صادق جلال العظم - تساؤلات حول الإسلام وأعدائه والديمقراطية والتكنولوجيا

لقد أمضيت بضع سنوات من عام (1988 - 1993) في زيارة علمية طويلة للولايات المتحدة وأوروبا. وقد مررت أثناء هذه الزيارة ببعض التجارب وراكمت بعض الملاحظات حيث شاركت - كمثقف ومفكر عربي وأستاذ جامعة - في عدد من المحاضرات والمناقشات والسجالات والندوات والحوارات والدروس والصفوف الجامعية حول قضايا العالم العربي تحديداً والعالم الإسلامي عموماً. ضمت هذه المشاركة الجمهور المعروف للمهتمين في الغرب بالعالم العربي والإسلامي من مستشرقين (وأستخدم التعبير هنا بمعناه الأفضل) ومفكرين ومثقفين وأساتذة جامعات ومختصين في الشرق الأوسط وخبراء في القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي وصحافيين مستنيرين، بالإضافة إلى الطلاب الجامعيين قبل مرحلة الليسانس وبعدها. في خضم هذه التجربة الخصبة جداً فكرياً والمثيرة ذهنياً والغنية علمياً كانت مجموعة من الأسئلة والتساؤلات تتكرر (بصورة صريحة أحياناً وضمنية في الأحيان الأخرى) على لسان كل الذين دخلت في حوارات معهم. وفيما يلي نماذج عن هذه الأسئلة والتساؤلات:
هل يمكن للإسلام أن ينسجم مع الحداثة؟
هل يمكن للإسلام أن يتوافق أو يتساوق مع العلمانية؟
هل يمكن للإسلام أن ينسجم مع الديمقراطية ويقبلها؟
هل يمكن للإسلام أن يتماشى مع العلم الحديث والتكنولوجيا المتطورة؟.. الخ الخ...

وسأقوم بمحاولة للإجابة عن بعض هذه الأسئلة والتساؤلات. ولهذا الغرض فقد اخترت للمعالجة مسألة الإسلام والعلمانية بصورة رئيسة والإسلام والديمقراطية بصورة فرعية وعلى سبيل المثال لا الحصر.
لكن قبل أن أشرح وجهة نظري في القضية وأقدم جوابي عن المسألتين المطروحتين لا بد لي من بعض الإيضاحات الأولية:

1 - قد يبدو للوهلة الأولى أنني أتناول موضوعي الآن عبر أسئلة وتساؤلات غربية وضمن سياق غربي خالص، أي أنني أتناول - على ما يظهر - أسئلة وتساؤلات، غير بريئة في كثير من الأحيان، يطرحها الغرب علينا نحن كعرب وكمسلمين (وأقصد هنا كمسلمين ثقافياً وحضارياً وتاريخياً بالدرجة الأولى) أحياء اليوم. لكن أحب التذكير بأن انطباع الوهلة الأولى خاطئ، لأن أسئلة من نوع هل ينسجم الإسلام مع العلمانية أو الديمقراطية أو العلم الحديث أو التكنولوجيا المتطورة إلى آخره؟ كانت وما زالت مطروحة على جدول أعمال التاريخ العربي الحديث وعلى جدول أعمال المفكر العربي الحديث وعلى جدول أعمال الثقافة العربية الحديثة منذ عصر النهضة على أقل تعديل وحتى هذه اللحظة، أو ربما منذ احتلال بونابارت لمصر سنة 1798 وحتى هذه اللحظة. ونحن نعرف بأننا كنا وما زلنا نصارع هذه الأسئلة ونتصارع معها ومع مشكلاتها الملحة وعواقبها الخطيرة وضغوطها الحياتية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية التي لا ترحم. نحن نحاول كذلك - منذ أيام الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي على أقل تقدير - بلورة الأسئلة إياها وصياغة الأجوبة المناسبة عنها، صياغة مجدية حياتياً وعملياً وتاريخياً وثقافياً وفكرياً في العالم الحديث.

2 - في إيضاحي الثاني لا بد لي من التأكيد مسبقاً أن أسئلة من نوع هل ينسجم الإسلام مع العلمانية والديمقراطية الخ؟ لا تقبل الأجوبة المباشرة البسيطة والتبسيطية والنظيفة والسهلة لأنها بطبيعتها ليست من متاع الروح اللطيف وحده، بل هي من متاع التاريخ الغليظ، أي أنها مستغرقة في علاقات القوة وتوازناتها الآنية والبعيدة، وفي الصراعات الاجتماعية التي تتفاعل مع مجتمعاتنا، وفي عنف صدام القوى المادية التي تتحرك وتُحرِّك في حياتنا وحولنا كذلك.

3 - أما في إيضاحي الثالث فأريد أن أبين المعنى الذي أستخدم به عبارتي الديمقراطية والعلمانية في هذا السياق. أقصد هنا الديمقراطية بأبسط معانيها، أي فكرة سيادة الشعب على نفسه وحكمه لنفسه بنفسه بغض النظر عن الشكل المؤسساتي والحقوقي والسياسي الذي يمكن أن تأخذه الممارسة الفعلية لهذه السيادة في هذا البلد أو ذاك، وبغض النظر عن التنوع الكبير الذي نجده في المجال التطبيقي والعملي والتنفيذي للفكرة الديمقراطية في فترات زمنية مختلفة ومراحل تاريخية متمايزة وظروف سياسية واجتماعية متقلبة. كما أقصد هنا العلمانية بأبسط معانيها أيضاً وأكثرها اتساعاً وأعظمها اقتراباً من الحدود الدنيا لممارستها ومن القواسم المشتركة الكبرى الجامعة بين تنوعاتها الكثيرة وتجلياتها المتعددة. تنطوي العلمانية بهذا المعنى على فكرة الحياد الإيجابي للدولة إزاء الأديان والمذاهب والطوائف والفرق الدينية الموجودة في مجتمع ما وبخاصة في المجتمعات التي توجد فيها أقليات دينية كبيرة وفاعلة ومؤثرة كما هي الحال بالنسبة لمسلمي الهند وأقباط مصر، على سبيل المثال لا الحصر. تعني العلمانية، بالتالي، الاستقلال النسبي للمجتمع المدني عن التحكم الرسمي به وبحياته العامة ومعاملاته ومبادلاته وفقاً لمبادئ دين الأكثرية وعقائده وشرائعه... الخ. كما تعني المساواة بين المواطنين جميعاً أمام القانون بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو المذهبية أو الطائفية أو الإثنية كما تعني صيانة حرية الضمير والمعتقد للجميع.

4 - في إيضاحي الرابع والأخير أريد التأكيد أنه مع أني محورت تحليلاتي حول قضية العلمانية والإسلام ومشكلة الانسجام الممكن أو المحتمل أو المستحيل بينهما فإن المنطق الذي أعالج به هذه المسألة ينسحب ببساطة ويسر على الموضوعات الأخرى كلها التي تثار الأسئلة والتساؤلات حول قابلية الإسلام لاستيعابها والتعايش معها. بعبارة أخرى بالإمكان إحلال الحداثة أو الديمقراطية أو العلم الحديث أو التسامح الديني أو حقوق الإنسان أو حرية الرأي والتعبير وما إليه محل العلمانية في كلامي هذا المساء دون أن يؤثر ذلك في المنطق الكلي الذي يحكم معالجتي للقضية أو على المنهج العام الذي اعتمدته في تناولها أو في النتائج الأساسية التي توصلت إليها أو في الاجتهادات والتحليلات التي أعمل على طرحها أو تقديمها.

الإسلام وتوافقه مع الممارسات العلمانية والديمقراطية والعلم الحديث:
الآن أرجع إلى السؤال الأساسي: هل يمكن للإسلام أن ينسجم أو يتوافق مع ممارسات مثل العلمانية والديمقراطية والعلم الحديث؟ ما من مفكر عربي يعتبر نفسه وريث فكرر عصر النهضة وتطوراته وتراكماته إلا وسيجيب عن هذا السؤال بالإيجاب، أي بـ نعم المدوية. بإمكاني التأكيد هنا على العموم أن ورثة الفكر النهضوي العربي لم يجدوا في يوم من الأيام أي حرج حقيقي كبير في طرح هذه الأسئلة الصعبة على أنفسهم وعلى مجتمعاتهم أو في الإجابة عنها إجابة تأكيدية واثقة من نفسها. بالنسبة للجيل الذي أنتمي إليه ومنذ أن كنت تلميذاً في مدارس وجامعات سوريا ولبنان (يومها كانت بيروت أقرب مدن بلاد الشام إلى دمشق ومرفئها الطبيعي كما كان السفر إلى بيروت من دمشق لا يختلف عن أي مشوار إلى بلودان) كان من شبه المسلم به - على ما أذكر - أنه ليس بين العرب وأشكال الحكم العلماني والديمقراطي الحديثة أي سور صيني أو مانع مبدئي باستثناء العبات المعرفة مثل الفقر والأمية والتخلف الاقتصادي والسيطرة الاستعمارية وكلها أمراض قابلة للمعالجة ومعوقات قابلة للإزالة.

مقابل ذلك كله نجد اليوم أن الاتجاهات الإسلامية الأصولية الراهنة تطرح أجوبة عن السؤال الأساسي نفسه من نوع آخر تماماً. أي أنها تجيب عن السؤال هل يمكن للإسلام أن ينسج مع العلمانية والديمقراطية والعلم الحديث.. الخ؟ بـ لا مدوية وقاطعة ولا مشروطة. دعوني أضرب بعض الأمثلة من نصوص ومواقف وبرامج غير معروفة جيداً:

آ - كتب المنظر الأصولي الإسلامي صالح سرية ما يلي حول الموضوع الذي نحن في صدده وذلك في كراسه المعنون «رسالة الإيمان»:
«... إن الديمقراطية، على سبيل المثال، منهاج للحياة مخالف لمنهاج الإسلام. ففي الديمقراطية أن الشعب هو صاحب السلطة في التشريع، يحلل ويحرم ما يشاء... في حين أن الشعب في الإسلام لا صلاحية له في تحليل الحرام وتحريم الحلال ولو أجمع الشعب كله على ذلك، فالجمع بين الإسلام والديمقراطية إذن كالجمع بين الإسلام واليهودية مثلاً، فكما أنه لا يمكن أن يكون الإنسان مسلماً ويهودياً في الوقت نفسه لا يمكن أن يكون مسلماً وديمقراطياً»(1).

وكما تعرفون جميعاً فإن صالح سرية حوكم وأدين وأعدم في مصر بعد محاولته الاستيلاء بالقوة على إحدى المدارس الحربية في منطقة هيليوبوليس قرب القاهرة في أواخر السبعينيات وذلك فيما تعارفنا على تسميته «بحركة الفنية العسكرية».

ب - ينص البرنامج السياسي الاجتماعي للزعيم الأصولي الأفغانستاني قلب الدين حكمتيار على ما يلي (ترجمت هذا المقطع من البرنامج عن الإنكليزية):

«إن الإسلام والديمقراطية لا يتوافقان أو يتماشيان مع بعضهما البعض، ستكون أفغانستان دولة إسلامية متشددة. ستقوم فئة من الرجال الحكماء بتكييف قوانين البلاد مع الإسلام وستحظر المشروبات الروحية كلها وتعود المرأة إلى البيت مجدداً ويتسلم الملاوات السلطة».

وكما نعرف جميعاً كان حكمتيار وجماعته أكبر المستفيدين من المال والعتاد والتدريب الأمريكي الذي قدمته له الـcia والاستخبارات العسكرية الباكستانية بلا حساب أثناء المواجهة مع الاتحاد السوفياتي وجيوشه في أفغانستان.

جـ - مثال آخر: حين عزم الرئيس الباكستاني الراحل ضياء الحق الشروع في تنفيذ برنامج لأسلمة البلاد وحياتها برر قراره بإلغاء الانتخابات العامة التي كان قد وعد بها شعبه عنه استيلائه على السلطة بإعلانه على الشعب الباكستاني أن هاتفاً ما جاءه في نومه ليعلمه بأن الإسلام والديمقراطية يتعارضان على طول الخط.

أما بالنسبة للعلمانية، تقول وثيقة رسمية لتنظيم الجهاد في مصر وعنوانها «صفحات من ميثاق العمل الإسلامي» ما يلي:
«والعلمانية - كما هو معلوم - تدعو لفصل الدين عن الدولة، وإلى تنحيته عن التشريع والحكم والسياسية، فتحصره في المسجد وعشنا وعاشت بلادنا ترزح تحت وطأة العلمانية كعقيدة وفكر، نظام وحكم. علمانية في التشريع والحكم، علمانية في القضاء، علمانية في التعليم والإعلام، علمانية تبثها أجهزة التثقيف والتوجيه، علمانية بغيضة دست علينا، وغرست قسراً في تربتنا فأنبتت هذه الأنظمة الجاهلة الكافرة التي تستبدل بشرع الله شرع الشيطان...»(2).

من ناحية ثانية يقول شكري مصطفى - مؤسس الجماعة الإسلامية المعروفة بجماعة التكفير والهجرة في مصر وأميرها - ما يلي عن العلم والإيمان والإسلام:
«ثم نعود فنقرر أن العلم الذي أجاز الله تعلمه للناس إنما هو على سبيل الحصر: العلم الذي يربطهم بالتكليف الوحيد الذي لم يكلفهم الله إلا به وهو عبادته وحده سبحانه. ونقول أن ذرة تعلم يقصد بها غير بلوغ هذه الغاية إنما هي ذرة خارجة عن العبودية... ويظن المحرفون للكلام عن مواضعه أن هذه الآيات (أي الآيات القرآنية التي تحض على طلب العلم) دلالة على الحض على التعلم من علومهم الدنيوية غير المتصلة بالعبودية، كذبوا، كلا، بل هي نهي عن التعليم إلا للعبودية وبيان للكون بأن العلم الزائد عن ذلك علماً يطغي به الإنسان إذ يرى أنه استغنى بهذا العلم عن ربه...»(3).

ويضيف شكري مصطفى مؤكداً:
«ولقد أراد الله سبحانه وتعالى أن يختار خير أمة أخرجت للناس أمة أمية لا تكتب ولا تحسب... فبعد أن ثبتت نبوته (أي النبي العربي) كان في مقدوره أن يتعلم الكتابة والحساب لو كان في ذلك خير للعبادة والدين، بل لم نجد رسول الله يفتتح الكتاتيب والمعاهد لتعليم المسلمين الكتابة والحساب ولا خلفاؤه الراشدين من بعده.. وأيضاً ما وجدنا رسول الله ولا القرآن الكريم، يعنى بتعليم الطبيعيات والفلكيات والفلسفات والرياضيات الخ..»(4).

ولما طرحت المحكمة السؤال التالي على شكري مصطفى:
«إنما تريد المحكمة أن تعلم رأيك في تعلم الكتابة...»
أجاب المتهم بكل وضوح ودون أي وجل:
«يحرم تعليم الكتابة في الجماعة المسلمة إلا بقدر الحاجة العملية الواقعية لما يتصل بالعبادة، وتعلم الكتابة الزائدة حرام»(5).


الهوامش:
(1) يجد القارئ أهم وثائق الجماعات والتنظيمات والحركات الأصولية الإسلامية الملحة في مصر منشورة - مع شروح ومقدمات وهوامش - في المجلدين اللذين أصدرهما الباحث الإسلامي رفعت سيد أحمد تحت عنوان: «النبي المسلح (1): الرافضون» و «النبي المسلح (2): الثائرون»، رياض الريس للكتب والنشر، لندن، 1991. «رسالة الإيمان» منشورة في ج1، ص31 - 53. أما النص المنقول أعلاه فموجود في ص40.
(2) المرجع السابق، ج1، ص173.
(3) المرجع السابق، ج1، ص93.
(4) المرجع السابق، ص94.
(5) المرجع السابق، ص95.


صادق جلال العظم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى