أسامة محمود اليوسف - الصندوق

الصندوق


هنا تتوافد الناس من كل حدب وصوب، حيث أجراس كنيسة القيامة وصوت مآذن الأقصى، ضجيج خفي يملأ كيانك كيفما التفت، يتعالى هرمون السعادة بأفتتان الأوابد العتيقة، تتحرر الكلمات عبر جدار القلب، ويتلاقى الدفء حول الأشجار القديمة العالية ستائر للروح الباقية في تلك البقعة، ثمة خدر خفيف يلازمني كلما تذكرت توقيت المشهد.

فبعد انتهاء صلاة الصبح في السابع من حزيران 1967، هجمت عصابة أشرار متكونة من عدة لصوص متطرفين على القدس القديمة محاولين اجبار القاطنين على توقيع أوراق يتنازلون فيها عن ممتلكاتهم ، ثم بدأوا بزرع الخوف والرعب في النفوس ، لم يرضخ جدي لهم فأردوه قتيلا وسط السوق.

قتل جدي مع أناس أبرياء، كل ماتمنوه هو العيش بسلام مع عائلاتهم بين بيوتهم التي يملكونها،كان جدي يمتلك دكانا صغيرا للتوابل والمخللات في المنطقة المجاورة للمسجد، كم كان يكره عملية البيع والشراء مع البعض منهم ؟ فهم حاقدون. ومنذ سنوات وهم يحاولون قضم البساتين والأراضي بادعاءات مزيفة وكاذبة.

كنا نعشق ذلك المكان كنت أنا وجورج ونوعام نركض في ساحة دير الراهبات وبين البيوتات المصطفة بأصيص الورود وعبر الأزقة المبلطة بالحجارة السوداء فنشرب العرقسوس ليمضي الوقت بلا ملل ، لقد أثارت حفيظة اليهود المسالمين في الحي عبارة القدس عربية ..القدس لنا ، والتي دونها أحد الأطفال على جدار المدرسة المحاذية للمسجد، إلا أن بعض الشبان قام بمسحها فورا ليحافظ على العيش المشترك.

صورة جدي بالكوفية وإلى جانبه العلم الفلسطيني معلقة وسط الغرفة ، وعبر موجات المذياع القديم يصدح صوت الآذان الشجي، بينما جدتي تتهيأ للوضوء التفتت صوبي وسألتني :

لماذا أزحت الصندوق من مكانه ؟

عللت تصرفي : أنني أرتب الغرفة .

لايزال لغز الصندوق المدهش، الذي يعلو الخزانة وقد رسمت عليه صورة البطل العربي صلاح الدين يحملني إلى تكهنات عجيبة، والفرصة المواتية لفتحه مازالت صعبة، فمفتاح الصندوق على الدوام معلق في رقبتها وهي تأبى الحديث عما يحمله في داخله من كنز وأسرار .

إلا أن الأسئلة الملحة والمكررة عن سر الصندوق جعلها توافق على فتحه بشريطة عدم التفوه في الحديث لأحد ، فلقد احتوى الصندوق على وثائق ومذكرات وصور مهمة لجدي مع البطل عبد القادر الحسيني حول الأقصى وصور آخرى ملتقطة بالأسود والأبيض توثق اعتداءات المتطرفين على عائلة والدي لأجبارهم على ترك منازلهم .

صورة جدي وجدتي ووالدي بالكوفية معلقة وسط الغرفة ،وهي مائلة بفعل التشققات التي أحدثتها الحفريات تحت المسجد الأقصى،وعبر موجات المذياع القديم يصدح صوت الآذان الشجي كالمعتاد، بينما أمي تتهيأ للوضوء، التفتت صوب الصندوق أزاحته من مكانه، أغرورقت عينيها بالدموع وقد أضافت صورتي مع الأسرى وإلى جانبها المقلاع وبعض حجارة الصوان .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى