د. رنه يحيى - قراءة في نص "أنخاب العطش" للشاعر سليمان احمد العوجي

يقول الكاتب "أحمد ابن عبد ربه "في "العقد الفريد": من أراد أن يكون عالماً فليطلب علماً واحداً، ومن أراد أن يكون أدبياً فليتسع في العلوم وهذا ما أثبته الشاعر في نصه هذا. فالإبداع لا ينحصر في ابتكار أفكار جديدة بقدر ما ينحصر في التأليف بين أفكار قديمة أو إدخال الغائب ليلقي الضوء على النص الحاضر لفهمه وتأويله وأخذ العبر منه. وهذا ما يترجمه نص "أنخاب العطش" للشاعر سليمان العوجي.
فهذا النص هو عملية تمثل وتفاعل مع نصوص سابقة، صهرها الشاعر في بوتقة تجربته الشعرية، فغدت لوحة فسيفساء تكمن فرادتها في جودة التوظيف لا في أصالة الفكرة. فحضور التناص أثرى نصه ومنحه قدرة على التواصل مع القيم الكبرى في التراث. فأتى نصا قوياً وقيماً ،وزاد فاعلية في وجدان الناس وجمالاً ورونقاً. فقد استطاع الشاعر أن يتجاوز واقعه، مشكلاً رؤية شعرية خالصة نابعة من ثقافته وسعة معرفته.
فالمشهد العام للنص يتمثل بحادثة انقطاع الماء عن سوريا بلد الشاعر المنكوب تحديدا الحسكة، بحيث مات الطفل والمرأة والكهل من العطش . فيصور هذا الحدث بصورة رائعة وموجعة في آن( مدينة نشف فيها ريق الماء- النهر بات أسيرا)ً. ونستطيع أن نرى القلق والحزن عند الشاعرعلى ما أصاب مدينته ووطنه من خلال التذمر عبر أسئلة مليئة بالوجع(متى تخرج عشتار من قمقم الردة؟ وكيف أنام على وسادة العطش؟) ليصل الشاعر إلى قرار بألا ينام وسوريا تتوجع، وألا يبل ريقه وريق مدينته جاف وضرعها قتيل. ًفهو لن ينام حتى يصير الثأر فراتا من كرامة ، عندما ينتفض على كل من جرح مدينته وقطع الماء عنها، وعلى كل ظالم ومستبد.
ولم يخلو النص من الصور البيانية والمجازية التي أعطته رونقا ًوقيمة جمالية أدبية. فقد صور حال المدينة الأم سوريا كطفل يمسك بثوب أمه من الخطر وهو الحصار الجائر على سوريا وقطع الماء عن الحسكة. هذه المدينة الأم التي تطلب من صغيرها النوم كي ينسى العطش مقابل أولاد السلطان الذين يلهون ببريد السحاب.
ويشكل هذا النص مصباً تتلاقى فيه مجموعة روافد قادمة من خارجه تحولت فيه إلى مكونات أصيلة. فظواهر التناص قد زخمت النص بكم هائل من الرموز والأساطير والإستدعاءات. وهذا يشير إلى حداثة الشعر في النص. "فالعمل الفني يدرك في علاقته بالأعمال الأخرى استنادا إلى الترابطات القائمة بينهما." حسب "شكلو فسكي". فقد تقاطعت النصوص مع النص الذي نحن في صدده بشكل عفوي غير واع ،فنرى ثمة نصوص غائبة في نص الشاعرهي بمثابة مكونات لشيفرات خاصة من خلالها نستطيع فض مغاليق نظام النص الإشاري ومعرفة أساليب النص الحديثة من خلال الترميز والتكثيف. ويظهر التناص هنا جلياً، ومصدره الأول الكتاب السماوي ا(لقرآن الكريم)، وربما يهدف الشاعر من خلاله إلى جعل نصه الحاضر أكثر قداسة، أو" تحويله إلى عالم أرضي مواز للعالم السماوي". والنص السامي المقدس بما يفيض فيه من معان تعكس خلجات القلوب،يلجأ إليه الشعراء عادة لخلق تفاعل تطمئن له القلوب والعقول. ففي قوله:( هم أخوة كانوا لنا إخوة) إنما إشارة الى قصة النبي يوسف (ع) وما فعله به أخوته. وهذا مصدر ثان للتناص وهو التراث الديني. فنرى الإخوة يرشون الذئب والجب والسيارة ،إشارة إلى بيع أخوة يوسف ليوسف إلى السيارة ورميه في الجب .والمشار إليهم هنا (إخوة) هم الذين غدروا بوطنهم وتواطؤا مع الأمركان ضد الشعب. وهذه صورة تنطبق على كل من غدر بوطنه وأخيه وأفسد في أرضه ،فهو إنما على شاكلة أخوة يوسف وغدرهم.
وقد استحضر الشاعر بعض الكلمات القرآنية في معرض نصه (هزي بجذع الغضب)استعادة ل(هزي بجذع النخلة)هادفاً إلى استثمار شدة وقع تلك الكلمات للتأثير بالقارئ. وهذا ما يسمى قانون الإمتصاص للنص الغائب. فمن خلال إعادة كتابته وفق حاضر النص الجديد يصبح استمرارا له متعاملاً معه بمستوى حركي وتحولي.وهذا هو القانون الثاني للتناص حسب "كريستفا".
فالشاعر هنا لم يمس جوهرالنص الأصلي وإنما تعامل معه فنياً ، فأبقى للقارئ إشارات تحيله للنص القرآني الغائب ،فظهر الإيجاز بشكل واضح ، وحضرت الإحالة عبر استدعاء النص القرآني، وشكلت متونه الشعرية وأضفت عليه جماليته.ولعل دور الإحالة وجماليتها منحت الشعر مكانته، فهي عادة تضيء تجليات النص المظلمة.
فعندما نحفر في طبقات النص نكتشف المستور والموجود من البنية المغيبة. فالإسقاطات على أنواعها تمكننا من ربط سياق النص بسياق الثقافة التي تشكل النص في إطارها.فقد ضمن الشاعر من الآية "قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم" سورة الأنبياء الآية 69 ليحدث خطاباً شعرياً موجهاً إلى المتلقي ليذكره بقصة إبراهيم (ع) ونجاته في عملية الحرق بالنار. ولما تقاطعت الفكرة مع حسن التضمين تفجرت شعرية التناصية، لأنها نجحت في توجيه وإحالة المتلقي إلى هذه القصة العجيبة ، وإحالته إلى المرجع الأصلي(النص القرآني) الذي صاغها بإسلوبه الساحر خصوصاً دور المجاز والإيحاء في الإثارة ، لذلك كانت المتعة الفنية عالية هنا.
كذلك إسقاط إسم (نمرود) وتوظيفه في (الأماني لا تطفئ الكيد (نمرود)) التفاتة فنية ذكية من الشاعر. فقد حاور النص الغائب ولمح بشكل خفي إلى أن من قطع الماء عن الحسكة السورية ووضعوا يدهم على النفط من الأمركان ومن تواطئ معهم يشبهون نمرود بظلمه .
وهذا يشير إلى ما قاله "بارت ": "أن المؤلف صامت أو غائب أثناء حضور القارئ، والنص المنجز ملك القارئ وحده."إذا فالكاتب قبل أن يكتب كان متلقياً ، وإن لم يتلق ماكتب نصا. فالنص المنتج استدعى ما في ذاكرته وانتقى منها ما يناسب فكرته فولد.
وهذا النص زاخراً بالألفاظ والمعاني المتناقضة مما يضفي عليه جمالية فنية وأدبية عالية. فنرى (عجوز في مقتبل العمرو(خمر في كأس التوبة)، حتى الحقيقة تجوب (من مطلع الريبة حتى مغيب الشك). هذا التصوير المتناقض جعل من المشهد أكثر تأثيراً وتجاوزاً للمألوف.
ننتهي إلى خلاصة بأن الشاعر قد حرص على توظيف التراث الديني في شعره فاستوحى معان عديدة وآيات من القرآن الكريم ،وربما هذا كان نتيجة توجه ذات الشاعر إلى القضية الإسلامية وأثرها في سلوك البشر وأخلاقهم ومصيرهم. كذلك إن الاستلهام من القرآن الكريم والتراث الديني ساهم في انتقال الشاعر بشعره من مصاف الشعراء العاديين إلى مدارج الشعراء المتميزين.وقد بين النص مدى إسهام الخلفية العربية الإسلامية في تشكيل الرؤية الإبداعية للشاعر.
نص هو بمثابة رسالة للإنتفاضة والثورة مع التمسك بالتراث والقيم كسبيل للتحرر .
بقلم: مسؤولة الدراسات النقدية في نادي وتريات قصيدة النثر د. رنه يحيى


==============



النص:
أنخابُ العطشِ
سليمان احمد العوجي

كأيِّ عجوزٍ في مقتبلِ الموتِ..
يصبُّ أبي خمرةَ الخطيئةِ في كأسِ التوبةِ
ويبيعُ حطبَ العمرِ بحفنةٍ من صكوكِ الغفران..
قدرهُ أنْ يجوبَ حدائقَ الحقيقة بقدمينِ متورمتين من مطلع الريبةِ حتى مغيبِ الشكِ..
سبحةُ أبي لاتملُ الدورانَ بينَ أصابعهِ وفي حلقهِ لم يبقَ إلا الطميُ وأسماءُ اللهِ التي لاتجفُ....
قد يغيبُ بعد حينٍ تاركاً ثروةً مهولةً من الحزنِ
وجبيناً مجعَّدَ الحسراتِ
فالأهلُ عنهُ لاهونَ.. يتبادلونَ أنخابَ العطشِ..
هنا مدينةٌ نَشِفَ فيها ريقُ الماءِ
وأميرةُ البيادرِ سنبلةٌ في رَيعانِ الحنطةِ تمشي حافيةَ الحلقِ تقول: إن النهرَ جرحها بوعدٍ كاذب..
وهل على الأسيرِ جناحٌ ياأميرة؟!..
أماه:
متى تخرجُ عشتارُ من قمقمِ الردةِ لتُعَدِدَ سجايا الفصول وتمسح دمعَ الحقول؟...
نمْ ياصغيري ...
غداً سيأتي ( الخابور) بعرائسِ الماء...
كيف أنام على وسادةِ العطشِ؟!..
وأولادُ السلطان يلهونَ ببريدِ السحابِ..
ويسدونَ دروبَ الشريانِ
والماءُ الذابلُ يمسكُ بطرفِ ثوبكِ كآخرِ ملاذ...
لن أنامَ وضرعُ المدينةِ قتيل...
دعي الملحَ يلعقُ جرحي..
وهزّي بجذعِ الغضبِ حتى يخضرَّ الكلامُ...
الأماني لاتطفئ ماجمعَ ( النمرودُ) من كيدٍ
فيا نارُ كوني برداً وسلاماً
همْ إخوةٌ كانوا لنا إخوةً
يسيِّجونَ العطشَ ويرفعونَ أسوارَ الموتِ...
إمامُ الظلِ يرفعُ فيهم أذانَ الأباطيلِ من مآذنَ قضيةِ الإيمانِ...
ويرشونَ الذئبَ والجبَّ والسيَّارةَ....
قلْ لمنْ يكنزونَ الريحَ في خزائنِ صدرهم:
لا.. لن أنامَ حتى يصيرَ الثأرُ فراتاً من كرامة.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى