أحمد الديب: جمال القصة القصيرة يكمن فى ملاعبة الكاتب لقارئه.. حوار أجرته: شيماء شناوى

ــ «حكايات بعد النوم».. مذكرات شخصية جدًّا لمواقف مررتُ بها وخشيتُ أن تضيِّعها ذاكرتى السيئة
ــ بعد توقف 5 سنوات عدتُ دون سابق إنذار إلى كتابة القصص بسبب جملة عجيبة طافت بعقلى فى حلم


ست سنوات استغرقها الكاتب والقاص أحمد الديب، لتأليف كتابه «حكايات بعد النوم»، بمقدمة للدكتور محمد المخزنجى، قال فيها: «هذه نصوص فائقة الجمال كلما عاودت قراءتها تغمرنى النشوة، وأخرج من زحام وضوضاء العالم الفظ الذى يُثقلنا.. فأى سحر فى هذه الكتابة؟». كما خصته الأدبية الكبيرة الدكتورة رضوى عاشور بكلمتها ونُصحها قائلة: «نحن إذن أمام مشروع كاتب أصيل وكبير فلا أرجو منك سوى الحرص على نفسك ومواصلة المشروع؛ لأنه يخصّنا جميعًا». وهو الكتاب ذاته الذى وصفه الدكتور أحمد خالد توفيق «معزوفة.. لحن فى منتهى الرقة والجمال!».. كما قال عنه الدكتور محمد المنسى قنديل: «إنها ليست قصصا، إنها شذرات من أحلام.. تدور على حافة واقع من أثير يتشكل ليصبح رمزا أو أمثولة أو وخزة تدخل القلب دون أن تدميه. ومن خلال تلك الأمثولات البالغة القصر يبدو أحمد الديب مثل بحار عجوز يغوص فى بحر بلا قرار.. يبحث عن حكمة ضائعة، يسعى خلف سراب، يجمع أصدافا فارغة، ولكن موهبته فى القص تجعله يعود وجرابه مليء بحكايات هذا الكتاب».
وحول كتابه «حكايات بعد النوم»، الصادر حديثًا فى طبعته الأولى عن دار الشروق، ومشاريعه الإبداعية الأخرى، وحول الحكايات المختبئة وراء تلك الإشادات لكبار أدبائنا العرب دار معه الحوار التالى:

* نبدأ من العنوان لماذا «حكايات بعد النوم» وليس قبله كما العادة؟
ــ لنتفق فى البداية على أن أحد وجوه الجمال العديدة فى فن القصة القصيرة أن القصة لعبة بين الكاتب والقارئ. الروائي يريد إخبار قراء روايته بتفاصيل حكايةٍ ما بأكثر الأساليب جذبًا لأسماعهم، وينسق أفكاره وشخصياته وأدواته فيما يشبه قيادة أوركسترا. أما مَن يكتب القصة فلا يرجو ــ فى اعتقادى على الأقل ــ سوى ملاعبة قارئه واستدراج حواسه واختطاف انتباهه واستفزاز ذكائه للحظةٍ قصيرةٍ مكثفة، فيما يشبه عرضًا من عروض السحر أو خفة اليد. وهو يفعل ذلك بكل ما يتاح له استخدامه، وأول ذلك عنوان القصة، وعنوان الكتاب. العنوان هنا يماثل القِفل الذى يتوسط الباب (غلاف الكتاب) ويدفع القارئ للتمهل أمامه قليلًا بحثًا عن المفتاح. ربما يتساءل القارئ: «لماذا هى حكايات بعد النوم وليس قبله كما تعودنا؟»، وربما قاده بحثه عن إجابةٍ إلى التساؤل عن غرض حكايات قبل النوم المعهودة، فيجيب نفسه بأنها قد تساعد الصغار على النوم. فماذا عن الأغراض المحتمَلة لحكايات تأتى بعد النوم؟ ما الذى يحدث بعد النوم أصلًا؟ قد يجيب قارئٌ بأنها الأحلام (أو الكوابيس؟)، وربما قال آخر إنه الاستيقاظ، وربما جاء ثالث ورابع وخامس بعشرات الإجابات الأخرى، منها مثلا المحاولتان اللافتتان للدكتور صلاح الجبيلى والأستاذ أحمد شاكر فى قرائتيهما الملحقتين بطبعة دار الشروق من الكتاب.
فما الذى أراده المؤلف فى الأصل.. هل يهم حقا؟ ربما أراد فقط أن تولِّد أسئلته كل تلك الإجابات، وربما كانت رحلة البحث فحسب هى مراده الوحيد.

* يشاع أن الكتاب الأول دائما ما يسرد سيرة حياة الكاتب مهما أدعى عكس ذلك، فماذا عن حكايات بعد النوم؟
ــ وأنا لن أدعى أبدا عكس ذلك. الحقيقة أن «حكايات بعد النوم» ليست فقط سيرة ذاتية، بل هى أيضا مذكرات شخصية جدًّا وتفصيلية تمامًا لمواقف مررتُ بها وخشيتُ أن تضيِّعها ذاكرتى السيئة، فعالجتُها بنوعٍ من التشفير ومزجتُ حقائقها ببعض الخيال لتصير قصصًا قد يقرؤها غيرى فيجد فيها بعض التسلية أو المتعة، أو يجد فيها صورًا لنفسه أو ما حوله. أما أنا فأقرؤها فأجد فيها سيرتى الضائعة، أو هكذا كنت آمل على الأقل. قبل أن أكتشف أن الخيال كان قد بدأ فى التهام الحقائق ببطء شديد، كالصدأ، حتى سأجدنى ذات يوم قريب أقرأ القصص تمامًا مثلما يقرؤها غيرى، بآمالٍ أقصاها أن ألمح من سيرة حياتى أطيافًا شاحبة تنعكس للحظات معدودة فوق أسطُح القصص.

* للبحر والأطفال والعجائز.. وجود طاغٍ فى كتابك، فهل قصدت بهما الوجود الفيزيائى فقط.. أم الرمز إلى أشياء وأبعاد مختلفة؟
ــ أذكر أننى قرأتُ فى مكانٍ ما عن جلسةٍ لبعض النقاد الذين كانوا يناقشون رواية العجوز والبحر لهمنجواى فى حضور الكاتب، وبعد أن انبرى كل منهم فى تحليل ما يرمز إليه البحر فى الرواية سألوا همنجواى عما كان يقصده بالبحر حين كتب روايته، فأجاب أنه لم يكن يقصد به سوى البحر. وهى إجابة ذكية بالطبع من كاتب كبير لم يشأ أن يفسد على قرائه حينها وفى المستقبل متعة أن يغوصوا بأنفسهم فى ما كتب ليستخرجوا ما يعثرون عليه من كنوز منسية غارقة. ولو كان أحد النقاد أكثر ذكاءً من همنجواى لحاصره بسؤالٍ أصعب فى التهرب منه بنفس الكياسة، مثل: ما الذى يستدعيه البحر فى ذهنك؟
أما عن الأطفال والعجائز، فماذا تكون أية لحظة فى أعمارنا سوى محطة فى مسيراتنا الإجبارية من أطفال إلى عجائز؟ وأيُّ طفلٍ لا يحمل على ظهره بذرة العجوز الذى سيصيره بعد غمضة عين؟ وأيُّ عجوزٍ تخلو جدران قلبه من آثار الطفل الذى كانه قبل ساعةٍ من نهار؟

* الزهور والفراشات والأسماك والرياح كلها أبطال فى كتابك.. هل نعتبر ذلك إعادة لقراءة العالم من حولنا ومحاولة تفسيره؟
ــ على عكس إجابة همنجواى الذكية المراوغة سأقول بسذاجة إن أبطال قصصى من زهور وفراشات وأسماك ورياح وغيرها ليست ــ كما أسلفتُ ــ سوى أسماء كودية لبشر حقيقيين تمامًا. أم.. لعل هؤلاء البشر هم الذين حملوا فى صدورهم منذ البداية أفئدة زهور أو فراشات أو أسماك؟!

قد يقود البحث عن إجابةٍ لسؤالٍ مثل هذا إلى إعادة قراءةٍ للعالم بكل من فيه وما فيه، كما يُذَكِّرنا الشاعر وليام بليك حين يقول: «أن ترى عالَمًا فى حبة رمل، وفردوسًا فى زهرة برية. أن تحمل اللا نهائيَّ فى راحة يدك، والأبديَّ فى ساعة زمن».

* تَزين غلاف الكتاب بثلاث إشادات لكبار أُدبائنا «محمد المنسى قنديل، ورضوى عاشور وأحمد خالد توفيق» فما القصة التى تقف وراءهم؟
ــ كان من حسن حظى أننى قرأتُ ملحمة رضوى عاشور الرائعة «ثلاثية غرناطة» عقب صدور طبعة دار الشروق الأولى منها، وما زالت هذه الثلاثية عندى مما يُضرب به الأمثال. وكان من تمام الحظ أن أستطيع التواصل مع الدكتورة رضوى عاشور رحمها الله عبر البريد الإلكترونى، وأن تمتد بيننا العديد من الرسائل حتى التقيتُ بها ــ وبزوجها الشاعر الكبير مريد البرغوثي ــ قبل أكثر من عشرة أعوام، قبيل صدور روايتها «الطنطورية». وقد كنتُ أرسل لها بقصصى وهكذا أرسلت لى هذا التعليق عليها، والذى سأظل أعتز به إلى آخر العمر.

وقد كانت صدفة لقائي بالدكتور محمد المنسي قنديل عجيبة للغاية وتستحق أن أفرد لها يومًا ما قصةً كاملة. كنتُ قد أنهيتُ روايته العظيمة «قمر على سمرقند» وقررتُ على الفور أن أبحث عن كل ما أستطيع العثور عليه من كتاباته، لألتهمها كتابًا خلف كتاب.
وخصصتُ شهورًا متعاقبة فقط لقراءة محمد المنسي قنديل، حتى كان مسك الختام مع مجموعته القصصية المذهلة «عشاء برفقة عائشة»، والتي كتبتُ عنها رأيي على موقع جودريدز، لأجد بعد ساعات تعليقًا من الأستاذ المنسي قنديل نفسه (الذي كان -على ما يبدو- عضوًا قديمًا صموتًا بالموقع!) حيث قال:

«الآن أستطيع أن أتحدث عن هذا الكتاب بعد أن قرأتُ تعليقات كل الأصدقاء. لم أستطع أن أصدق عيني وأنا أرى كل هذه الآراء التي تأثرت بقراءته، كنت أعتقد أن هذه المجموعة من القصص تجربة فردية، حزن خاص، وجع شخصي، لن يستطيع أحد أن يدركه مثل صاحبه، قلت هذا لنفسي عندما صدرت الطبعة الأولى ولم يشعر به أحد، كنت قد صُمتُ طويلا عن الكتابة، ومرت بي ظروف نفسية بالغة السوء اضطرتني إلى أن أغادر مصر كلها، وحتى الآن لا أستطيع احتمال القاهرة طويلا، ولكني وضعت في هذا الكتاب كل مرارات هذه الأيام السابقة، وظللت عاجزا عن نشره فترة طويلة من الزمن، لا أملك الإرادة لذلك، كنت أقول لنفسي: لماذ تنشر ألمك على الآخرين، الآن سيعلمون كم كنت ضعيفا وشاعرا بالحصار، ثم عندما تجرأت أخيرا، نشرتُه ناقصا، وفي طبعة زهيدة الثمن، ولم يشعر به أحد، اللهم إلا صديقي المحب بهاء جاهين، كتب عنه عمودا متفردا في الأهرام، كنت أنا وهو قد تشاركنا لحظات كثيرة من الألم والافتقاد، وتحدثنا طويلا عبر الهاتف رغم أن أي واحد منا لم ير الآخر حتى الآن. ضايقني هذا الصمت المطبق حول الكتاب، رغم أنني كنت أعتقد أنني أنجزت فيه الشيء الكثير، واستخدمت آساليب من السرد، ودخلت عوالم من الفانتازيا لم يطرقها أحد، ووضعت فيه شحنة من الخلاص من الألم حتى أبرأ منها وأعود الحياة، وعندما عرضَّ علي الصديق محمد هاشم أن يعيد نشره لم أصدق أن أحدًا ما قد رأى الكتاب أو أحسَّ به، لذلك أضفتُ إليه أجزاء التي كانت ناقصة، ولم يحس به أحد أيضا. ومازلت لا أصدق نفسي وأنا أرى هذه الكلمات وكل هذا العدد من القراء، لا أملك إلا أن أقول لكم شكرا.. لقد أعدتم لي الثقة في نفسي، شكرا لأنكم احتفيتم بتجربةٍ في الكتابة أراها أهم ما أنجزته في حياتي».

وبالطبع امتدت بنا منذ تلك اللحظة حبال من الود الخالص، رغم أن أي واحد منا لم ير الآخر حتى جمعنا اللقاء أخيرًا عندما زار الدكتور محمد المنسي مكتبة الإسكندرية قبل بضع سنوات.


أما الدكتور أحمد خالد توفيق رحمه الله فلا يسعنى ــ ولا يسع أحد من أبناء هذا الجيل ــ التعبير عن مدى فضله علينا جميعًا. وعلى الأرجح ستختنق الكلمات فى حلقى كلما حاولتُ التصريح بقدر حبى له، كما اختنقَت الكلمات دائمًا فى حلق رفعت اسماعيل حينما كان يواجه ماجى بحبه ليشرح لها أنه سيظل يحبها للأبد وحتى تحترق النجوم و… ويكفى أن أقول أنه لولا هذا الرجل اللطيف الطيب لكنتُ ببساطة شخصًا آخر تمامًا. وربما لما عرفتُ الدكتور محمد المخزنجى قبل مرور وقتٍ طويلٍ جدا. فقد كنتُ أذكر أن الدكتور أحمد خالد نصحنى ــ بعد قراءة العديد من قصصى التى كنتُ أرسلها له بالبريد الإلكتروني ــ بأن أبحث عن قصص المخزنجى فورًا.
*إذا قادك أحمد خالد توفيق لقراءة «المخزنجى» فكيف جاءت علاقة صداقتكما وحرصه على كتابة مقدمة كتابك؟
ــ بعدما بدأتُ فى التهام قصص الدكتور محمد المخزنجى، بدأتُ فى مراسلته بالبريد الإلكترونى قبل أن تتكرر بنا لقاءات عديدة فى القاهرة والإسكندرية كان ما يدور فيها يستحق التوثيق حرفًا حرفًا. ربما لن يصدقنى أحد حين أزعم أن لطف وخُلُق الدكتور المخزنجى أجمل حتى من كل كتاباته التى تفيض جمالًا وبهاءً وعذوبةً.
وقد كنتُ أنهى القصة من «حكايات بعد النوم» فأرسلها إليه بعد لحظات من وضع نقطتها الأخيرة. ولم يكن يدخر جهدا لمناقشة القصص بالتفصيل، حتى قرأ الكتاب كاملًا قبل أن أجمعه أنا فى ملف واحد. وهكذا وجدتُه يعرض عليَّ ــ ببالغ لطفه المعهود ــ كتابة مقدمة لهذه القصص، قبل شهور عديدة من التفكير فى نشر الكتاب. أما عما كتب فى تلك المقدمة ــ والذى أخجل حتى من مجرد قراءته ــ فلا أستطيع إلا أن أترك التعليق عليه لمن يقرأ الحكايات.

* ماذا عن مشاريعك الإبداعية القادمة؟
ــ كنتُ قد توقفتُ تمامًا عن كتابة القصص منذ عام 2014، حين كتبتُ الأربع قصص الأخيرة التى أضفتُها إلى طبعة دار الشروق من «حكايات بعد النوم». واكتفيت بعد ذلك بكتابة مقالات فى السينما والعلوم (وبوجه خاص ما يتعلق بسلوك الحيوان) وترجمة تقارير عن إنجازات الأبحاث العلمية فى نفس المجال، بالإضافة إلى ترجمة بعض قصص الكاتب الأمريكى هوارد فيليبس لافكرافت.
غير أننى عدتُ دون سابق إنذار إلى كتابة القصص مرةً أخرى فى فبراير 2019، بسبب جملة عجيبة طافت بعقلى فى حلم، واستيقظتُ لأدونها كقصة قصيرة جدا ــ كما وردت فى المنام بالحرف الواحد ــ على ذاكرة الهاتف، قبل أن تقوم ذاكرتى أنا بواجبها الرائع وتمسحها تماما بحلول الصباح. القصة الثانية أيضا زارتنى فى النوم وكتبتها على الهاتف بنفس الطريقة. أما بقية القصص ــ التى بلغت حتى هذه اللحظة أكثر من أربعين قصة ــ فبدأت فى التسلل إلى عالم اليقظة بالتدريج، رغم أنها لم تفارق قط طبيعتها القادمة من خارج هذا العالم. وهكذا فقد بلغت قصصى الجديدة ــ من ناحية الكم على الأقل ــ ما قد يغرى بتجميعها فى كتاب قادم. لكن القصص ما زالت تأتينى فى اليقظة وفى المنام وفيما بينهما، وسأظل ــ على الأرجح ــ أمتثل لما تمليه عليَّ القصص، حتى تأتى واحدةٌ وتؤكد لى أنها جاءت لتكون القصة الأخيرة فى هذا الكتاب القادم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى