محمد حسن النحات - حجارةٌ في جيبي!... قصة قصيرة

يوسف الصغير ذو الوجهِ الصبوحِ والنظرة الحائرة الآسرة قُتِلَ اليوم, وفدوى الطيبة لن تعلم بوفاته إلا بعد ثلاثة أيام.
أنهتْ عدداً من التقارير العاجلة وتفقدتْ إيميل المنظمة وردّتْ على بعض الرسائل المهمة، ثم خرجتْ إلى الباحةِ المخضرةِ لِتُلقِي النظرة الأولى على الأطفال الخمسة الذين وفدوا إلى المعسكر. وجدتهم يلعبون بالكرة ويتناوبون على الأُرجُوحَة، ما عدا يوسف الذي جلس مُتقرفصاً على الأرض يراقبهم وهو يُخَلّل بأصابعه الرقيقة الحشائش المبتلة.
بهرها بضياءِ وجهه وبنظراته الحائرة التي تَجعلُك تفعل المستحيل لإيجاد أجوبة مرضية تزيل هذه التعابير عن ملامحه.
ستدور حوله، ستتقرب منه، وكموسى الرضيع سيجابهها وسيجابه الجميع بالصمتِ الرافض، لكن حنانها كفيلٌ بإذابة كل جليد العالم، وحينها بعد عدة أيام سيقول لها بابتسامة عريضة:
-” أنتِ تشبهين (مزيونة).”
وستغرق في نوبةِ ضحكٍ طويلة عندما تتعرّف على مزيونة، وكامرأة العزيز ستحبه، إلّا أنها لن تقد قميصه من دبر، بل ستهديه قميصاً أبيض رسم عليه قلب كبير، وعلى جانبيه طُبِعَتْ: يوسف ومزيونة، سيسعد بالهدية إلّا أنه لن يستطيع تهجئة الاسمين المطبوعين إلّا بعد بضعةِ أشهر.
يقع المعسكرُ عند أحد ضواحي العاصمة وعلى مبعدةٍ من أقرب منطقة سكنية، أسواره مُنخفضة تُطل على مساحة واسعة شاغرة، غرباً تمد الخرطوم لساناً من الأسفلت يقود إلى زحامها، خلف السورِ باحة خضراء في جميع فصول السنة، تتناثر فيها ألعاب للأطفال وميدان صغير لكرة القدم، وآخر مُبلط لتمارس عليه كرة الطائرة والسلة، ونادراً ما كان يُشغل، ثم المباني الإدارية وغرف النوم المتصلة مع بعضها بممر طويل، هنا وفقاً لدراسات واحصائيات علمية ونفسية يقومون بتأهيل الأطفال العائدين من الخارج إلى أحضان الوطن.
كان يوسف في أيامه الأولى في معسكر التأهيل يأكل قليلاً جداً، ويتوقف بحسمٍ عند حد معين حالما يشعر بآلام السياط على ظهره، لم يكن ثمة ضرب هنا لكنها تجربة (بافلوف) التي مُورستْ عليه فألزمته بنتائجها المُوجعة، ثم رويداً رويداً تزايدتْ معدلات أكله فأصيب بما يشبه السعار... يأكل بشراهة متنقلاً بين الأصناف الموضوعة أمامه، لم تكن شراهة جوع بل لَهْفَة من يود التعرف في ذات اللحظة على جميع نكهات الأطعمة.
كان يوسف مثل فراشة سجنتْ في صندوقٍ زجاجي ثم فجأة أطلقتْ في وسطِ حقلٍ من الورود.
" أنت زائدٌ نصف كيلو"
تفِرّ دموع يوسف قبل أن يصفعه الرجل فيقع من على الميزان، يحاول أن يزحف بعيداً لكن الرجل يشدّه من قدميه ويَقِلبه بغلظةٍ على ظهره، يثبت جسد يوسف الهزيل تحته بركبته ويضغط على فكه بيده اليمنى ويحشر أصابع يسراه في حلقه، يخربشه من الداخل ويدفعه ليتقيأ، حالما يندفع ما في جوفه يركله على بطنه ساخطاً مزمجراً، حينها يدخل مالك المزرعة يسبقه عطره وصوت احتكاك حبات مسبحته:
- " لا تقتل الطفلَ يا رونيت".
وينحني ماسحاً على شعرِ يوسف ويناوله قطعة حلوى فاخرة من جيبه:
- " اهدأ يا صغيري، لا تأكل كثيراً فتمتلك مثل كَرِشي" ويطلق ضحكة كثغاء شاة، قبل أن يواجه بقية الأطفال المنكمشين في طرف الحظيرة ويخاطب رونيت مجدداً:
- " لدينا سباق الأسبوع المقبل.. جهزهم جيداً".
ستكون هذه آخر مرةٍ يزداد وزن يوسف فيها، سيضطر رونيت مستقبلاً للالتفاف على قوانين اللعبة بوضع حجارة في جيبيّ يوسف كلما شارك في سباق.
أخذتْ فدوى، يوسف معها إلى البيت بعد نهاية حصة التعريف بتراث وعادات المجتمع السوداني، قابلته والدتها بترحابٍ كبير، لاعبته ونفضتْ الأتربة عن قصص ما قبل النومِ وحكتْ له عن (فاطمة السمحة والغول) و( الملك البخيل).
عندما نام خرجتْ على أطراف أصابعها وفي الصالة همستْ لابنتها:
- " لا أصدق أنه في الثالثة عشرة.. طفلٌ صغير وجميل".
ثم أضافتْ بحسمٍ:
- " لكن لا يمكنه البقاء هنا إلى الأبد".
تعلمُ فدوى مسبقاً رأي أمها في أفعالها، تحبها لكن لا تستوعب الأم أن اِبنتها الوحيدة تركتْ العمل بشهادة الهندسة وقنعتْ بالعمل في منظمة خيرية.
عادتْ فدوى إلى الغرفة لتطمئن على يوسف، بدا كملاكٍ نائم جلستْ بقربه تُمسد شعره:
- "أي فظاعاتٍ مرتْ عليك يا صغيري, سرقوا طفولتك بل حتى حلمكَ بالرجولة من أجل لعبة يتراهنون عليها وتغدق عليهم الصّيت والثراء".
يومض الماضي ومضاتٍ سريعة في عتمة ذاكرة يوسف كما يومض البرق في ليلة حالكة السواد. لا يَذكُر من ماضيه سوى لمحاتٍ عابرة ووجوه لا يكادُ يمسك بتفاصيل ملامحها.. أرضٌ جرداء، جبلٌ شاهق، بكاء، صراخ امرأة يحسبها أمّه، يدٌ معروقة بأظافر متسخة وبخنصر مقطوع. لن ينسى تلك اليد التي جرته تارة وصفعته تارة أخرى، وهناك حيث الإضاءة المتلألئة والوجوه النظيفة، ذات اليد المعروقة مسحتْ على شعره وأطعمته كراتٍ باردةٍ بألوانٍ متعددةٍ ومذاقٍ حلوٍ رائع. كانتْ تلك هي المرة الأولى التي يتذوق فيها يوسف الآيسكريم،، ولن يتذوقه مرة أخرى إلّا بعد عامٍ، وحينها سينطبع طعمه في ذهنه بالضياعِ والألم والحمى، ويوماً ما، سيرمي على الأرض علبة الآيسكريم التي جلبتها له فدوى، ستتسع عيناها دهشةً وهلعاً من نوبةِ الغضب المفاجئة والنادرة التي تملكته، سيهرسُ العلبة بحذائه ويركلها لأبعد نقطة استطاعتها قدمه. ستحاول فدوى تهدئته وسيرتمي في حضنها باكياً:
- " أنا آسف.. أكره الآيسكريم".
قبل سنوات عديدة، ضاقت الدنيا على والد يوسف، أحد عشر طفلاً وثلاث زوجات وبضع عنزات. الماء عزيز وجلبه من الآبار البعيدة يُكلفه شهرياً مبلغاً ضخماً, ويأخذون منه ماعزاً أو اثنتين سنوياً. قبيلته قليلة الشأن هنا وتعتبرهم قبائل المنطقة ضيوفاً طارئيين لا أصل لهم ولا أرض.
حدثه (بركي) قبل يومين في سوق المدينة المجاورة عندما وجده يحاجج بائع الخضار على الثمن، دفعَ عنه بركيٌ مبلغ تبضعه ودعاه إلى شرب الشاي. جلسا وتحادثا لبرهةٍ ثم ولجَ بركيٌ إلى صلبِ الموضوع :
- " تعلم أنني أسافر إلى الخارج كثيراً.. يمكنني تدبير عملٍ لأحد أبنائك"
لم يكن والد يوسف غبياً.. علم من الوهلةِ الأولى أن كرم بركي وَرَاءه صفقة.
- " كم ستعطيني شهرياً لقاء عمله"
أجابه:
- "سأمنحك مبلغاً مجزياً في البداية، وعندما يثبتُ ابنك جدارته هناك، سيضع أصحاب العمل أجرة شهرية مُرضية لك على أن يعود بها ابنك عند عودته من السفر بعد عام فقط"
تساوما على المبلغ، ثم تصافحا في النهاية.
لم يختره والد يوسف، بل اختاره بركي. في صباحٍ مشؤومٍ أتى بركي إلى خيماتهم الثلاث.
كان والد يوسف ساهِم الطَّرف، مُضجِعاً على الأرض يشفط شايه. وُضِعَ الثمنُ في يد الأب؛ فصرخَ في زوجاته النائحات ليُخرجن أطفالهن إلى الفسحة أمام الخيم.
جال بركي في وسط الأطفال كما يجول الجزارُ وسط قطيعٍ من الخراف، الأطفال منكمشون على بعضهم ويحاول بعضهم الهروب نحو أمهاتهم فيعودون إلى أمكنتهم على وقع ضربات عصا بيد أبيهم. تقبضُ يدُ بركي المعروقة بأظافرها المتسخة وخنصرها المقطوع على يد يوسف يبكي الأخير, تحاول أمه حضنه، يصفعها زوجها, تشق جلبابها، يختلط احساس الفرح والحزن على الزوجتين الأخريين اللتين نجا أبناؤهما. تميدُ الأرض بالأب لكن أوراق النقود بجيبه تعيد إليه توازنه. يهجسُ الأب في نفسه:
- " ستكون له حياة منعمة أفضل من هذا الفقر، سيصبح فارساً تُحكى عنه الحكايات، سيعود بعد عام.. سيعود بعد عام".
ولن يعود يوسف ذو الثلاث سنوات إلّا بعد تسعة أعوام وستة أشهر.
قَدّمَ بركي أوراقه الثبوتية إلى موظفِ المطار، لم يَشّك الموظفُ للحظة أن الطفلَ بيد الرجل ليس ابنه، فالأوراق الرسمية لا تكذب. كان يوسفٌ مذهولاً تماماً. الأضواء، الضجيج غير المعهود، الملابس الغريبة التي يراها لأول مرة، السيارات.. ثم جسم الطائرة الضخم.
أخذتْ الأحداث المتسارعة بتلابيب عقله؛ هو الطفل الذي لم يرَ سوى الخيمة والأغنام وعائلته، ولم يُجدِ بكاؤه في أول يوم من خطفه أو بيعه(سَمِّ الأمرَ ما شئت).
صفعاتُ بركي القاسية أخرسته تماماً وجعلتْ منه ظلاً لبركي، يسير أينما سار، و يقف أينما وقف.
مطار آخر... موظف آخر... آيسكريم بطعم مذهل.. تاكسي... سيارة جيب سوداء بسقف متحرك... طريق مسفلتة وسط صحراء... ثم مزرعة فسيحة.. ويد أخرى تتسلمه وتسلم اليد ذات الخنصر المقطوع رزمة نقود. وأخيراً سقفٌ خشبي.. يد البنغالي الذي يضع وعاء طعام أمام يوسف ويقول له شيئاً لا يفهمه. يوسف جالسٌ على الأرض أمام طعامٍ لا يجد في نفسه شهية نحوه، وبعيداً منه أطفال في عمره وصبية أكبر قليلاً يطالعونه في فضول.. لحظات صمتٍ لا يسمع فيها إلا رُغاء الإبل في الخارج.. ثم يهجم الصبية على طعام يوسف ويتقاتلون عليه.. يوسف يبكي.
كان (رونيت)البنغالي مضمراً (1) خبيراً بعمله، قاسياً جداً ومتسلطاً. كان الصبية يهابونه ويرتجفون حالما يسمعون صوت ضربات حذائه على الأرض. لا يجامل في تدريب الصبية على التعامل مع الإبل والعناية بها وتغذيتها، ومع مرور السنوات تعلم الصبية لغة (الأردو) التي يتحدثها رونيت وتساقطتْ لغاتهم الأم، كانوا خليطاً من بضع جنسيات.. سودانيون وصوماليون و إرتريون. يُوقظهم رونيت عند الرابعة فجراً، يقسم عليهم مهام غسل إبل السباق بالماء والصابون، وضع طعام الإبل ذي النظام الغذائي الخاص الذي يشرف عليه رونيت بمعاونة خبير تغذية يزور الحظيرة مرة شهرياً، ثم تمشية الإبل حسب سنها ومرحلة تدريبها لمسافات طويلة أو قصيرة.
يندمج يوسف مع محيطه رويداً رويداً، تعلم أن يقتنص لحظات المرح من فك البؤس، تعلم من زميل عمله الصبي (صِدّيق) التزحلق على ظهر البعير عندما يقومان بغسله بالصابون.. أن يتعلقا بعنق الجمل الطويل دون أن يثيرا غضبه... والأهم أن يسرقا الطعام من رونيت دون أن يقبض عليهما.
أول مرة يرى فيها يوسف مزيونة عندما عاد ليلاً من تمشية طويلة مع المُضمر رونيت وصاحبه صِدّيق، ساروا بالإبل اثني عشر كيلومتراً؛ يُحَضّرهم رونيت لسباق الهجن الكبير، كانتْ مزيونة مُهتاجة وتحاول فك وثاقها المربوط بعناية على شجرة الترويض، كانتْ لقية(2). رغم الإنارة الخافتة ما كان لجمالها أن يخفى، قمراء بكتف مشعر يميل لونه إلى السواد، عظامها دقيقة متوسطة الحجم، غاربها مرتفع ويميل سنامها إلى الخلف كأنما تصعد طريقاً مرتفعاً. وجد يوسف نفسه يقترب منها رغما عن جعجعتها وضجيجها، عيناها متسعتان كحيلتان تلمعان بالدموع، طالع نفسه في عقر عينيها. أيقظه من سكرته زعيق رونيت ويد صِدّيق تسحبه بعيداً.
لم يجد النوم سبيلاً إلى مُقلتيّ يوسف، ظل خاطره مهتاجاً بضجيج مزيونة التي ذكرته بحاله ومآله، تقلب ليمنع وصول صوت صليل بطنها من العطش إلى مسامعه. يجب على البعير أن يروض أولاً جوعاً حتى يرضخ ويقنع عن محاولة فك أسره.
رونيت لا يسامح من يعصي أوامره خصوصاَ فيما يتعلق بالإبل لكن يوسف يتسحب خارجاً من مخدعه، يَنبُش الأرضَ خلف الحظيرة حيث يُخبئ ما يسرقه من تمر، يأخذ بضعِ تمراتٍ ويضعها في جيب جلبابه، ثم يسعى بين حوض الماءِ ومزيونة، يهرول ضاماً يديه المملؤتين بالماء، تنظر إليه مزيونة برِّيبةٍ تنحسر عندما يقرب يديه من شفتيها، تشرب وتشرب، ولا يكف يوسف عن الهرولة حتى يخفت صليل بطنها، يُلقمها التمرات ويبدو صوت تهشم نواة التمر بين ضروسها كموسيقى خلفية من فيلم مثير ينتهي بنوم يوسف ومزيونة بعمق وسعادة.
يقضي يوسف في معسكر التأهيل بالقرب من الخرطوم ستة أشهر، يتعلم فيها تهجئة وكتابة اسمه واسم مزيونة وفدوى، ويتداعى فيه جدار الصمت بينه وبين الناس، لا يسقط تماماً لكنه يصبح هشاً يمكن تحطيمه باِبتسامة صادقة. وتتورط فدوى فيه أكثر ويتورط فيها أكثر. تحاول دوماً التهرب من فكرة أن البحث عن أسرته متواصل وأنه يوماً ما سيذهب إلى الأبد. وبحكم عملها تطلع على الملفات النفسية لأطفال المعسكر وتتحاور مع المشرف النفسي حول أوضاعهم وماضيهم لتتفهمهم أكثر، وتستطيع أن تتواصل معهم بعمق. لكنها تجد في نفسها دافعاً مبهماً يجعلها تتجنب قراءة ملف يوسف، تخاف أن تعرف الفظائع التي قد يكون مر بها. تكتفي بأن الصبي يُحبها وأن سلوكه النفسي آخذ في التحسن.
يد صغيرة تغطي عينيها، تقول بصوت ضاحك وهي تنزع سماعة الأذن:
- "من؟!"
يقول بصوت يحاول أن يضخمه:
- " خمّني"
تبعد الهاتف وتدور قائلة:
- " يوسف الشقي"
يتظاهر بالاستياء :
-" كَشَفتيني مرة أخرى"
يضحكان
" ماذا تشاهدين؟" يقول يوسف
- " اجلس بجواري.. لقد اندلعتْ الثورة.. هاك شاهد"
تضع هاتفها بين يديه وتعيره سماعة الأذن.
حكتْ فدوى بحماس عن ظلم الماضي وعن فظائع النظام, أرته وأسمعته هتافات الشباب ومطاردات العسكر،العصي الإعتقالات، والدخان الكثيف المسيل للدموع.
-"أريني صورة الرئيس"... قالها يوسف
- لماذا؟
- فقط أريد أن أراه. قالها بحزم
ضربتْ فدوى بيدها على صدر جوجل فأخرج عشرات الصور للرئيس.
أصيب يوسف بخيبة أمل : حسبته يشبه رونيت البنغالي !.
كانت المرة الثانية التي يأكل فيها يوسف الآيسكريم بعد عام من تناوله للمثلجات مع (بركي) القاسي في المطار. أحضرها رونيت لهم في الحظيرة. بدا الأمر عجائبياً لأطفال المزرعة وهم يتلمسون لأول مرة هدية من رونيت الشرير. توجس (هيلي) الإرتري وأكل البقية السِحْر المثلج بسعادة لا مبالية:
- " هيا سنذهب في رحلة لمكان جميل " قالها رونيت وهو يشيح بنظره عنهم.
تقاتلوا على الجلوس على ظهر عربة الهيونداي التي كان يقودها نائب مالك المزرعة. جلس رونيت بتهذيب بجواره وهو يشبك يديه معاً
نائب المالك يبدو غاضباً
حمل الهواء الساخن بضع جمل إلى مسامع الصبية في الخلف
- هو غاضب جداً منك يا رونيت
- خسرنا كل السباقات التي شاركنا فيها
- يمكنه أن يركلك ويعيدك إلى بلدك القذر
رونيت عبثاً يحاول أن يعتذر بكلماتٍ عربية تخرج من فمه متعثرة وميتة.
- لقد علمتُ من مصادري سر فوز صبية أبو فهد بالسباقين الماضيين... بعد اليوم الكرة في ملعبك يا رونيت.. لقد وفرنا لك كل شئ.. صبية مَخْصيّون.
ثم حل الصمت المشتعل بالكثير فيما بينهما.
وصلتْ العربة مع مغيب الشمس إلى وجهتها: مبنى أبيض من طابقين بواجهة زجاجية،باب يفتح، أرضية مصقولة عليها بقع قديمة لم تفلح محاولات النظافة في طمسها، ممرضة آسيوية، كلمات قليلة، ثم أُخِذَ (صِدّيق) إلى الداخل.. ربع ساعة ثم أُخِذَ هيلي الإرتري الذي صبغ المكان بصراخه وبكائه، نصف ساعة ثم جاء دور يوسف.
بالداخل استقبله طبيب باكستاني بمعطفٍ أبيض ونظارةٍ سميكة ويضع على كفيه قفازات طبية عليها بقع حمراء لزجة:
- " اجلس يا صغير.. الأمر بسيط.. لن تشعر بشئ.. لا تتعبنا كالصبي السابق"
ترتسم معالم الحيرة والخوف على وجه يوسف، يكبله ممرضان ضخمان، يعبث الطبيب الباكستاني في مكانه الحساس، يشعر يوسف بوخزة إبرة، ثم لا شئ... لا يغيب عن الوعي لكنه يشعر فقط بأيادي الممرضين ويشتم روائح غريبة لن تبارح ذاكرته، ثم ينتهي كل شئ ويعودون إلى المزرعة.
يتجنب الصبية النظر إلى بعضهم. يبكي البعض، رونيت يهددهم ويلقم كل واحد منهم عدة أنواع من المضادات الحيوية حتى لا تلتهب جروحهم.
في الصباح وبينما يتبوّل يوسف ينزع الضمادات عن جرحه، يقابله كيس صَّفَنه منكمش ضئيل وملتصق بجسمه، وعلى طول منتصفه غرز جراحية. ينكش بيده الكيس بحثا عن كرتيه، اختفتا تماماً.. لا يدرى أهميتها، لكنه يشعر أنه ناقص. يخرج جارياً نحو مزيونة، يجدها باركة فيعانقها باكياً، وتلف مزيونة رقبتها حوله لتحتويه كأنما تعلم بمصابه.
من بين دموعه يفكر يوسف وهو يطالع (مضيحي) ذكر الإبل الذي كان يتحاوم بقربهما أنه قد أصبح كمزيونة.
تشاكستْ فدوى مع أمّها حول ذهابها إلى ساحة إعتصام الثوار. لكنها عنيدة كأبيها الراحل كما تقول أمّها. قلَّ حضور فدوى إلى المعسكر مما أحزن يوسف كثيراً. وعندما جاءتْ بعد غياب عدة أيام. تجاهلها تماماً. ظل يتجنب أن تقع عيناه على عينيها، لكنها اقتحمتْ عليه خلوته. دائماً ما كانت العينان نقطة ضعف يوسف؛ عندما كان يغضب من مزيونة ما كان عليها إلّا أن تلوي رقبتها وهي تنظر إليه بعينيها الكحيلتين الضاحكتين. ولفدوى مثل عيني مزيونة عدا أنها لا تلوى عنقها.
كان يوسف محتاراً حول إهتمام فدوى المبالغ فيه بالثورة وساحة الإعتصام، فأخذته يوماً إلى هناك. المكان الواسع ضاق بالناس حتى لا تجد لقدمك موطئاً، الشمس حارقة لكن الابتسامات والأهازيج تنسيك سخونة الجو، كل شئ بدا ليوسف بديعاً و يبثُ في جوفك روحاً جديدة.. كأنما تولد من جديد في هذه الساحة متخففاً من ماضيك وبصفحة بيضاء ناصعة.. وعندها تَفَهّم يوسف تعلق فدوى بهذا المكان.
قبل يومين من ترحيل رونيت البنغالي إلى بلاده مطروداً من جَنَّة المزرعة، شارك (صِدّيق) للمرة الأخيرة في سباق الهجن. كان يعتلي ظهر (مضيحي) ومربوطاً على ظهر الجمل بقماش حتى لا يسقط. سقوط الرِّكِّيب(3) من على بعيره كان يعني خسارته للسباق حتى ولو وصل البعير إلى خط النهاية قبل غيره. كان (صِدّيق) أفضل رِّكِّيب في المزرعة، وكان مضيحي الذكر الأسرع.
الجمهور في حالة هياج، يرتفع تصفيقهم وصرخاتهم إلى عنان السماء. انطلق السباق، دقائق معدودة ويسقط صِدّيق من على ظهر مضيحي المنطلق كالسهم. يكتمل السباق بفوز أحدهم، الجميع في خط النهاية يحتفلون بالنصر وصِدّيق هناك ملقى على الأرض. يسرع به مالك المزرعة ونائبه ورونيت إلى المشفى.
بعد هذه الحادثة بيومين طُرِد رونيت الذي سئم المالك من خساراته وإهماله. ولن يرى صبية المزرعة صِدّيق إلا بعد شهر من مكوثه في المشفى. سيقضي ليلة واحدة في الحظيرة قبل أن يُرحل إلى أهله في السودان كما قيل لهم. صِدّيق الأسمر ذو الضحكة العالية، سيغدو معاقاً عاجزاً عن الحركة وستظل ابتسامة بلهاء ترتسم على فمه المُعْوَج و لن يتوقف خيطُ لعابٍ من السيلان من جانب فمه حتى مماته.
بعد ذهاب رونيت، جيء بالمُضمر الجديد (حسين العيادي). هدأتْ الأمور بمجيئه إلى المزرعة، كان طيباً ودوداً كأخ أكبر، تساهل مع الصبية في أمر الطعام، قلّت السياط على ظهورهم إلا عند الضرورة، وتلاعب بالميزان حتى لا يضايقهم مالك المزرعة. وتكلم الصبية العربية بلهجة سيناوية واختفت تدريجياً كلماتهم الأوردية.
كان العيادي ملاكاً اذا ما قُورن برونيت البغيض. لكن هذه الدرجة الملائكية سقطتْ من عيني يوسف في فجر أحد الأيام. كان يوسف يجلب جوالات الشعير لإطعام الإبل، بينما نزل (هيلي) إلى السيده(4) ليتدرب على ظهر مضيحي، ولسببٍ ما، جفل الجمل وهاج ليسقط هيلي ويصطدم رأسه بالسياج الحديدي.. صرخته المكتومة جلبتْ العيادي ويوسف ليشهدا المأساة. يوسف يبكي.. العيادي يتحسس تنفس الارتري:
- "اخرس يا يوسف.. لا توقظ الصبية".
يهمس بها العيادي صافعاً يوسف:
- "أُجلب الجاروف من الحظيرة"
يجلبه يوسف بيدٍ مرتجفة
وعند الجدار الخلفي للمزرعة يدفنه العيادي ويعود نافضاً التراب عن جلبابه:
- " إياك أن تحكي لأحد.. هيلي رحل إلى بلده كصِدّيق.. هذا ما ستقوله"
وهذا بالضبط ما سيقوله يوسف للصبية.. يقولها في وجوههم كمن يلفظ بذاءة، ثم يهرع ليرتمي في أحضان مزيونة.
اجتهد المشرف النفسي ليُعد يوسف لمقابلة أسرته، وساعدته فدوى في ذلك. أصر يوسف أن تحضر فدوى هذا اللقاء. بخطوات مترددة دخل إلى المكتب الذي كان بداخله والديه. عند الباب وقف. رجل بلحيةٍ كثّة يتخللها البياض وبجلبابٍ متسخ، وسيدة ترتدي عباءة سوداء كالحة وعلى وجهها بُرقع وتصدر منها أصوات بكاء.
سار يوسف بخطواتٍ مستقيمة نحو فدوى والتصق بها:
- " هذه أّمك، وهذا أبوك يا يوسف".
يقول يوسف في نفسه؛
- لا أعلم أماً لي، إلّا مزيونة وأنتِ.
يقول أبوه بغضب:
- " حتى اسمه غيرتموه.. ابنى يدعى حمدان وليس يوسف"
تجاهلته فدوى والمشرف النفسي حتى لا يدخلا في الجدال العقيم الذي كان يدور قبل دخول يوسف، حاولا اقناع الأب أنهم ليسوا الجهة التي غيرت اسم ابنه.. وجدوه هكذا في الأوراق الرسمية التي استخرجتْ له قبل أن يهربه (بركي).
انقضتْ أمّه عليه، بينما بكاؤها يرج المكان.
كانتْ لحظات درامية جعلت فدوى تنشج بينما تسمرتْ نظرات حيرانة على عينيّ يوسف.
اضطرتْ فدوى إلى أن تسافر مع يوسف وأسرته إلى أطراف مدينة كسلا(5).. الصبي أصر أنه لن يذهب مع والديه إلّا في صحبتها. حذرها المشرف النفسي من هذا التعلق الذي لا يُخفى على أحد. ولم تجد فدوى في نفسها القدرة على أن تتركه وحيداً.
عند مضارب خيمهم نزلوا، هال فدوى بؤس المكان وافتقاره لأبسط مقومات الحياة. ضمته إليها وهي جالسة على الأرض: - " سأعود إليك قريباً.. هذا وعد... لا وداع بيننا... سأعود"
وصعدتْ إلى عربة المنظمة التي انطلق بها سائقها هرباً من هذه اللحظات الحزينة.
وقف يوسف يطالع السيارة. تمنى أن تعود أو حتى أن تخرج فدوى رأسها من خلال النافذة وتنظر إليه لآخر مرة. لم تفعل. ليست فدوى كمزيونة.
عندما ضيقتْ منظمات الطفولة وحكومة بلاد مالك المزرعة أضطر إلى إخفائهم في المزرعة لسنوات ليعملوا فقط في الاعتناء بالجمال؛ بعد أن مُنع استخدام الأطفال الركيبة واستبدلوا بدمى آلية، ولما ازداد الخناق على المالك أُجبر على تسليم وترحيل الأطفال.
يوم ترحيل يوسف وقف على رأس مزيونة التي كانت تهجل(6) كأنما علمتْ أنها ساعة فراق. احتضنها يوسف ودموعه تتساقط على وجهها. حملوه حملاً إلى السيارة التي انطلقتْ بهم. وخلف السياج انطلقتْ مزيونة تطارد العربة وعندما وصلتْ إلى آخر السياج لوتْ رقبتها وهي تطالع وجه يوسف المفترض بعينيها الكحيلتين لعل سحرهما يعيده.. لكنه لم يعد.
لم يستسِغْ يوسف وجوده وسط أسرته، كانت الهوة بينه وبينهم متسعة جداً فلم يستطع القفز فوقها أو تخطيها. السَّحنة، اللهجة، طبيعة الأرض، العنزات، دموع أمّه، ندم والده الغاضب في البداية على (بركي) الذي غافله ولم يجلب جنيهاً واحداً، لا شهرياً ولا مع يوسف، و إختفى منذ سنوات من المنطقة، ندمه الغاضب على جفوة يوسف وانكماشه على نفسه، ثم تدحرج ندمه إلى الاستعطاف والرجاء ودفع بالفاقة كمبرر لفعلته. ويوسف ليس كيوسف الجب؛ لا يسامح ولا ينسى. وبعد أسابيع عزم أمره وهرب ليلاً من مضارب أهله، سار نحو الجبل البعيد, عنده سيجد أقرب منعطف للطريق المسفلتة. وصل مع خيط الفجر الأول وحالفه الحظ بسائق لوري(7) وقف والتقطه.
- " إلى أين يا صبي"
- " الخرطوم"
- "هل أنت هارب من أهلك؟... تبدو هارباً يا تَعِسَ"
لا يعرف يوسف الطريق إلى بيت فدوى ولا موقع معسكر التأهيل، وتبدو له الخرطوم معقدة بمبانيها العالية. لكنه يعلم المكان المحبب إلى فدوى، ومَنْ وقتها مِن سكان الخرطوم لا يعلم الطريق نحو ساحة الإعتصام!.
وهناك وصل، اندمج سريعاً وسط الزحام، تنقل بين الخيم يسأل عن فدوى: "أي فدوى تقصد يا صبي؟!"
- ” فدوى التي تشابه عيناها عيني مزيونة!".
واستقر المقام بيوسف عند منطقة وسطي بين مطبخ ساحة الاعتصام وخيمة محو أمية مشردي الشوارع. كان يعمل منذ الفجر في المطبخ مساعداً في إعداد إفطار رمضان، وظهراً يذهب إلى الخيمة ليتعلم الكتابة والقراءة. هنا تطورتْ مهاراته ووجد عدداً من الأمهات كفدوى.. طيبات...حنونات.. لطيفات.. إلّا أنهن لم يملكن عيني فدوى ومزيونة.
تتجول فدوى بعد الإفطار مع أصدقائها في ساحة الاعتصام، لم تنس وعدها ليوسف وتؤجل زيارته إلى حين انفضاض الاعتصام باكتمال أهداف وشعارات الثورة. تقترب فدوى من المطبخ، توازي مدخله تماماً، لو أنها أدارتْ وجهها نحو المدخل لرأتْ يوسف.. ولو أن يوسف رفع عينيه من الوعاء الذي انهمك في غسله لرأى فدوى.
تحتدم الأمور وتشتعل المواجهات على أطراف ساحة الاعتصام بين الثوار والعسكر. ثم يسود هدوء وشعور متنامي أن الأمور ستستقر أخيراً, ويعود جُلُّ المعتصمين إلى منازلهم. لكن فجراً تُهاجم ساحة الاعتصام بغتةً، بعد ثلاثة أيام ورغم حظر التجوال الذي فرض على الخرطوم، كانتْ فدوى عند صديقتها تتناقشان بغضبٍ حول الأمر وما يجب فعله. ناولتها صديقتها هاتفها لتري القتلى الذين انتشلوا من نهر النيل بعد تصفيتهم واغراقهم في النهر.
كانت الصور صادمة لكنها أجبرتْ نفسها على التمعّن فيها، لا يمكن لأحد دفن رأسه في رمال النسيان، يجب على كل ثائر أن يحفظ ملامح كل شهيد، شعر مبتل، عينان جاحظتان في وجهٍ منتفخ، فم مفتوح على أخره، جيوب مملؤة بالحجارة، أطراف مربوطة بكتل إسمنتية. تنقلتْ بين الصور كاتمة دموعاً تتزاحم على مقلتيها، وفجأة صرخت كأم ثكلى وقذفتْ بالهاتف من يدها كمن يدفع عنه حيّة سامة!.
يوسف.. يوسف بوجهه الصبوح ونظرته الحيرانة الآسرة، لسانه مزرق ومتدلي خارج فمه، لم تكن فدوى في حاجةٍ للتمعّنِ في القميص الممزق الذي يرتديه، كان القميص الأبيض ذاته الذي أهدته إياه، مطبوع عليه قلب كبير على جانبيه كُتبَ (يوسف ومزيونة).
لن تعلم فدوى أبداً أن يوسف مؤخراً كتبَ بداخل القلب اسمها.. مياه النيل العَكِرة محتْ كل شئ إلّا الحقيقة المُرّة أن يوسف قُتِل، وبدمٍ باردٍ، رُبطتْ حجارة ثقيلة على قدميه لتطمس الجريمة تماماً، إلّا أن النيل المكلوم تجشأ أحزانه جثثاً على الشط!.


2 يناير 2022م.




- هوامش
(1) المُضمِّر: هو مروض الإبل.
(2) اللقية: هي الناقة عندما تكمل عمر الثلاث سنوات وجاز أن يطرقها الفحل.
(3) الركيب: الطفل الذي يقود الهجن أثناء السباق.
(4) السيده: هي مضمار سباق الهجن أو ساحة مشابه للتدرب.
(5) كسلا: مدينة في شرق السودان.
(6) الإهجال: هو صوت حنين تصدره الناقة خصوصاً الناقة الخلوج التي مات ابنها.
(7) اللوري: شاحنة مكشوفة السطح.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى