمها المعاهد المتخصصة في التسيير مثلا والتدبير والمحاسبة والإعلاميات وغيرها من التخصصات التي استحدثت لتصب في تعزيز المجتمع التقنقراطي وخدمة أغراضه والاستجابة لمتطلباته وأهدافه.
أما عن المشابهات الموجودة بين موقف هابرماس وموقف هايدغر من التقنية، فإنها لا تعدو أن تكون مشابهات سطحية بدليل النتائج التي توصل إليها كل واحد منهما، وبدليل موقف الأول من الثاني والذي عبر عنه في الصفحات التي خصصها له في كتابه: جوانب فلسفية وسياسية. إنه موقف واضح لا غبار عليه، يقرأ هايدغر قراءة سياسية لا تغفل ماضيه وقراءة فلسفية تقليدية تريد “التفكير بهايدغر ضد هايدغر”.(38)
تجدر الإشارة أيضا إلى أن نقد هابرماس للوضعانية يخلط بين الوضعانية المنطقية والفلسفة التحليلية والعقلانية النقدية لكارل بوبر فهو يجمع هذه الاتجاهات في سلة واحدة مهملا الفروق بينها والتحولات التي عرفها كل اتجاه خصوصا تجديدات بوبر وغيره والتي أعطت الوضعانية المحدثة نفسا جديدا جعلها تتحول معه إلى عقلانية نقدية. هذا في الوقت الذي ظل فيه الشغل الشاغل لهابرماس هو التأكيد على أن الوضعانية المحدثة تستبعد الفهم باسم الحرص والحذر العلميين: لكن الحقيقة هي أن فلسفة العلوم لدى بوبر، مقارنة بمثيلتها لدى مدرسة فرنكفورت، أبعد من الوضعانية نتيجة ارتباطها، كمدرسة، بالتراث الفلسفي الميتافيزيقي الألماني(39)، أي بتراث حالم يضرب بجذوره عميقاني فلسفة التاريخ. ويعني هذا أن عقلانيتها لا تستجيب، في الحقيقة، لشروط العقلانية، لأن “العقل الكلي” لفلاسفة التاريخ هو، في نهاية المطاف، لا عقلاني وقمعي يتخذ لنفسه رداء عقليا.(40)
ولعل هذا التمسك بالتراث الفلسفي الميتافيزييقي الألماني هو ما يفسر لنا لم دخل هابرماس في سجال وحوار مع فلاسفة الاختلاف، فرغم دعوة هؤلاء إلى ما بعد الحداثة، فهو يعتبرهم جزءا من هذا الذي ينادون بالخروج منه ومظهرا من مظاهره. ومهما كانت مشاكل الحداثة، فإن ذلك لا يبيح، في نظر هابرماس، الانسحاب منها أو الاستسلام أمامها ؛ لأن ذلك يعني انسحاب الفلسفة من زمنها. وهو يعتبر التخلي عن العقل والعقلنة مظهرا من مظاهر ذلك الانسحاب وعزوفا عن الاستمرار بالمشروع الفكري الأنواري. وهذا ما يفسر في اعتقاده افتقاد ما بعد الحداثيين إلى أي تصور مستقبلي.
كان من الصعب على هابرماس أن يلتقي مع فلاسفة الاختلاف أو أن يشاطرهم آراءهم ومقدماتهم والنتائج التي اهتدوا إليها رغم أنه يعتبر نفسه جزءا من ما بعد الحداثة الفكرية. وصعوبة اللقاء تعود اولا إلى الموقف من العقلنة، لأنهم يرون فيها مصدر معاناة وسبب قلق وجودي يعيشه الإنسان الحديث، بحكم أن هذه العقلنة اقترنت بآليات الدولة الحديثة وفرضت أنماطا أحادية البعد على الأفراد والجماعات. وفي هذا المستوى النقدي يلتئم العديد من الفلاسفة انطلاقا من نيتشه إلى هايدغر إلى فلاسفة الاختلاف وفلاسفة النظرية النقدية وفوكو...
غير أن ما يعيبه هابرماس على هايدغر وفوكو ودريدا، هو أنهم يركنون إلى خيار جذري في نقد العقلنة دون التمييز بين ما هو أداتي ذرائعي منتج للاستلاب والتشيؤ، وما ساعد على تحرر الإنسان من عبودية الطبيعة والأشياء، فنقد العقلانية الذرائعية الأداتية ضرورة ما بعدها ضرورة، لكن شريطة أن تكون أداة النقد قادرة على ممارسة النقد على ذاتها.(41)
السبب الثاني لعدم إمكانية الالتقاء، اهتمام هابرماس بمسألة التواصل وتأكيده على أخلاقية التواصل، في وقت اعتبر فيه فلاسفة الاختلاف هذا الأخير عنصرا مؤسسا للنظام العام. هذا فضلا عن أن كل رغبة في سن أخلاقية للتواصل لا بد أن تحتكم إلى منطق سلطة ما وهو شيء لا ينسجم والقول بالاختلاف.(42)
(*) ولد سنة 1929 بمدينة فرنكفورت بألمانيا.
1 – J. Habermas, le discours philosophique de la modermité, Paris, 1988, p. 3.
2 – صدر الكتاب باللغة الألمانية لأول مرة سنة 1968. نحن نعتمد الترجمة الفرنسية.
J. Habermas, la technique et la science comme idéologie, trad. Franc. J. R. Ladmiral, Paris, 1973.
3 – J. Habermas, Connaissance et intérêt, trad. Franc. Gérard Clémençon, Paris, 1976.
صدر الأصل الألماني سنة 1968، وأعاد المؤلف طبع الكتاب سنة 1973 مرفقا إياه بتذييل هام. والنص الفرنسي الذي نعتمده هو نص الطبعة الثانية.
4 – محمد نورالدين أفاية، الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة، الدارالبيضاء، 1991، ص 78.
5 – M. Horkheimer, Eclipse de la Raison, Paris, 1974, p. 68.
6 – هربرت ماركوز، العقل والثورة، ترجمة فؤاد زكريا، بيروت، 1979.
7 نفس المصدر، ص 313.
8 نفس المصدر، ص 315.
9 نفس المصدر، ص 327.
10 نفس المصدر، ص. 327.
11 نفس المصدر، ص 334.
12 هربرت ماركوز، الإنسان ذو البعد الواحد، ترجمة ج. طرابيشي، بيروت، 1971، ص195.
13 نفس المصدر، ص 37.
14 نفس المصدر، ص 37.
15 نفس المصدر، ص 45.
16 نقس المصدر، ص 45.
17 نفس المصدر، ص 187.
18 نفس المصدر، ص 190.
19 نفس المصدر، ص 190.
20 للمزيد من الإطلاع على موقف ماركس من التقنية، انظر :
Kostas Axclos, Marx penseur de la technique, 2 Vol. Paris, 1961.
21- M. Horkheimer, Th. Adorno, la dialectique de la Raison, Paris, 1974.
22 محمد نورالدين أفاية، مصدر آنف، ص 62.
23 – J. Habermas, la technique et la science comme idéologie, P. 3.
24 – Ibid., p. 5.
25 – Ibid., p. 9.
الملاحظ أن هابرماس يتابع هنا ماركوز في كتابه : الإنسان ذو البعد الواحد، ص 190 191.
26 نشر النص الألماني في لاهاي سنة 1954ن وترجم إلى الفرنسية سنة 1962 بعنوان :
Ed. Husserl, La Crise des Sciences Europèennes et la Phénomènologie transcendantale, trad. G. Granel, Paris, 1962.
27 – J. Habermas, Op. Cit., p 11.
28 ماركوز، الإنسان ذو البعد الواحد، ص 192.
29 – J. Habermas, Ibid., p. 13.
30 – Ibid., p. 15.
31 – Ibid., p. 59-60.
32 – Ibid., p. 71-72.
33 – J.Habermas, Profils philisophiques et politiques, trad., F. Dastur, J-R Ladmiral, M. de Lawnag, Paris, 1974, p. 44.
34 – Ibid., p. 31.
35 – J. Habermas, Connaissance et intérêt, p. 223.
36 – Ibid., p. 230.
محمد نور الدين افاية، مرجع آنف، ص ص 67 68.
37 نفس المرجع، ص 69.
38 – J. Habermas, Profils philosophiques et politiques, pp. 87-119.
39 – H. Albert, La sociologie critique en question, Paris, 1987, pp. 119-120
40 – Ibid., p. 202.
41 محمد نورالدين أفاية، مرجع آنف، ص ص 257 258.
42 نفس المرجع، ص 258.


سالم يفوت

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى