سمير الفيل - محمد كمال محمد.. الكاتب العصامي المصحوب بصمته ورقة حاله! أكتب لينبثق الضوء

محمد كمال محمد

1

في سنة 1971 تخرجت من معهد المعلمين ، وعينت في مدرسة الإمام محمد عبده ، وقد اخترت ان أبدأ رحلتي المهنية بالتدريس للصف الاول الابتدائي. كان عدد الفصل 51 تلميذا ، منهم تلميذ تحضره فتاة في الصف الثاني الثانوي ، لأن والدته توفيت منذ أيام ، وحتى يهدأ باله ويطمئن نفسيا . تعرفت عليها وعرفت ـ هي ـ من الزملاء انني أكتب الشعر ، فأحضرت معها في مرة رواية قليلة الصفحات ، لها غلاف أزرق مقبض ، باسم " الأجنحة السوداء " وأخبرتني أن مؤلف المجموعة هو والدها : محمد كمال محمد.

2

تعرفت على والدتها وكانت تعمل ناظرة لمدرسة باب الحرس بمدينة دمياط ، واصطحبتني مرة للأب الذي بدا سعيدا أن يعرفه ككاتب قصة ، وعرفت من الابنة ان والدها يكتب منذ فترة طويلة ، وأنه تقلب في العديد من المهن كان ىخرها كاتب في فندق " التحرير بميدان سرور ، وعلمت انهم كانوا يمتلكون فندقا جميلا في رأس البر هو " البوريفاج" وفي ظل أزمة اقتصادية بيع البيت.

كان محمد كمال محمد رجلا صامتا، وحزينا ، قليل الكلام ، ولا يبتسم إلا قليلا . اقتربت إلى حد ما من الرجل ، واكتشفت أنه كتب عن مآسي الناس في مدينة دمياط التي تزوج إحدى بناتها وسكن بها ، لكنه في الأصل من أبناء الدقهلية.

كان في حاله ، لم ألتق به في التجمع الأدبي بدمياط ، فالكتاب المتمرسون معروفون ، ولهم اجتماعاتهم الأسبوعية ، أما محمد كمال محمد فيبدو أنه تعرض لهزات مادية أخرجته من دائرة العمل الجمعي فمال للحفر وحده بعيدا عن الصحبة ، لكنه استطاع أن يتصل بدور النشر بالقاهرة ، وبحكم كتابته المتماسكة وقتها فقد تعرف على يوسف السباعي

الذي شجعه على الحضور للقاهرة ، الشيء الذي واكب حصول أغلب بناته على الثانوية العامة وبالتالي التحاقهم بجامعة القاهرة أو عين شمس .

فجأة عرفنا بسفره ، وصار بيته الذي زرته فيه قرب عيادة حي أول مهجورا ، وانقطعت لفترة أخباره حتى فوجئنا به يحصل على جائزة الدولة التشجيعية في الأدب، بالرغم من وجوده خارج نطاق الشللية المعروفة بالعاصمة .

3

في إحدى الليالي الشتوية كنت جالسا في " أتيليه القاهرة " عندما قابلني القاص والناقد محمد محمود عبد الرازق الذي عاتبني كثيرا على عدم الالتفات لتكريم محمد كمال محمد.

قال لي بوضوح : كيف تنسوا أبناء محافظتكم ؟

قلت له : أعرف أنه من المنصورة.

قال لي بحدة : لكنه ابن محافظتكم بالسكن والكتابة .

اقتنعت بالمسألة ،

وفي إحدى دورات مؤتمر إقليم شرق الدلتا الثقافي ، بالتحديد الدورة الثانية المنعقدة في مايو 2003 ، طرحت المسألة

كلها ، وحدث أن رحب أعضاء الأمانة بالفكرة بل رأوا أن تكريم الناقد محمد محمود عبد الرازق واجب . وقد تم تكريمهما بالفعل .

حمل المؤتمر عنوان" الأدب المصري : التواصل والتحديات " ، برئاسة الكاتب المسرحي : يسري الجندي، أمانة عام : سمير الفيل ، ورئيس الاقليم : محمد عبد المنعم . ومن ضمن المكرمين في نفس الدورة : المخرج التلفزيوني اسماعيل عبد الحافظ ، والشاعر محمد الشهاوي ، والروائي صلاح والي .

في تلك الفترة كان زميلنا الناقد مصطفى كامل سعد قد سافر فترة للعمل منتدبا بجهاز الثقافة الجماهيرية فوثق علاقته بمحمد كمال محمد ، وصار من خلاصة محبيه ، وعندما عاد إلى دمياط صار من المألوف أن يأتي كل إصدار جديد للكاتب محمد كمال محمد لمجموعة أصدقائه ، وهم :

مصطفى العايدي ، والدكتور عيد صالح ، ومصطفى كامل سعد ، وسمير الفيل.

لقد لاحظنا أن محمد كمال محمد غزير الإنتاج ومخلص لمعنى أن تكون الكتابة مهنة . وقد عمل بدأب وإصرار كي يظل منتجا رغم كافة العقبات التي صادفته باعتباره قد ذهب للقاهرة كبيرا وفي سن لم تكن تسمح له بتكوين صداقات جديدة. فصرنا نحن ـ في دمياط ـ جزء من صداقته الواسعة للمهتمين بالقص وعلمنا وقتها أن كبار الكتاب قد مدوا له يد المساعدة حين التحق بتجمع نادي القصة بالقاهرة وكان على رأس هؤلاء الكاتب الأب يحيى حقي .

4

اتصلت مرات بالكاتب محمد كمال محمد ليحضر المؤتمر ، وليقدم شهادة حول تجربته الأدبية ، وبفضل هذا التقليد صار لدينا فكرة معقولة عما عاناه ذلك الأديب الخلوق من عنت وحصار ومتاعب تجاوزها بكل إرادة وتصميم كي يظل قابضا على جمر الكتابة لكن تلك العوامل الضاغطة ظلت جرحا لا يندمل في فؤاده الحزين .

حملت الشهادة عنوانا دالا هو " أنت الوحيد الذي تصادقك الأشجار" ، وفيها بوح حميم وتقليب للمواجع التي يحياها كاتب بسيط بل شخص كادح من أبناء هذا الوطن في مواجهة غيلان السوق .

يحكي محمد كمال محمد عن بدايته المبكرة : " في مدينة المنصورة ( حي ميت حدر) كان المولد ، ثم نشأة الطفولة ورحلة الصبا ، وبدايات الشباب . الأب عالم ازهري أنشأ مدرسة أهلية للتعليم ، وتحفيظ القرآن ، إلى جانب عمله إماما بأحد المساجد ، ومأذونا شرعيا.

قرأت أول ما قرأت في سن مبكرة " ألف ليلة وليلة " بأجزائها الأربعة ، ثم أغرتني مكتبة والدي بقراءة الدواوين الشعرية التي أغرقت بها ، وكتب مصطفى صادق الرافعي الذي تاثرت بأسلوبه ، وأيضا مصطفى لطفي المنفلوطي . شغفتني القراءة والحياة بين الكتب في مكتبة البلدية " الفاروقية " المقامة على ضفة النيل في مدينة المنصورة ، لأرتوي من منابع الثقافة ، يزودني بكتبها ـ مشجعا ـ مدير المكتبة الأزهري الذي لاحظ شغفي الشديد بالكتب الرفيعة المستوى ، والتي لا تتناسب مع إدراكي آنذاك ، مما أتاح لي متعة عقلية وروحية ورؤية بعيدة المدى".

يواصل الكاتب رصد بداياته الأولى ليمزج شذرات من السيرة الذاتية برأيه في الناس والحياة ومفهوم الكتابة ويؤكد أستاذية يحيى حقي له :" ( الفن سكن حقيقي للإنسان ) مقولة للفيلسوف الألماني هيدجر ، أومن بها منذ البداية !. بدأت محاولاتي الأولى في الثامنة عشرة ، بصحف المنصورة الأربع : العيون ، النهار ، البيان ، الدقهلية.

ثم توقفت عن الكتابة لأجدد المسار ، وأتزود كثيرا بالثقافة والتجارب والمعايشة الحياتية .. وأقبلت على قراءة الأدب الروسي ـ ذلك الادب الإنساني الرفيع بنهم ،ثم الأدب الفرنسي فالإنجليزي .. ثم قرأت يحيى حقي ، فكان تأثري بهذا الأستاذ حقا بلا حدود .. حتى التقيته في الستينيات وكان قد قرأ لي روايتي " الأجنحة السوداء " ، ثم تصادقنا في السبعينيات ، وكنت في ضياع نفسي ومادي ، فإذا بي لا أقف وحدي على الطريق.. وإنما خلفي وبجانبي أب روحي عظيم أدين له بالكثير " .

وعن الأصوت التي تأثر بها ، يعترف الكاتب في شجاعة :" ( مداد قلم الكاتب مقدس ) مثل دم الشهيد ، عبارة لشكسبير تأثرت بها واعتنقتها. أهديت كتابي الرابع"أرواح واجساد" 1958 إلى ثلاثة تأثرت بهم في بداياتي : مصطفى صادق الرافعي ، (بلاغة وجمال اللغة ) ، سلامة موسى ( العقل المتحرر ) ، ابراهيم عبدالقادر المازني

( سخرية الألم ). حب الإنسانية هو دليلي الذي يصحبني في رحلتي عبر الحياة ، وحيثما تكون قضية الوجود الإنساني أجد نفسي الأدبية سواء في الرواية أو القصة القصيرة ، والتميز عندي في المجالين هو الصدق الإنساني ومن الصدق الإنساني ينبع حب البشرية" .

وحول مسيرته الطويلة يتحدث عن معتقده في الكتابة : " على امتداد خمسين عاما متواصلة ، أعكف في حب وتصوف وتجرد واتحاد مع الكلمة لأكتب مئات القصص التي نشرت بكافة الصحف والمجلات المصرية والمجلات العربية والإيرانية.. ولأخرج إلى الحياة الأدبية أربعة وعشرين كتابا في القصة القصيرة والرواية والمسرحية والسيرة الذاتية ".



5


لكن ماذا عن علاقته بالمجتمع الدمياطي ؟

هذا ما يسجله بقلمه ، فمن الواضح أنه قد عايش المجتمع الدمياطي ، واستفاد من سمات اهل البلد بنزعتهم العملية وإقبالهم على العمل. يقول :" من أهم مراحل حياتي ، تلك الفترة التي أقمتها في دمياط " عشرون عاما " .. واقترنت خلالها بإحدى بنات المدينة التي أنجبت أولادي ورافقتني في رحلة الحياة أربعين عاما حتى رحيله منذ عشر سنوات.

تلك الفترة كانت من اخصب فترات العمر ، تجربة ومعاناة ، وفشلا ، واكتشافا لطبقة العمال والحرفيين .. وطبيعة الدمياطيين السمحة وقلوبهم المسكونة بالحب والسلام.

في تلك الفترة أنجزت أربع روايات وست مجموعات قصصية ، تناولت في معظمها نماذج دمياطية متعددة ..

تصورت في روايتي " الأجنحة السوداء " و" الحب في أرض الشوك" قطاعات عريضة من المجتمع الدمياطي .

كنت ملتحما بالبيئة الدمياطية ـ ولا أزال ـ التحاما عميقا ، طائفة النجارين وصناع الأحذية وعمال مصانع منتجات الألبان ، ومقاهي الصيادين ، وباعة السمك في سوقهم " .

ويتحدث عن الشاعر فاروق شوشة الذي يتناول كتاباته في مقال نقدي بجريدة " أخبار دمياط " ، فهو يقرأ مجموعته " الإصبع والزناد " ليقول عنها :" لأول مرة أقرأ قصصا عن دمياط ، وخصوصا التي لم يكتب عنها كاتب من قبل ـ فضل عن ان كاتبها ليس من اهل المدينة ـ بكل هذا الفيض من الإحساس بالمكان ، وبكل هذه الدقة من الصدق والتصوير الفني ".

وفي ذات الإطار يستخلص أحد النقاد ما يتمثل في مجموعاته القصصية فيصفها بكونها " جولات من حياة الطبقة الدنيا من أهل دمياط ، وتصوير مشاكلها الحياتية ، ويعكس أمانيهم وأحلامهم ، وفي جميع هذه الميادين ترى لأبطالها سمات مستكينة ، وصوتا كسيرا تغلبه الأنات ، وينتهي دائما بسخط ضحه الزفرات ومصارعة قيود ترزح فيها محاولة التخلص منها ، وبمعنى أدق تعاني شخوصها " شيئا ما" تنوء به كواهلهم ".

يقول عنه الدكتور إبراهيم عوض في معالجة نقدية لروايته " الحب في أرض الشوك :" ينغمس المؤلف في السرد والوصف الاستطرادي فيبدع ويأتي بالعجب ، وينسى سعتها أنه يكتب قصة ، ويروح في نشوة ووجد ، فكأنه صوفي يتطوح وليس في لسانه إلا اسم الحبيبة " دمياط" .

إن الكاتب يحب دمياط وما حولها خاصة الريف حبا شديدا ، حبا خالط منه العظام والأعصاب ، فنضح من

مسامه حبات العرق المتألق ، بألوان الطيف التي تخطف الأبصار .. إنه لم يفت نباتا أو فاكهة أو طيرا إلا وقف أمامه في وجد ووله ووصف وحدد لونه ونوعه .. لقد وصف نباتا يغطي الترعة الضحلة كفراش أخضر وهو نبت الفدين ".

من الواضح أن جانب الحظ الذي تخلى عنه منذ طفولته التعيسة قد صاحبه فترة عمله في دمياط ، وجعله ينحاز لا إراديا للطبقات المسحوقة والتي كتب عنها في مجموعاته القصصية التي تميل إلى الواقعية .


6


وماذا عن صلته بالحركة الأدبية بها ؟

ربما يبدو أمر اشتغاله بتجارة بيع وشراء وإقراض الكتب في تلك الفترة علامة مميزة في مسيرته ، وكان وراءها فلسفة يوضحها في حديثه :" أعتقد أنني بالمشروع الثقافي الرائد الذي أقمته في دمياط ، وهو إعارة الكتب الأدبية والعلمية ودواوين الشعر ، للقراءة وبيعه بقروش زهيدة ، استطعت ان أقوم بدور فعال في تنمية حب القراءة لدى الشباب والطبقة العاملة وطلبة المدارس ، عبر مكتبة سميتها " دارالكتب الأهلية " مستعينا بحملة دعاية واسعة ، كان أهمها نشرات مطبوعة توزع في الشوارع وفي المدارس ، وأعددت للمكتبة واحدا من الشباب المتحمسين للأدب ليقوم بهذا الدور مقابل راتب شهري وقراءة يومية للكتب! ".

ويضيف قائلا: كنت أقوم بجلب كم وافر من الكتب المرتجعة من تجار الكتب في القاهرة لأحقق للقاريء فرصة الشراء والإعارة بأثمان زهيدة. وأذكر أنه كان من أهم ثمار هذا المشروع الفردي في مدينة دمياط إقبال أعداد من العمال والحرفيين على المكتبة في أيام الأخمسة للاستعارة والشراء ".

وعن محاولة إقامة تجمع ادبي في مدينة دمياط يسجل محمد كمال محمد تلك التجربة الموءودة التي شارك فيها :" مع نفر من محبي الأدب والثقافة في دمياط قمت بتأسيس " جمعية أدباء دمياط " ، كان المساعد الأول والفاعل في تأسيسها الراحل " علي الألفي" الذي كانت له محاولات محمدودة في كتابة القصة القصيرة .. وكان من الأعضاء البارزين سعد الدين عبدالرازق " ،" سعد أبورمضان " ، " حامد كمال و " المحامي ، و" محسن خضر " المحامي ، والشاعر " إمام ناصف " مدير عام التربية والتعليم بدمياط ، الذي اخترناه رئيسا للجمعية للاستفادة من نادي المعلمين القديم في إقامة الندوات ، ومن أعضاء الجمعية كان الصديق القاص الموهوب " مصطفى الأسمر ".. "

أعتقد أنها صفحة مطوية من تاريخ الجمعيات الأدبية المستقلة التي حاولت النهوض بدور ثقافي وسياسي ولم يشر إليها غير الشاعر كامل الدابي في شهادة له قدمها لمؤتمر دمياط الأدبي السابع ( إبريل سنة 2000 ، إذ يوضح الامر أو يصوبه بقوله:" ألف إمام ناصف مدير التعليم بدمياط في اواخر عام 1959 جمعية ( أدباء دمياط ) ، ولم تكن لها حظ من النجاح إذ انفرطت بعد اجتماعين فقط .

بعد فشل هذه الجمعية الأخيرة حاول عضوان منها ، هما محمد النبوي سلامة ومصطفى احمد الأسمر تكوين جمعية جديدة وبدأ الأديبان في الاتصال بشباب الأدباء ونجحا في ذلك حين تجمعوا في دكان محمد النبوي ثم انتقلوا إلى مكتبة مركز الثقافة حيث وجدوا في أمينها كامل الدابي استعدادا أدبيا فانضم إليهم وكان اجتماعهم الأسبوعي يوم الإثنين ( عطلة محمد النبوي سلامة ) ، ومنذ ذلك الحين صار هذا اليوم هو الموعد الأسبوعي لاجتماعات الأدباء وتجمع حولهم عدد قليل أخذ يتزايد ويتكاثر واتخذوا من ارتيادهم المكتبة اسم ( الرواد ) الذي يلازمهم حتى الآن ".


7


حظيت أعمال الكاتب بدراسات نقدية متعددة ، وسوف نختار مقطعا من دراسة قام بها الصديق الناقد الدكتور محمد عبد الحليم غنيم بعنوان " شعرية البداية في القصة القصيرة ، لدى محمد كمال محمد و فكري داود " ، وفيها توضيح لطريقته في الكتابة ، وقد جاء فيها :

" في قصة "انسحاب" لمحمد كمال محمد يعتمد الكاتب ضمير الغائب من خلال رؤية سردية ذاتية ، فيكاد يتوحد الراوي والبطل معا ، حيث يصحو البطل عند الفجر متعجبا كيف صحا في هذا الوقت ، حيث العادة أن يكون نائما إلى وقت الضحى ، ومن مكانه في الفراش وعبر النظر إلى الشرفة يراقب البطل العالم الداخلي والعالم الخارجي معا ، فيتداخل الماضي مع الحاضر لرجل عجوز فقد زوجته وانعزل عن الأصدقاء والأصحاب ، يجلس وحيدا في بيته ، والآن يشعر أنه على وشك الانسحاب من هذا العالم الذي لم يعد يريده ، فهل يكون هذا نهاره الأخير ؟ لذلك لم يستجب لطرقات صبي المشتل الذي تعود أن يأتي له بالجريدة كل صباح " حاول النهوض خائفا أن تأتي النهاية جالسا على المقعد هكذا .. لابد أن ينهض .. ارتمى في فراشه ، ينتظر .. تلاشى طرق الصبي .. عزيزة الدنيا .. غالية . هل يستطيع أن يمتلك لحظة من الزمن . ليذرف دمعة".

في هذه القصة / اللوحة يرسم لنا الكاتب بريشته القلمية في مشهد محدد محصور بمكان هو غرفة النوم وزمان من مطلع الفجر إلى الضحى اللحظات الأخيرة لشخص على وشك الموت ، ولأن الرسم فن حكائي سنجد هنا تجاور الحدث مع الوصف ، وقد أشارت البداية القصصية لهذا البناء المعتمد على التجاور ، فتبدأ بالسرد يتبعها الوصف ، تبدأ القصة على النحو التالي :" صحا عند الفجر المنسرب واهنا ، من خصاص الشرفة الواهنة .. تعجب كيف صحا".تبدأ البداية بالفعل (صحا) ويحدد الزمن بوقت الفجر ثم نجد وصفا للفجر هو "المنسرب"

أما وصف الشخصية فنجده في كلمة "واهنا " وإن كان الوصفين في رأيي ينطبقان على الشخصية أيضا ، وفي الجملة الثانية يتقدم الوصف على السرد " من خصاص الشرفة تعجب كيف صحا " حيث يصف الشرفة بأنها واهنة ، وهو وصف يمكن أن ينطبق أيضا على الشخصية كما تشير الأحداث أو قل كما تشير النهاية ، نهاية القصة .

إذن تجاور السرد مع الوصف في جملة البداية سيفرض بنية القصة إذ تسير الأحداث فيما بعد إلى نهاية القصة هذه الوتيرة جملة سردية تتبعها جملة وصفية وهكذا حيث يبرز فحوى النص الذي جاء ملائما للأحداث " .

8

يتحدث محمد كمال محمد عن كتب أثرت فيه وعن مجالات يحرص على القراءة فيها فيقول :" أحرص في الواقع على قراءة كتب ـ أفضلها عن غيرها ـ في الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع ، أعيد قراءتها من وقت لآخر .. إلى جانب السير الذاتية واعترافات عمال تولستوي وجوركي وجان جاك روسو وأوسكار وايلد وغيرهم. ويهمني للغاية إعادة قراءة كتب سلامة موسى ، خاصة كتابيه " التثقيف الذاتي " و" عقلي وعقلك " . الأول ساهم إلى حد كبير في تشكيل وجداني الثقافي في مطالع الشباب ، والثاني أمدني بزاد عقلي يتيح لي رؤية الواقع والتعايش معه بشكل مختلف ، ولشغفي الشديد بالشعر أقتني عشرات الدواوين لقدامى الشعراء والمحدثين".

وعن المقاهي التي جلس عليها للقراءة أو الكتابة يقول :" في دمياط ، كنت أرتاد معظم مقاهيها مقرا لكتاباتي ، منها كازينو العزوني ، وقهوة البوسفور ، وقهوة الحطاب المجاورة لسوق السمك ، كازينو اللواء .. ومقهى صغير في شارع كورنيش النيل قرب الكوبري القديم .. كتبت فيه إحدى مسرحياتي الطويلة ، عدا بعض مقاهي قرية السنانية ، وقهوة شاهين في دمياط ".

وعن الصحف التي كتب فيها خلال نفس التوقيت :" كتبت بانتظام في جريدة " أخبار دمياط " المقالات والقصص ، وفي جريدة " دمياط " لصاحبها حسين عطية الحرايري ، كتبت بعض القصص ". لكن لنتوقف قليلا امام أنتاج محمد كمال محمد فنجده قد وافانا بأربع وعشرين مطبوعا حتى كتابة ورقته البحثية في مجالات متعددة منها : الرواية التي بدأ بها ، والقصة القصيرة ، والمسرحية ، والسيرة الذاتية .

ففي الرواية له أعمال منها :" أيام من العمر " ، دماء في الوادي الاخضر " ، الحب في أرض الشوك " ، هزيمة ملك " .

في القصة القصيرة له اعمال منها : " الأيام الضائعة " ، "أرواح وأجساد " ، حب الإصبع والزناد " ، " الأجنحة السوداء " ، الأعمى والذئب" ، العشق في وجه الموت " ، حصاة في نهر" ، البحيرة الوردية "، نزيف الشمس " ، سقوط لحظة من الزمان " ، " زائرة الليل" .

وفي المسرح :" لعبة الثعالب " ، " الرقص على الحبال "، " حكايات الحي الشعبي " ، الكل عريان ـ الخندق " ، " احضنوا الشمس ـ المولود المفقود " ، " حديقة الحب ".

وله كتاب واحد عن السيرة الذاتية يحمل عنوان " أوراق من العمر " وهو صادر عن نادي القصة بالقاهرة.

نال عن قصته " الأيام الضائعة " سنة 1956 الجائزة الأولى من الإدارة العامة للثقافة بوزارة التربية والتعليم ، وعن الجائزة الدولة التشجيعية في الأدب ـ متأخرة عشرين عاما ـ ووسام العلوم والفنون من الطبقة الاولى سنة 1983.

تحية لهذا الكاتب الراحل الذي أفنى عمره من أجل عمل أحبه هو الكتابة التي كتب عنها خلال حوار أجرى معه في إحدى الدوريات الثقافية :" إنسان نشأ في القاع .. وشبع بأوجاع وعذابات الإنسان وهموم العصر.. يكتب لينبثق الضوء ".


10 مارس 2014.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى