عقل العويط - تلمّظ

ماذا يكتب الكاتب؟ أكاد أجيب: تقريباً، لا شيء. ثم متداركاً أضيف: يكتب كل شيء. ثم مستجمعاً طيش الخلق ومهابته، بين المنزلتين، أقول بخفّة العقل وبالوطأة: يكتب لا شيء، كل شيء، معاً وفي آن واحد.
أتحدث بالطبع عن الكتابة الأدبية، عن الخلق الأدبي، لا عن الكتابات "الهادفة". هذه، ما أكثرها. وما أوضح مضمونها. فضلاً عن رقّة الحاشية في أسلوبها. والمغزى. والغاية.
لماذا يكتب الكاتب الأدبي؟
بقوة أجيب، وبدون تردّد: لأنه لا يستطيع إلاّ أن يكتب.
الى مَن يكتب الكاتب؟ أكاد أجيب: تقريباً، الى لا أحد.
لكني، للدقة أقول: يكتب الى يديه.
لماذا؟ لأن هاتين اليدين، يديه، ممتلئتان، ولا بدّ، بل مكبوتتان، وتنضحان. الأكيد، أنهما تكونان في حاجة ماسة الى التخلّص من أعباء الامتلاء والكتمان المكبوت والنضح. ذلك لا يكون إلاّ بالكتابة. بالكتابة الأدبية تحديداً. فضلاً عن أن اليدين تشتاقان الى أن تعودا يدين "طبيعيتَين"، حبيبتَين، وظيفيتَين، كسولتَين لامباليتَين نزقتَين حرّتَين طليقتَين منتظرتَين، لتعيشا فحسب. وأيضاً، ولِمَ لا، لتريا كيف تتبادل حواسهما ومراياهما الرؤيةَ الكتابية.
للدقة... وللرغبة أقول: قد يكون الكاتب يكتب الى "آخر"، الى يدين أخريين، مصدِّقاً أن ثمة "آخر" يريد (أو يرغب) أن يقرأه، فيمنِّن نفسه بأهمية هذا الفعل، أو يقنعها به، ثم يستدرجها الى الوقوع في "لذّة" الفعل الكتابي و"أحابيله".
هل من "لذّة" في الكتابة؟
أكيد، هناك "لذّة". مع أل التعريف. بل أجدني منجرفاً بكامل شهوات كياني وحياتي، وأيضاً بكامل شهواتي الكتابية، الى ضرورة حذف المزدوجين المرفقين، تأكيداً لطبيعة هذه اللذّة المجانية أولاً، ولتأويلاتها الحسيّة والمعنوية ثانياً وثالثاً وأخيراً.
بل تأكيداً لقصوويتها البلاحدود.
لذّة، هي لذّة الكتابة الأدبية مطلقاً، وقد لا يكون عند الكاتب لذّة توازيها أو تضاهيها، سوى لذّة العيش. وأعني لذّة الشغف، أو الوجد. وأسمّيه الحبّ، تسهيلاً للمعنى.
في مثل هذه الحال، لا مفرّ. وأيضاً لا تسويات، لا حسابات، ولا أنصاف لذّة.
هذا هو الدخول الى المنتهى. بالجسد كاملاً. وبالروح. حتى آخر رمق. وبالحواس، وبما يفيض منها. وبما يختلف عنها. وبما ينضاف إليها، وعليها.
هو دخولٌ، وإن يكن ثمة، ولا بدّ، خروجٌ من هذا المنتهى، بسبب تحقّق الغرض. أو بسبب استحالة البقاء. أو بسبب أفول أوان اللذة. أو بموتها.
ويكون ذلك الخروج بعد قليل أو بعد كثير.
إما بالغريزة الأدبية. وإما بالعقل. وإما بالعقل والقلب معاً. وإما بالحسنى والتراضي. وإما ضجراً. وإما طرداً. وإما فناءً.
كل بقاءٍ إضافيّ ممدَّد له، هناك، في الداخل، أي في هذا المنتهى المشار اليه، يشكل نقضاً للفعل الكتابي، وانتهاكاً لطبيعته، ولأسراره، ويمثّل تشويهاً، بل قتلاً أرعن للذّة، عن سابق تصوّر وتصميم.
كثرٌ أو قلائل، قد يفعلون ذلك، فيورّطون الفعل الكتابي، ولذّته، في ما لا تُحمَد عقباه كتابياً.
كثرٌ أو قلائل، يعرفون المغبّة، بالغريزة، أو بالحدس، أو بالمعرفة، أو بالاختبار المتمرس. وقد يعرفون الشروط، شروط العملية الكتابية، متسربلين بهذه "العلوم" كلّها (الغريزة والحدس والمعرفة والاختبار المتمرّس)، معاً وفي آن واحد، فيدخلون الى المنتهى، ويقيمون فيه، ثم يخرجون في اللحظة الحاسمة، تاركين الأيدي تتلمّظ بذواتها. وتتلمّظ بذات الحبر. وبالورق.
هي أيديهم، أيدي الكتّاب المتلمّظة بالطبع، فضلاً عن أيدي "الآخرين"، قرّاءً وكتّاباً.
هذا إذا كان ثمة "آخرون".
شخصياً، أعتقد، ولا بدّ، أن هناك "آخرين". وإذا لم يكونوا موجودين، فينبغي اختراعهم، بالقوة وبالفعل، الفلسفيين أولاً وبالطبع، ثم بالقوة والفعل التدريبيين.
هل يستدرج هذا الكلام قارئاً معلوماً أو مجهولاً؟
ليس عندي أيّ وهم متضخّم حيال هذه المسألة بالذات. لا على مستوى الكاتب والكتابة، ولا على مستوى المتلقّي. في كل حال، لستُ منهمّاً انهماماً مَرَضياً بالسؤال، وإن يكن الكاتب يشعر بلذّة حقيقية كاملة ومزدوجة: لذّته كاتباً كتابتَه وقارئَها، ولذّته لدى استشعاره وجود "آخر" يقرأ، أو لدى تعرّفه اليه.
ما من كتابة، إلاّ تشتهي حواسها وحواس لامسها، رائيها وقارئها و... مجهولها.
شهوة الكتابة هي لذّة، وأنا مشتهيها.
شهوة الحصول على قارئ هي أيضاً لذّة، وأنا مشتهيها.
شرط ذلك هو "الموت"، "موت" الكاتب. من أجل أن لا يضايق مسيرة العمل المكتوب.
يسمّي البعضُ الكتابةَ نصاً. أو قصيدة. أو... الخ.
أسمّيها لذّة. لذّة التلمّظ بالكتابة.

عقل العويط
  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى