عبد الفتاح يوسف - خطاب الإنتلجنسيا العربية حول الحداثة إشكاليات الفهم ومحنة المشروع

الحداثة.jpg

القسم الثاني
سؤال الحداثة في الخطاب العربي بين تصفية الحسابات والنقد



في المواجهة بين العقل العربي والحداثة، يبدو الاغتراب والاختفاء أكثر خطرًا، لأن العقل سيدخل في مغامرة عجيبة، وغير محددة، فسؤال الحداثة شغل معظم المشتغلين بالفكر في الثقافة العربية خلال الربع الأخير من القرن الماضي، وطاردهم هاجس البحث عن حداثة عربية لها طابعها الخاص، فأنتجوا جملة من الطروحات تحمل أفكارًا تأسيسية للحداثة العربية، وهي كما لاحظنا طروحات تؤكد فكرة مشادات الصراع داخل الخطاب، وتدخل في سياق الجدل الذي لا ينتهي حول ماهية الحداثة هل هي غربية، أم عربية؟. وهو جدل يمتد في جزء منه إلى الفكر العالمي، ويمتد الجزء الآخر داخل التراث الفكري العربي. لكن إثارة هذا الجدل على النحو السابق، يشير في جانب منه إلى بحث العقل العربي عن مكان له داخل خارطة الفكر العالمي، في وقت يشهد فيه المجتمع العربي حالة من التردّي والانهيار على مستوى الهوية، ويُخشى على سؤال الحداثة أن يشهد ما شهدته أسئلة القومية، والنهضة، والهوية من مصير.

وما يشهده سؤال الحداثة الآن من تناقضات، وصراعات فكرية داخل طبقة الإنتلجنسيا العربية ينبئ بالمصير المؤلم الذي ينتظره، فالدعوات التي أطلقها بعض منظري الحداثة، تنطلق من نقطة تصفية الحسابات، فجورج طرابيشي أطلق العنان لتصفية حساباته مع الجابري في كتابية " مذبحة التراث"، " نقد نقد العقل العربي" واعتبر مشروع الحداثة عند الجابري مذبحة في حق التراث، والتاريخ العربي والإسلامي، وقام الجابري بالرد عليه واصفًا إياه بعدم إجادته قراءة التاريخ الإسلامي. وفي ظل هذا التربّص، لا يمكن للنقد أن يكون فاعلاً، لأنه يبحث في كيفية نقض الأحكام ودفعها، وليس بحثًا عن شروط الفكر والإبداع، إنه نقد من أجل هدم فكر الآخرين، بدلاً من تفكيك أبنية الفكر لإعادة بنائه من جديد.

وعلى هذا النحو دار السجال بين جابر عصفور، وعبد العزيز حمودة على صفحات أخبار الأدب، وما تضمنه من محاولات كل طرف هدم أفكار الطرف الآخر، وما تبع هذا السجال من خصومات، وصراعات بين الطرفين معروف لدي الجميع. وطالعنا المفكر التونسي هشام جعيط مؤخرًا في حوار مع مجلة " حوار العرب" بشن هجوم شديد على شريحة كبيرة من طبقة الإنتلجنسيا العربية، مثل إدوارد سعيد، والجابري، وأركون، وتيزيني، فاتهم كتاب الاستشراق لسعيد بأنه "منحاز، وتهجمي، وايديولوجي"(76). ووصف سعيد نفسه بأنه " لم يكن يعرف الاستشراق، وما كتبه عن الاستشراق ليس بذي قيمة، بل وإنني أعتبره سطحيًا"(77). ويعيب على أركون " تقديمه لمفاهيم لا أستسيغها شخصيًا، وأظن أنها مأخوذة عن الموضات الباريسية... وأعيب عليه عدم فهمه للروح الدينية. وتكلمه مع ذلك باسم الإسلام. وأفكار أركون وجدت صدى لها في لبنان وفي تونس، لدى شباب مفتون بكل ما يأتي من باريس وموضاتها الفكرية"(78). واتهم الجابري بأنه "لم يفهم التصوّف الإسلامي ولا روح الشرق القديم، ولم يحسن تقييم إسهام ابن سينا.. وهو يفخِّم كثيرًا من مفهوم العقل وهذا غير مستساغ، لأن الدعوة إلى العقلانية، ولعلها ضرورية في مناخنا، تبقى دعوة ايديولوجية لا علاقة لها بالفكر العميق"(79).

هذه آراء مفكر عربي في مفكرين آخرين ينتمون إلى طبقة الإنتلجنسيا العربية، ناهيك عما يحدث في المؤتمرات والندوات، والسؤال الآن: إلى متي سيظل المفكر العربي يؤسس مشروعه الفكري على حساب المشاريع الفكرية الأخرى؟. هكذا يبدو الأمر خطيرًا حين تتحول الألعاب الفكرية إلى تاريخ دائم للأفكار، وفي ظل هذا المناخ الفكري الفاسد، يضع المفكر أفكاره دائمًا في الصدارة بعد أن يقذف بأفكار الآخرين إلى دائرة الفساد كي ينال مشروعيته الفكرية، وهؤلاء يؤسسون لفكر أصولي حداثي، سيكون أشد خطرًا على الفكر العربي من الفكر الأصولي التقليدي، وسنجد أنفسنا قريبًا أمام صراع فكري مؤلم ومعوّق، أمام فكر أصولي تقليدي يعتمد على فكرة صراع (النحن مع الهُمُ)، وفكر أصولي حداثي يعتمد على فكرة صراع (الأنا مع النحن).

هكذا تؤسس توجّهات طبقة الإنتلجنسيا العربية لفكر النقد والرفض، لبناء أنموذج معرفي يسكن رأس كل فرد منهم فقط دون أن يقر بفكر نظيره الذي ينتمي إلى ثقافته؛ لأن جل همّه ينصب حول فرض فكره على الساحة بنفي أفكار الآخرين. هنا يتراجع سؤال الحداثة أمام قوة الأيديولوجيا، كما تراجع سؤال النهضة أمام قوة الاستعمار في الفكر العربي، ويتحول سؤالنا إلى طبيعة العلاقة بين الفكر العربي الحداثي والأيديولوجيا. ما طبيعة هذه العلاقة؟ وكيف تتأسس؟ هل يعكس الفكر الحداثي العربي الأيديولوجيا العربية ويقدمها في شكل طروحات نقدية خادعة للمتلقي؟!، وتصبح الممارسات النقدية العربية نسقية خادعة ومراوغة؟ أم أن النتاج الفكري يكشف عن الأيديولوجية بإظهار شكلها وبنيتها؟.

تتضح آفة الخلط بين الأفكار، ورفض الأفكار، في ممارسات معظم طبقة الإنتلجنسيا العربية للحداثة، مما أدى إلى عدم قدرة عدد كبير منهم تجاوز حدودهم المعرفية الأيديولوجية للوصول إلى أعتاب الحداثة، وأنها – أي الأيديولوجيا- تقف عائقًا أمام مشروع الحداثة عند هذه النخبة من المفكرين العرب في سؤالهم للحداثة، كما وقف الفكر الأصولي التقليدي عائقًا أمام الأصوليين في قبولهم للحداثة. وسؤال الحداثة في الفكر العربي ينزع – في جزء كبير منه- لأن يرى في الحداثة مخرجًا من حالة الركود الفكري العربي، أي أنها تمثل له طوق النجاة، وهي مبتغاه، ولهذا عجز هذا الفكر عن أن يقدم لنا تصورًا لتجاوز أفكار الماضي/ التراث، بأفكار الحاضر/ الحداثة لتأسيس واقع فكري مستقل، له قدرته الخاصة على التجاوز والسؤال. فكيف يمكن لفكر أن يتطور وجل همّ أصحابه بلوغ الحداثة؟!. وكل المقترحات التي قدمتها هذه الطبقة تدور حول هذه الفكرة (بلوغ الحداثة) تؤكد أن فكر هذه الطبقة يدور حول سُبل الخروج من المأزق الفكري العربي الراهن بسبب ظهور الحداثة، وهذه السُبل هي التي تمكن الفكر العربي من بلوغ الحداثة!. هنا تتحول الوسائل إلى غايات، فالحداثة ليست غاية، إنها بإيجاز؛ شرط الفكر للوصول إلى الغاية، وهي مجهولة بالنسبة لهم؛ لأنهم استبدلوها بالوسيلة، وهم بهذه الممارسة يحافظون على الهوّة الفكرية والمعرفية التي تفصلنا عن الآخر، بدلاً من تقليص هذه الهوة؛ ولكن قبل أن أستعرض هذه المقترحات أتوقف أمام ثلاثة أمثلة توضح ارتباك الفكر العربي أمام الحداثة.

الأول: رفض شريحة كبيرة من هؤلاء المفكرين لفكرة الحداثة وإساءة فهمها لكونها غربية، ويقايض هؤلاء على وسائل الصراع النضالي، والثوري، والبطولي، بالتحول الهزيل وغير المقنع عن الحداثة، أما الشريحة الأخرى فتسعى إلى أن تجعل الخطاب الحداثي، خطابًا تابعًا للخطاب الثقافي الإقليمي الضيّق المحكوم بنمطية الرؤية الذاتية الضيّقة. وهذا لا ينتج في النهاية إلا ممارسات تزيد من التراجع الحضاري، ويمكن تحديد هذه النماذج، بالطروحات التي يجد فيها أصحابها أصولاً لأفكار الحداثة في التراث العربي القديم، في محاولة عنترية للتبشير بفكر حداثي عربي في مناخ فكري تسيطر عليه الرؤى الأيديولوجية، ويتجاهلون عن عمد الشروط التاريخية التي هيّأت لتبلور الفكر الحداثي في الغرب. هؤلاء أوفياء – حقًا- لشروط الثقافة القديمة التي لا تعترف برأي الآخر، ولكنهم لم يكونوا أوفياء لمتطلبات الفكر الذي يساعد على التطور، ونهضة الأمم. وهذا الرفض جاء على حساب إدراك الحقيقة التي تقتضي أن يتكاتف هؤلاء المفكرون لإنجاز مشروعهم الفكري المستقل للنهوض بالأمة، إذا كانوا يريدون حقًا النهوض بها!.

الثاني: يعود إلى السؤال الخاص بالثقافة العربية وموقفها من الثقافة العالمية. الحداثة هي الحقل المعرفي المميز للحضارة الغربية، والأعراف الاجتماعية، والنظم القبلية، يمثلان حقلاً معرفيًا وثقافيًا مميزًا للثقافة العربية، و يتعامل أصحاب الثقافة العربية مع ثقافتهم بصورة متأصلة، وعدم دراستها في ذاتها وعزلها عن أي مساءلة دقيقة تستفسر عن شروطها الاجتماعية جعلت وجودها ممكنًا، فحملت مع مرور الزمن ضمانة اجتماعية في بنياتها الفعلية لها ولأفرادها، وبالتالي لا يمكن لسؤال الثقافة العربية أن يكون مَعْبَرًا من العُرف إلى الحداثة، ومهمته ليست الفهم الذاتي للعُرف والنظم القبلية والعشائرية، وكذا ليس التواطؤ مع الحداثة في نوع من المؤامرة الفكرية. إن مهمته الأساسية تقديم عرض نقدي موضوعي لأبرز المفاهيم الناظمة للثقافة العربية، لإبراز التناقض بين دلالات هذه المفاهيم ونتائجها الاجتماعية، بالإضافة إلى أنه يبين بجلاء تلك الشروط التي ساهمت في تأسيس الخطاب الثقافي، وتضمرها النصوص، لأن الإشكالية لا تكمن في كون النصوص التراثية تتطرق لأمور الحداثة، أو لا، ولكنها تكمن في أن المعرفة الجماعية لهذه النصوص، هي نوع من بناء النسيان وتغييب الوعي الفردي، ولوصول المفكر إلى تلك المهمة عليه أن يتخلّص من فكره القبلي مموضعًا نفسه خارج فضاء الثقافة، والمتأمل في سؤال الهوية في الفكر العربي الحديث يدرك هذه الحقيقة، ولعل هذا ما دفع بعض المعاصرين إلى قوله: " إن إثبات الهوية الذاتية في التاريخ والثقافة والسياسة، دفع بعض النخب المثقفة في الوطن العربي، وضمن دائرة العالم الإسلامي إلى إبراز مقومات تراثية ضد فكر الآخر المستعمر والمهيمن، فتم النظر إلى فكره باعتباره فكرًا هدّامًا.."(80). وأظهرت محاولات بعض من طبقة الإنتلجنسيا العربية هذه المهمة، ولعل أهمها محاولة بلقزيز في كتابه " الإسلام والسياسة" يميز فيه بين الإسلام كعقيدة، وكحضارة، والحركات الإسلامية كحركات سياسية، لأنها لم تُقدّم نفسها بوصفها مدارس معرفية جديدة، بل بحسبانها تيارات سياسية(81).

الثالث: خاص بسؤال التاريخ، سؤال التاريخ في الفكر العربي، سؤال تقليدي، لم ينتج سوى رؤى ذاتية للأحداث، تهدف إلى خلق حالة من العمى الفكري، تخلط الدين بالسياسة، والدين بالثقافة لتشكيل وجدان ايديولوجي عام ضدّ الآخر، قبولاً أو رفضًا، فقدّم لنا الإسلام كفكر من خلال ممثلين عنه، هم رجال الدين، يحتكرون وحدهم النطق باسمه، ويتحدثون في بعض الأحيان باسم الله. وكتاريخ من خلال الفتوحات العسكرية بمحاربة الكفار، لتحقيق أطماع سياسية باسم الدين، فتداخل الدين مع التاريخ، ومع السياسة، ومع الثقافة؛ فظهر لنا الدين والتاريخ على نحو مغاير لحقيقتهما، دون الوعي بالفارق بين الدين كنص سماوي ومرجعي مُنزّه عن الخطأ، والتاريخ كواقع أرضي بشري.

لذا فإن سؤال التاريخ يجب أن ينطلق من نقطة فك الارتباط بين التاريخ كواقع أرضي، والدين كرسالة سماوية، والأيديولوجيا كإرث ثقافي، حتى نتمكن من قراءة التاريخ كمنجز نظري فكري يستلهم بكل وعي المنجزات الفكرية النظرية، والممارسات العملية لصراع الإنسان العربي مع الواقع، والدين، والثقافة، والآخر. والنظر إلى الخطاب الديني كعلامة في مدونة الإسلام، واعتبار رأي القارئ غير مقدس، بل هو تأويل لنص مقدس.

ولهذا فإن على سؤال التاريخ مراعاة الآتي:

1 ـ أن الدين ( الإسلام، النصرانية، اليهودية، الوثنية،..) يشكل ظاهرة فكرية، ترتبط بصيرورة الفكر العربي في سياق التاريخ السياسي.

2 ـ يمكن فهم التاريخ في سياق الجدل النظري بين السياسة والدين من ناحية، وفي إطار موقفهما معًا من المستجدات الفكرية العالمية، كالاشتراكية، والماركسية، والديموقراطية، والحداثة..

3 ـ لا يُقرأ التاريخ إلا في ضوء معضلات الفكر العربي نفسه، وهل يمثل حركة تطور فعلاً، أم أنه يمثل حركة رصد مزيّفة للأحداث وللواقع؟ هل يمارس فيه المثقف دور الشاهد على الأحداث؟ أم دور المُستنزف في الأحداث؟ أم دور المؤثر في الأحداث؟.

لقد تعرّف قارئ التاريخ العربي على المنظومة التاريخية المؤطِّرة بالتوجّه الفكري العام للملوك، والحكام على مر التاريخ، كما تعرّف على النظم الديكتاتورية العربية، والاستعمارية التي حكمت العقل العربي آمادًا طويلة، مما جعل الخطاب التاريخي يتخذ طابعًا ايديولوجيًا من الآخر وأفكاره، ونماذجه، دون أن يتمكن هذا الخطاب من صياغة أبنية في فلسفة الفكر العربي على مر التاريخ، فسادت النزعات العصبية/ القبلية الداعية إلى رفض الآخر بإهدار دمه بعد تكفيره ودحض أفكاره، وربما يكون موقفنا الرافض للحداثة نتاجًا لهذه الأيديولوجية.

أفرز الجدل النقدي والفكري حول الحداثة في الفكر العربي، فريقين، لكل منهما توجّهه الفكري والأيديولوجي: أقلّية نخبوية تدعو إلى الحداثة، وتسعى إليها، وخطاباتها مُدانة اجتماعيًا، وأكثرية تقليدية رافضة للحداثة، مُستخدِمة شعارات الدين والتراث كوسائل مقاوِمة لهذا الغزو الفكري!. أدرك الفريق النخبوي تقدّم الغرب، وآمن بأهمية استيعاب مصادر قوة الغرب الفكرية، والتواصل معها، لبناء أنموذج عربي مهتديًا بأفكار الأنموذج الغربي، واحتذوا حذو حركة النهضة العربية أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين. في حين تعارض هذا الموقف مع الأكثرية التقليدية، التي شجبت الحداثة، وحاولت بناء أنموذجها المعرفي بالبحث عن مصادر لها في التراث العربي القديم، فأبرزوا مقومات فكرية تراثية ضدّ فكر الآخر – كما سبق أن أوضحنا- واحتذوا بهذا التوجه حذو دعاة الحركة السلفية العربية التي انتقدت عصر الأنوار في الحضارة الغربية.

في ظل هذا الجدل النقدي حاول الفريق النخبوي أن يستوعب الفكر المختلف، كما حاول وضع يده على الشرخ العميق في الفكر العربي، مما دفعه إلى مراجعة نفسه في محاولة للتحرر من الأيديولوجيات المغيّبة للوعي، فقدّم جملة من الاقتراحات لتجاوز هذه المحنة، وفي هذا الإطار نرصد عددًا من المحاولات:

أبدأ بمحاولة علي حرب، وهي محاولة تتميز بالجدّية والرغبة في تأسيس موقف نقدي من الحداثة في الفكر العربي، فيتساءل عن مكامن العجز والخلل والتردّي والتفكك في الفكر العربي، ثم يجيب عن الأسئلة بحصر العجز في " مرجعيات المعنى وأنماط الرؤية، وفي شبكات الفهم وسلم القيم، أي في عالم الفكر بنظامه ومسبقاته، أو بقوالبه وأحكامه، أو بإرادته السياسية"(82).

ويحصر حرب مكامن العجز في النقاط التالية:(83)

1 ـ تقديس الأصول، فيجعل النرجسية الدوغمائية، وعقيدة الاصطفاء عائقين في سبيل المشروع الحضاري، لأنهما يختمان على العقل لكي ينتج الأنموذج المهيمن على المشهد الفكري بنسخه الثلاثة، الداعية التراثي، الأبله الثقافي، الأصولي الذي يدّعي امتلاك الحقيقة والسعادة.

2 ـ عبادة الحداثة، حيث يلقي باللوم على المثقف الحداثي الذي يتعامل مع الحداثة بعقلية التبشير والترويج والتقليد، ويقرن بين المثقف الحداثي، والأصولي في قرن دلالي مشترك، لأنهما يقدسان الأفكار سواء أكانت قديمة، أم حديثة، وحولوها إلى أوثان تطمس الحقائق، وتستبدّ بالعقول، فالداعية التراثي أحال علاقته بمنجزات الحداثة إلى شعارات خاوية، ومشاريع فاشلة، والأصولي أحال علاقته بالتراث إلى معارف ميّتة، ودعوات مستحيلة، وقيم مدمرة.

3 ـ هواجس الهوية، يعدها من العوامل المعوِّقة للتفكير الحي في الفكر العربي الحديث، فينتقد بشدّة الثنائيات المستهلَكة حول التراث والحداثة، والتي تغلّب الاعتبارات الأيديولوجية على المشاغل العلمية، مما يجعل الفكر يقف موقف السلب والنفي من ثقافة الآخر وفلسفاته تحت مسمى حرّاس الهوية.

4 ـ الأحادية الضديّة، ويقصد بها العمل على استبعاد الآخر وإعلان الحرب عليه، معلنًا شعار من ليس على شاكلتي فهو ضدّي.

5 ـ عقلية القصور، يتهم العقل العربي بعدم قدرته على تحمل المسؤولية، ويلقيها على غيره دائمًا، ولا يعرف التراجع ولا الاعتذار، وكذا لا يعرف الاعتراف بالفشل، ويعرف فقط العناد والمكابرة والهروب من محاسبة الذات.

وبعد تحديده مكامن العجز في العقل العربي، يقدم لنا مُقترحًا للخروج من المأزق بقوله: " إن الخروج من المأزق يحتاج إلى تغيير المهمة الوجودية والعدّة المعرفية، وبصورة تطال علاقاتنا بمختلف مفردات حياتنا".(84)


ويؤكد أهمية وجود عقل تداولي نفكر به، من حيث إمكاناته، وآلياته، ومفاعيله في التوسط والتعدد، أو في التواصل والتبادل، أو في التركيب والتجاوز، عقل يتقن لغة التوسط والحوار والتواصل، يعتمد على منهجية في التفكير تقوم على التعددية / المنهج التعددي الذي يمكننا من المقاربة بين الظواهر، وتفسير الوقائع ومعالجة المشكلات، ويمارس هذا العقل الهوية بصورة مفتوحة، ومتحركة، بكسر عقلية المحافظة والقوقعة، فالمماهاة التامة مع الأصول مستحيلة، كما أن المساواة التامة مع النفس خاوية، كلاهما يولّد الانغلاق والتعصّب، وقد يورّث المحن والكوارث، بقدر ما يحيل علاقة المرء بذاته إلى سجن ومتراس. كما يؤمن هذا العقل بضرورة التحرر من استراتيجية الرفض والإقصاء للمختلف، للمتمرس بسياسة الاعتراف المتبادل، ويجب ألا ننظر إلى الآخر بعين الخشية، وعقلية المؤامرة، فليس الآخر هو الجحيم.(85)


أما برهان غليون، فيحدد الشرخ في استراتيجية تعاملنا مع الحداثة ومفهومنا عنها، فيقول: " السبب في إعاقة الحداثة في معظم بلاد العالم، بما فيها العربية، لا يكمن في التراث، تراث أي منهم، لا من حيث هو مقاوم ولا من حيث هو مشجع، ولكن في تجنيبنا ممارساتنا التحديثية، أي مناهجنا وسياساتنا الحديثة، النقد، وتلقينا الحداثة كما لو كانت أمرًا مفروغًا منه، لا يحتاج من أجل الوصول إليه إلا التخلّي عن التراث... إن سبب الفشل يكمن إذًا في وهن استراتيجيات التحديث نفسها وعدم اتساقها، وعدم قدرتنا على مواجهة التحديات التي يفرضها التحديث الفعلي".(86)

ويقترح غليون استراتيجية للإصلاح والتغيير تعتمد على الأسس التالية:

· إظهار الطابع الرّث والمجهض لأنموذج الحداثة الذي عرفته المجتمعات العربية، نتيجة ردها إلى مفهوم مادي ومصلحي محض، وتحويل عوائد التقدم المادي لصالح النخب الاجتماعية الضئيلة المسيطرة على السلطة.

· نقد جديد للتراث يهدف إلى تفجير المنابع الروحية والإنسانية لتحقيق أنسنة التصورات الدينية. فليس المطلوب مصاهرة الحداثة الرثّة مع المثال الديني والإسلامي.

· الإصلاح السياسي بتطوير الممارسة الجماعية وتوفير فرص المبادرة والمساهمة المشتركة لجميع الناس في صياغة المشروع الكبير لإعادة اكتشاف الإنسان في ثقافتنا الدينية والدنيوية ومن ورائه إعادة اختراع الحداثة.

· ضرورة الإيمان بأهمية دور النقد الاجتماعي في تغيير طريقة تفكير البشر والارتفاع بنوعية ممارساتهم العقلية، أي بوعيهم، وبالتالي في تحسين قدرتهم على المبادرة التاريخية والارتفاع بمستوى ممارساتهم العملية.(87).


ويحيل هشام شرابي أزمة الحداثة في العقل العربي إلى النظام الأبوي الذي يعم النظام الفكري العربي في كل مرافقه، هذا النظام يقف عائقًا أمام مشروع الحداثة في الفكر العربي، الأمر الذي جعل المجتمع العربي " يعيش في ظل خطابين، في ظل خطاب الحقيقة الشاملة الكلية، وظل خطاب الحقيقة الحديثة المحددة. والمهم أنه عاجز عن التعامل مع أي منهما بشكل عقلاني منتظم يمكنه من إرساء علاقته بالماضي (بالتاريخ) أو الواقع (بالحاضر) أو بالمستقبل، من خلال وعي ذاتي مستقل. بهذا فهو مجتمع متضارب تحكمه التناقضات على صعيد الفكر كما على صعيد الممارسة".(88)

ويدعو شرابي في إجابته عن سؤال "ما العمل؟" إلى ضرورة " الإطاحة بسلطة الأب – ولا أعني بالأب هنا الأب البيولوجي فحسب، بل كل من يحل محله في حياة الفرد والمجتمع- مما يستدعي رفض الخطاب الأبوي الذي يدّعي امتلاك الحقيقة الكاملة، والإعلان أن الحقيقة ليست ملكًا لأحد بل هي إجماع في سياق تاريخي متغيّر وملك للجميع... أما على الصعيد الأيديولوجي، فيرمي هذا النقد الجذري إلى الارتفاع عن الجدل التجريدي باعتناق مبدأ التعددية الأيديولوجية. وينطلق هذا المبدأ من أن الحقيقة، بما فيها الحقيقة الأيديولوجية، تقوم على الاختلاف والإجماع في آن، لا على سلطة فوقية واحدة. ينطوي هذا الطرح على إعادة النظر في عدّة مسلمات، وتحويلها إلى إشكاليات... كما يدعو على الصعيد السياسي إلى إعادة صياغة الرؤيا الاشتراكية التي لوّثها الفكر الأبوي وأفرغتها ممارساته السلطوية من أي مضمون، بما فيه مضمون المقولة الثورية... وأخيرًا على صعيد المرأة، حيث تهدف الحركة النقدية إلى جعل المرأة قضيتها الأساسية ومحور نشاطها بدءًا بنسف القيم والمفاهيم التي وقفت حتى الآن حاجزًا في طريق تفهّم الإشكالية الأنثوية على حقيقتها في المجتمع الأبوي".(89)


ويحدد محمد سبيلا الشرخ في الصراع المحتدم داخل العقل العربي بين الثقافة التقليدية، والثقافة الحديثة، فالثقافة التقليدية محملة برؤى وقيم تؤطر وجود الأفراد والجماعات وتزودها بشعور قوي بهويتها، وهي عناصر تدخل في تعارض مع المحمولات الضمنية والصريحة للثقافة الحديثة، وهذا ما يجعل الأمة العربية مشدودة بعنف، بل ممزقة بين ثقافتين متعارضتين: ثقافة تقليدية تتمسك بمقوماتها وبنظرتها للعالم وتزود نفسها بمقومات وعناصر المقاومة، وثقافة حديثة، تمارس مهمة التفكيك والتذويب والإلحاق للثقافات الأخرى.(90)

ويرى محمد سبيلا في النقد المزدوج تجاه الذات والآخر حلاً لأزمة الثقافة العربية مع الحداثة، فيقول: " إلا أنه من المطروح على هذه الثقافة، التي يفرض عليها التفاعل والتكيّف الناجح مع الثقافة الحديثة، أن تقوم بممارسة نوع من النقد المزدوج تجاه الذات والآخر لتكسب ذاتها قدرة على المرونة والتكيّف مع متطلبات نظرة حديثة إلى العالم، وتكسب نفسها قابلية مع معطيات الثقافة العلمية الحديثة. وبدون اكتساب هذه القدرة على استيعاب معطيات الثقافة العلمية الحديثة ستجد الثقافة العربية نفسها غير قادرة على استيعاب منطق العلم الحديث، وغير قادرة على فهمه."(91)


بعد استعراض الآراء التفسيرية لسؤال الحداثة عند عدد غير قليل من المفكرين العرب، أسجل ملاحظة فكرية مهمة تتعلق بمنهجية تعامل لأصحاب هذه الدراسات مع سؤال الحداثة، فبدلاً من البحث الأبستيمي عن كيفية اشتغال الفكر العربي مع منظومة الفكر العالمي، والبحث عن حلول لإشكالياته مع نفسه، ومع الآخر، وجدنا حفنة من النصائح التقليدية والبلاغية الكلاسيكية ( مطابقة الكلام لمقتضى الحال) المألوفة لدى الذوق العربي، وكأن الإشكالية عنهم هي مجرد تنظيم قوي للكلمات داخل العبارات، لإنتاج خطاب بلاغي إقناعي لا يرقى إليه الشك، وبدلاً من التساؤل والبحث عن مصادر الفكر والمعرفة القديمة والحديثة؛ وظّفوا البلاغة، وتلاعبوا بالتعميمات.

إن مفهومهم عن سؤال الحداثة، شائع بطريقة تثير التعجب، ولا يساعد على الفهم الصحيح للحداثة، وينقصه بحث حقيقي تفكيك الأنساق الإيديولوجية التي تتحكم في ممارساته، وتحدد تصوراته، ربما يكون مشروع الجابري خطوة مهمه وإيجابية في هذا الاتجاه؛ ولكنه غير كاف، وبدلاً من ظهور محاولات أخرى في الاتجاه نفسه، اكتفى الآخرون بالكشف عن تأثيرات الحداثة الإيجابية والسلبية على العقل العربي!، وهؤلاء يذكروننا بجهود الكيميائيين القدماء الذين أرادوا تحويل المعادن الرخيصة إلى معادن ثمينة، ثم باءت جهودهم بالفشل لأنهم تغافلوا عن البنى/ العناصر المكوِّنة للمعادن الرخيصة.

بقي أن نشير إلى أن هذه الآراء التفسيرية، تبدو مقنعة في المراحل الفكرية التي تتسم بإنجازات التحرر من قيود المعرفة الأيديولوجية، التي تختلط فيها المعرفة بالأيديولوجيا، والدين بالثقافة، والفكر بالنزعات العرقية والتعصبيّة، لكنها ستصبح عاجزة وغير مقنعة في حل الأزمة الفكرية؛ لأننا شهدنا في مرحلة ما بعد الاحتلال العثماني، والمملوكي .. محاولات عديدة للنهوض بالأمة تحت ما سُمي آنذاك بمشروع النهضة العربية، وهي محاولات شبيهة إلى حد كبير بهذه المحاولات، إذا راعينا الظروف العالمية المحيطة بكل مرحلة، وانبثق هذا المشروع جرّاء الانبهار بالمدنية الغربية، وما أحرزته من تقدّم على كافة الأصعدة، والملاحظة الأساسية التي يمكن رصدها حول هذا المشروع، هي أن مشروع التغيير لم ينتج عن قناعة ذاتية جماعية بضرورة التغيير وفائدته، بل عن رغبة النُّخب السياسية التي تبنّاها محمد على طمعًا في تكوين امبراطورية!، يتشابه إلى حد كبير مع مشروع الحداثة الآن، مع وجود فرق بسيط، وهو أن مشروع الحداثة هو رغبة النُّخب الفكرية!، أما بالنسبة لطبقة المثقفين الذين تبنّوا مشروع النهضة، فوقعوا في مأزق خطير، وهو انشغالهم بنقل العادات والتقاليد الغربية، عن تفكيك الأنظمة الفكرية والأيديولوجية المبنيّة على منظومة من الاعتقادات الجامدة لها قدرتها على توليد المخاطر والكوارث بمفردات التعصّب الوطني، والديني، والاصطفاء الأصولي، والنظام الشمولي، والتفكير الأحادي؛ وكانت النتيجة أننا " منذ النهضة ونحن نعيش بأجسامنا في قرن، وبأفكارنا وشعورنا في قرن سابق، بدعوى المحافظة على ( الروح الأصلي)، وتلك كانت خدعة من القسم المتأخر في نفسانيتنا وفي مجتمعنا لاستمرار التأخر".(92)

فالتيارات الفكرية كلها وضعت لنفسها هدفًا واحدًا، وهو التأثير على المجتمع، متغافلة عن فكرة تفسيره من أجل تطويره ( أي تطوير المجتمع والفكر دون تفسير آلياته)، ولهذا تحطم هذا المشروع وفشل فشلا ذريعًا على صخرة الأيديولوجيات، وأنتج مزيدًا من الشعارات الخاوية التي أدت إلى كثير من الهزائم العسكرية، والتراجعات الفكرية، وظهرت حركات نهضوية تمثلت في حركات ردّة تعود بالفكر إلى الوراء/ الماضي، وكأن بلوغ الماضي يمثل غاية! في المقابل وجدنا الحركات الفكرية التي أحدثت تحولات اجتماعية في مجتمعاتها كانت أكثر حرصًا على تفسير آليات المجتمع، ولهذا طوّرت الماركسية، والرأسمالية شعوبهما


أول ما يمكن ملاحظته بعد هذا العرض، أن سؤال الحداثة لم ينجح في إحداث الانقلاب المعرفي المنشود للعقل العربي الذي يمكّنه من التمرد على الفكر الميثولوجي، والأيديولوجي، مما يساعده على فهم سيرورات التشويه والخلط والبتر التي تعرّض لها عبر التاريخ، لأنه سؤال خاص، لم يهتم بفكرة " النقد الجذري" بمراجعة المفاهيم وحل التباسها وغموضها، بالإضافة إلى تجاهله مساءلة المرجعيات الثقافية الأرضية وتداخلها مع المرجعيات الدينية السماوية، للتمييز بين ماهو ثقافي، وما هو ديني، بين ماهو مقدّس، وما هو مقدّس بالإضافة. أضف إلى ذلك أن سؤال الحداثة عند طبقة الانتلجنسيا العربية لم يتمكن من إماطة اللثام عن النظام الداخلي للفكر العربي لرأب تصدّعاته ووضع استراتيجية معينة للتعامل معه كعقل مقموع ثقافيًا واجتماعيًا ودينيًا، هذا بالإضافة إلى اختزاله المتعسّف، وتلخيصه المُبتسر للحداثة وعدم مراعاة سياقاتها وطرق انتظامها الفكرية والمعرفية، فحدث اللبس في المفهوم وبالتالي الاعتراض والرفض. والاستثناء الوحيد في هذا السياق هو مشروع محمد أركون، وهذا المشروع خصصنا له بحثًا مستقلاً لأهميته.



كما نلحظ أن مقترحات طبقة الإنتلجنسيا لم تفد في مشروع الحداثة، من النظريات التي تفسر المجتمعات العربية كمجتمعات مستقبِلة لفكرة الحداثة، وجدنا فقط آراءً متناثرة حول جلد الذات العربية وهم يتوهمون نقد الذات!، وتجاهل غير مبرر لمشروع فكري ضخم له أهميته الخاصة، يهتم بتفسير المجتمع العربي من الناحية السيكولوجية، وأقصد به مشروع علي زيعور، والاستثناء الوحيد هو الإشارات المتعددة لهشام شرابي لهذا المشروع، بالإضافة إلى تجاهل دراسات الأنثروبولوجيا، أو علم الاجتماع في هذا الإطار، وربما يكون هذا أهم الأسباب التي أدت إلى عدم قدرة طبقة الإنتلجنسيا العربية على تقديم بديل فكري ومعرفي متماسك يكتسب مصداقية، ولا يمكن إغفال النمط الأيديولوجي الدوجمائي الذي لايزال يتمتع بدرجة من المصداقية والثقة لدى جمهور كبير من المجتمع العربي.


إن هذه الطبقة تعاملت مع الحداثة كمنتج فكري حضاري يدعو إلى الثورة على الموروث والمقدس، دون الوعي بأثر هذا الموروث في العقل العربي، وأخفقت في انتهاج منهج معرفي سيكولوجي لإقناع العقل العربي بالفكر المغاير الذي يقع خارج حدوده المعرفية، ولم تُخضع الفكر العربي لمنهجية التحليل العميق لأصوله الفكرية التي استمد منها أفكاره – باستثناء محاولة شرابي التي أوضح فيها دور السلطة الأبوية في توجهات الفكر العربي الراهن- من أجل الكشف عن البنيات التحتية التي تغذّت عليها الحقائق السطحية الظاهرة. وبهذا انفصلت قراءة الحداثة عن الحدود المعرفية للعقل العربي، واكتفت طبقة الإنتلجنسيا العربية بعرض الحداثة كمنتج له إغراءاته ومزالقه! مما دعا طائفة من الناس إلى الاستسلام للإغراء، فروّجت لفكرة الحداثة، ورفضت الأخرى الفكرة وسط تحذيرات دينية، وحرصت الطائفة المروِّجة للحداثة على احتكارها الكامل للحداثة، لتستأثر بفضل اصطفاء الحداثة لها وحدها، وحرصت الطائفة الثانية على محاربة الحداثة واحتكارها للدين لتُبعد الطائفة الأخرى عن فضل اصطفاء الله لها!.

لم تفلح محاولات طبقة الإنتلجنسيا – حتى الآن- في قيادة العقل العربي لمشروع الحداثة الحقيقية، رغم معرفتها بأن العقل العربي يُقدِّس النص ويُكذِّب الواقع، لا أن يُقدٍّس النص ويُصدِّق الواقع، ولم تفلح في استعادة العقل لبُعده التحرري، وصار انعزالها عنه استرجاعًا لطبيعته المقموعة، وارتكاساته الميثولوجية والأيديولوجية، فأصبح عضوًا للهيمنة، وأداة للسيطرة، فاشتغل العقل العربي كمعوّل لرفض المختلف، يهتم بكشف تناقضات المختلف وراء قناع التطابق الزائف.


ولهذا انتهج الفكر الحداثي في العقل العربي نهجًا جدليًّا، فنبذت كل طائفة الطائفة الأخرى، وامتد الجدل إلى مرحلة السباب، والقذف، والتكفير، واستُخدم الدين كايدولوجيا للكفاح ضدّ الثقافي المختلف، واستُخدمت الحداثة كأداة هدم وتخريب ضد التراثي، على الرغم من انتماء الطائفتين لثقافة واحدة!. هذا الموقف السلبي لطبقة الإنتلجنسيا العربية أسهم إلى حد كبير في وضع العقل العربي خارج نطاق الفكر الحقيقي، لأنها سوّقت للإيديولوجيات داخل الفكر بدلاً من نقدها، ولو كانت الإنتلجنسيا تهدف حقًا إلى تغيير الفكر لوضعت في خطتها الإصلاحية الإجابة عن الأسئلة الثلاثة التالية:

ما الموقف الحداثة؟

ما موقف الذات من الموروث الفكري؟

ما السبيل إلى سدّ الفجوة الحضارية بين الذات والآخر؟

على طبقة الإنتلجنسيا السياسية أن تعي جيدًا أننا نعيش مرحلة التقارب مع الآخر بعدما قدّم الآخر شهادة تقدمه، والتقارب لن يتحقق إلا بإذابة الحدود الأيدلوجية والعصبية بيننا وبينه، وهذه الخطوة يكتب لها النجاح برفع حالة الوصاية التي تمارسها النخب السياسية على النخب الفكرية، ولننظر إلى تجربة الغرب، فالتفوق الغربي الراهن هو نتاج تعاون السلطة السياسية مع النخب الفكرية، فأفكار صمويل هنتنجتون، وفوكو ياما، وبرنارد لويس .. وغيرهم لها دورها البارز في رسم سياسات الغرب، وسبب رئيس في تقدّمه، وفي هذا السياق لا يمكن تجاهل التعاون بين النخب السياسية مع النخب المثقفة في اليابان المعروفة بـ " طبقة الساموراي" وأثمر هذا التعاون في تطور اليابان، وصناعة الإنسان الياباني الحديث، وحماسة هذه الطبقة في تعلّم الفنون الغربية وتمثلها، أما الوضع العربي فمأسوي، وأكتفي بهذا المقطع من بحث لسعد الدين إبراهيم بعنوان المفكر والأمير " دول العالم الثالث لم تشهد ثورات اشتراكية أو ماركسية، وإنما شهدت انتفاضات وطنية وقومية للتخلّص من الاستعمار الأجنبي، والحصول على الاستقلال... واستمر التعاون بين النخب السياسية، والنخب الثقافية طوال مرحلة الاستقلال، والمرحلة التالية لمرحلة الاستقلال مباشرة، ثم بدأ التوتر، ثم القطيعة، ثم الصراع بين النخبتين".(93)

فالصراع بين النخب السياسية، والنخب الثقافية في العالم العربي أحد المعوقات في تطور الفكر العربي في العصر الحديث، لأن السلطة السياسية بامتلاكها أدوات القمع تستقطب عددًا غير قليل من هذه الطبقة، ويسمون بمثقفي السلطة، ويتمتعون بامتيازات متعددة على حساب الفكر والثقافة، أما الفئة الأخرى فهي مهمشة، ومستبعدة، بعضهم يؤثر السلامة بعدم إطلاق العنان لأفكاره والتعبير عنها بحرية كاملة حرصًا منه على قوته وقوت أولاده، أما إذا أطلق العنان لأفكاره، فسيكون مصيره السجن أو النفي خارج الحدود ويُتهم بالخيانة والعمالة .. إلى آخر ماهو معروف من الكلشيهات الإعلامية الجاهزة لهذه المناسبات. والطريف في هذا الموضوع أن السلطة السياسية إذا كانت بحاجة إلى المثقف الحقيقي تعاونت معه لتحقيق غرضها، وإذا ما حققت أهدافها تخلت عنه وساقته إلى مصيره المحتوم وراء القضبان أو خارج الأسوار!، وأسوق مثالاً لهذه الصراع بتجربة المفكر السوداني حسن الترابي وتعاونه مع السلطة السياسية في السودان فترة من الزمن، حاول الترابي الوصول إلى الحكم من خلال هذه العلاقة، ولكن لأنه لا يمتلك أدوات القمع، وانتهى الصراع بإيداع الترابي خلف القضبان، فعلاقة النخب السياسية بالنخب الثقافية في العالم العربي علاقة مأساوية تكرس أفكار القمع والكبت والتمرد، تسير على عكس ما يحدث في كل دول العالم المتحضر، وهذا النمط من العلاقات له ما يماثله في جميع الدول العربية على الإطلاق، و لانزال نتساءل لماذا لا نتقدم ويتقدم الآخر؟



دكتور/ عبد الفتاح يوسف

الهوامش والإحالات



(*) طبقة الإنتلجنسيا: كلمة روسية تعني وصف طبقة من المثقفين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مارست النقد الفكري للأوضاع القائمة، ورفضت النظام القائم آنذاك، ( راجع، نديم البيطار، المثقفون والثورة: الإنتلجنسيا كظاهرة تاريخية. دار بيسان (بيروت) الطبعة الأولى2001.م ص 12). وتشمل طبقة الإنتلجنسيا في هذا البحث المفكرين العرب القوميين، والإسلاميين، والليبراليين الذين ينقدون الأوضاع الفكرية الراهنة في مشاريعهم الفكرية، ويعود اهتمام البحث بهذه الطبقة على وجه التحديد لأنها المسؤولة عن صناعة الفكر العربي الراهن، وتحديد توجهاته الفكرية، والعقائدية، والاقتصادية.. أي أنها تمثل السفينة التي ستنقل العالم العربي من عالم الجمود والثبات، إلى عالم التحرر والإبداع، عبر بحر تشتد فيه الأنواء، وتتلاطمه الأمواج. وكما يصفها تركي الحمد بقوله: إنها موقف هذا الفرد من أو تلك الجماعة من مجتمعه وقضاياه، ويلفت الحمد انتباهنا إلى نقطة مهمة تتعلق بالتوجهات الذاتية في الأحكام لبعض روادها، والتوجهات الموضوعية للبعض الآخر، أي أن توجهات هذه الطبقة ليست كلها موضوعية.




1 ـ انظر مادة: Modernite

Encyclopedia.V11

والنص أورده محمد برادة في: اعتبارات نظرية لتحديد مفهوم الحداثة، مجلة فصول ( الهيئة المصرية العامة للكتاب) المجلد الرابع، العدد(3)، (إبريل/ مايو/ يونيو 1984.م) ص12.

2 ـ كمال أبو ديب، الحداثة، السلطة، النص، فصول، مج4، ع3، ( إبريل/ مايو/ يونيو 1984.م) ص35.

3 ـ هنري لوفيفر، ما الحداثة، ترجمة كاظم جهاد، دار ابن رشد للطباعة والنشر ( بيروت ـ لبنان) الطبعة الأولى (1983.م) ص 116.

4 ـ خالدة سعيد، الملامح الفكرية للحداثة، فصول، مج4، ع3 (1984.م) ص25.

5 ـ هنري لوفيفر، ما الحداثة، ص117.

6 ـ السابق ص118،117.

7 ـ محمد نور الدين أفاية، المتخيّل والتواصل " مفارقات العرب والغرب"، دار المنتخب العربي للدراسات والنشر والتوزيع ( بيروت ـ لبنان) الطبعة الأولى (1993.م) ص56.

8 ـ محمد سبيلا، الوعي الفلسفي بالحداثة بين هيجل وهيدجر، الفكر العربي المعاصر، مركز الإنماء القومي (بيروت ـ لبنان)، العددان (116/117)، (خريف / شتاء 2000 ـ 2001.م) ص31.

9 ـ برهان غليون، نحو تجديد إشكاليات الفكر العربي المعاصر، قضايا فكرية، ( تصدر عن قضايا فكرية للنشر والتوزيع، القاهرة) ( الكتاب التاسع والعشرون، أكتوبر 1999.م) ص130.

10 ـ راجع كمال عبد اللطيف، الحداثة والتاريخ، أفريقيا الشرق (الدار البيضاء وبيروت) (1999.م) من ص77 ـ85.

11 ـ السابق، ص 81.

12 ـ محي الدين اللاذقاني، آباء الحداثة العربية، الهيئة المصرية العامة للكتاب،(2003.م)

13 ـ السابق ص 12،11.

14ـ السابق، ص 81.

15 ـ السابق ص 136.

16 ـ السابق ص 172.

17 ـ زكي الميلاد، من التراث إلى الاجتهاد، المركز الثقافي العربي، ( الدار البيضاء وبيروت) الطبعة الأولى (2004.م).

18 ـ السابق ص 275، 276.

19 ـ عبد المجيد بو قربة، الحداثة والتراث، دار الطليعة (بيروت ـ لبنان) الطبعة الأولى (1993.م) ص21.

20 ـ السابق ص48.

21 ـ محمد عابد الجابري، نحن والتراث، المركز الثقافي العربي (الدار البيضاء وبيروت) الطبعة السادسة (1993.م) ص21.

22 ـ عبد الله الغذّامي، حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية، المركز الثقافي العربي( الدار البيضاء وبيروت) الطبعة الأولى (2004.م).

23 ـ فادي إسماعيل، الخطاب العربي المعاصر، قراءة نقدية في مفاهيم النهضة والتقدم والحداثة (1978 ـ 1987.م)، المعهد العالي للفكر الإسلامي (فرجينيا ـ الولايات المتحدة الأمريكية) (1994.م)

24 ـ عبد الله الغذامي، حكاية الحداثة،ص 289 وما بعدها.

25 ـ السابق ص34.

26 ـ هشام شرابي، النقد الحضاري للمجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، (بيروت ـ لبنان) الطبعة الثانية (1999.م) ص84.

27 ـ أبو الأعلى المودودي، نحن والحضارة الغربية، الدار السعودية للنشر والتوزيع (1404.هـ ـ 1984.م) ص 343. وراجع له أيضًا، الإسلام والمدنية الحديثة، الدار السعودية للنشر والتوزيع، الطبعة الثامنة، (1402.هـ ـ 1982.م) يقول ص25 : نحن نرى أن المبادئ الثلاثة " العلمانية، القومية، الديموقراطية" خاطئة فاسدة. بل نعتقد من قرارة أنفسنا عن بصيرة وهدى واقتناع أنها منبع الشرور والمصائب والمآسي التي تعاني الإنسانية من جرائها اليوم ما تعانيه، وقد أخذنا على عاتقنا أن نحاربها ونحطمها، حتى نجتثها من جذورها بكل ما لدينا من إمكانيات ووسائل. وراجع له أيضًا الكلمة الأخيرة له في هذا المؤلف بعنوان " كلمة لغير المسلمين" من ص53: ص55.

28 ـ السابق ص82. وراجع أيضًا ص46.

29 ـ راجع الأعمال الكاملة لجمال الدين الأفغاني، تحقيق وتقديم محمد عمارة، المؤسسة المصرية العامة ( د ـ ت) لاسيما الأفكار المطروحة في "الرد على الدهريين".

30 ـ علي حرب، مسألة التغيير بين المأزِق والمَخْرَجْ، التسامح( فصلية فكرية تصدر عن وزارة الأوقاف والشؤون الدينية) ( سلطنة عُمان )، السنة الثانية، العدد الخامس، شتاء (2004.م) ص220.

31 ـ السابق ص221.

32 ـ فادي إسماعيل، الخطاب العربي المعاصر، ص159.

33 ـ السابق، ص163.

34 ـ راجع هشام شرابي، النظام الأبوي وإشكالية تخلّف المجتمع العربي، نقله إلى العربية: محمود شريح، مركز دراسات الوحدة العربية (بيروت ـ لبنان) الطبعة الثانية (1993.م) ص16.

35 ـ هشام شرابي، معنى الحداثة، الإسلام والحداثة، ندوة مواقف،(أدونيس وآخرون)، دار الساقي، (بيروت ـ لبنان) الطبعة الأولى (1990.م) ص370.

36 ـ حسن صعب، تحديث العقل العربي " دراسات حول الثورة الثقافية اللازمة للتقدّم العربي في العصر الحديث"، دار العلم للملايين (بيروت ـ لبنان) الطبعة الثالثة (1980.م)، ص40.

37 ـ حسين مروّة ( وآخرون)، دراسات في الإسلام، دار الفارابي (بيروت ـ لبنان) (1980.م) ص84.

38 ـ جودت فخر الدين، مجلة فصول، المجلد السادس عشر، العدد الثاني، خريف (1997.م) ص10.

39 ـ أدونيس، الشعرية العربية، دار الآداب ( بيروت ـ لبنان) الطبعة الثانية (1989.م) ص56.

40 ـ أدونيس، مجلة أبواب، فصليّة عربية تعنى بالأفكار والثقافة، تصدر عن دار الساقي (بيروت ـ لبنان) العدد الأول (1994.م) ص12.

41 ـ أدونيس، الشعرية العربية ص50.

42 ـ أدونيس، فاتحة لنهايات القرن، دار النهار (بيروت ـ لبنان) الطبعة الأولى (1998.م) ص245.

43 ـ السابق ص249.

44 ـ السابق ص249.

45 ـ السابق ص245.

46 ـ السابق ص272.

47 ـ السابق ص289.

48 ـ السابق ص290.

49 ـ هشام شرابي، النظام الأبوي، ص66.

50 ـ على حرب، مسألة التغيير بين المأزق والمخرج، التسامح ص222.

51 ـ أدونيس، مجلة الدراسات الفلسطينية، (فصلية تصدر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية ببيروت) العدد41 شتاء (2000.م) ص122.

52 ـ أدونيس، فاتحة لنهايات القرن، ص258.

53 ـ فتحي التريكي، ورشيدة التريكي، فلسفة الحداثة، مركز الإنماء القومي، (بيروت ـ لبنان) (1992.م).

54 ـ السابق ص6.

55 ـ السابق ص25.

56 ـ محمد سبيلا، الحداثة وما بعد الحداثة، دار توبقال للنشر (الدار البيضاء ـ المغرب) الطبعة الأولى (2000.م).

57 ـ السابق ص8.

58 ـ السابق ص9.

59 ـ السابق ص11.

60 ـ السابق ص13.

61 ـ أدونيس، فاتحة لنهايات القرن، دار النهار (بيروت ـ لبنان) الطبعة الأولى (1998.م) ص249.

62 ـ محمد سبيلا، الحداثة وما بعد الحداثة، ص21.

63 ـ السابق، ص21.

64 ـ السابق ص24.

65 ـ محمد سبيلا، الوعي الفلسفي بالحداثة بين هيجل وهيدجر، ص30.

66 ـ عبد المجيد الشرفي، الإسلام والحداثة، دار الجنوب للنشر، ( تونس) الطبعة الثالثة (1998.م) ص16.

67 ـ السابق ص 13 ـ 19.

68 ـ السابق ص 23.

69 ـ السابق ص 21،20.

70 ـ السابق ص 23.

71 ـ السابق ص24.

72 ـ السابق نفس الصفحة.

73 ـ تركي الحمد، الثقافة العربية في عصر العولمة، دار الساقي ( بيروت ـ لبنان) الطبعة الثالثة (2003.م) ص 113.

74 ـ السابق ص 114، 115.

75 ـ مطاع صفدي، نقد العقل الغربي، مركز الإنماء القومي ( بيروت ـ لبنان) ( 1990.م) ص 56.

76 ـ راجع، حوار العرب، مجلة فكرية ثقافية شهرية تصدر عن مؤسسة الفكر العربي، العدد الثاني، يناير (كانون الثاني) (2005.م) ص14.

77 ـ السابق ص14.

78 ـ السابق ص18.

79 ـ السابق ص18.

80 ـ كمال عبد اللطيف، في الفلسفة العربية المعاصرة، دار سعاد الصباح ( الكويت) الطبع الأولى (1992.م) ص58.

81 ـ عبد الإله بلقزيز، الإسلام والسياسة، المركز الثقافي العربي (الدار البيضاء وبيروت) الطبعة الأولى (2001.م). لا سيما صفحات 15،14،13.

82 ـ على حرب، مسألة التغيير بين المأزق والمخرج، التسامح ص220.

83 ـ السابق ص 221 ـ 225.

84 ـ السابق ص 225 ـ 226.

85 ـ السابق ص 227 ـ 233.

86 ـ برهان غليون، نحو تجديد إشكاليات الفكر العربي المعاصر، قضايا فكرية، ( سلسلة كتاب قضايا فكرية، يصدر عن قضايا فكرية للنشر والتوزيع ـ القاهرة) الكتاب التاسع عشر، والعشرون، أكتوبر (1999.م) ص130.

87 ـ السابق ص133،132.

88 ـ هشام شرابي، معنى الحداثة، الإسلام والحداثة، ص377.

89 ـ السابق ص382،381.

90 ـ محمد سبيلا، الحداثة وما بعد الحداثة، دار توبقال للنشر، ( الدار البيضاء)، الطبعة الأولى (2000.م) ص100،99.

91 ـ السابق ص99.

92 ـ راجع عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي، دار الحقيقة (بيروت ـ لبنان) (1973.م) ص24.

93 ـ سعد الدين إبراهيم، المفكر والأمير: دراسة في تجسير الفجوة بين صانعي القرارات والمفكرين في الوطن العربي، بحث منشور في " الإنتلجنسيا العربية، المثقفون والسلطة" تحرير/ سعد الدين إبراهيم، منتدى الفكر العربي ( عمان ـ الأردن) الطبعة الأولى (1981.م) ص561.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى