د. جورج سلوم - تباعد اجتماعي

لستُ من معالجي مرضى الكورونا ، ولست مخوّلاً باختصاصي إلا للاشتباه بالمرض وإحالة المريض لمركزٍ مختصٍّ بذلك .

ومجموعة الأعراض والعلامات التي جاءني بها ذاك المريض جعلتني أشتبه بالمرض فقط وألمّح له تلميحاً ، لكنّه فهم الأمر على أنه تشخيصٌ مؤكّد ، لأنّ الحملات التثقيفية جعلت كلّ المواطنين مستعدّين لخبرٍ مؤلم كهذا .

كان أمامي كالمتّهم بجريمة العصر، وكان تلميحي كالقضاء والقدر بالرغم من نبرتي الخافتة وكلماتي المتردّدة وغير الواثقة .

وسرعان ما نفرت من عينيه الدموع ، وسرعان ما ابتعدَتْ وتباعدَت عنه زوجته ، ولولا العيب لفرّت منه مذعورةً ، وكأنه كلبٌ مصاب بالسُّعار، والابتعاد عنه سيقيك عضّاته المعدية .

أعطيته رقماً هاتفياً خاصاً ليتّصل به ويتلقّى التعليمات المناسبة ، وخرجا من عندي يتسابقان في التباعد الاجتماعي عن بعضهما .

وبعد أيامٍ ثلاثة ، دفعني الفضول لأتّصل به مستفسراً عن نتائج التحاليل المخبرية ، لكنّ زوجته أجابت بأنه سافر فوراً إلى أهله في القرية ليمارس الحجر والانعزال الطوعيّ ، حيث ـ كما قالت ـ أنّ بيوت القرية كبيرة وتحيط بها البساتين التي تداعبها الريح صيفاً وتلاعبها شتاءً ، وهكذا سيكون بعيداً عن أطفاله ، وبيت القرية ما فيه إلا أمّه العجوز ، وكما تعرف فالعجوز أكلت عمرها !

قلت :

-ونتيجة التحليل إيجابية ؟

قالت :

-لم يشأ أن يُجري مسحةً من أنفه ولا تحليلاً ..بل انطلق من باب عيادتك إلى قريته مباشرة !

قلت :

-هذا لا يجوز يا سيدتي ..فالأمر كان اشتباهاً فقط .

لم يعنيني الأمر ، ولم أشعرْ بأني اقترفت جرماً بتوجيه إصبع اتهامي لهذا وذاك جزافاً وبلا يقين ، ورأيت مواطننا مستعدّاً لتهمةٍ كهذه ومعبّأ لها وجاهزاً للعزل والحجر بما يشبه الهروب الطوعيّ من محيطِه الموبوء .

محيطُه القريب الموبوء والمشحون ليس بالكورونا ، وإنما بالكثير الكثير من الأمراض الاجتماعية المستوطنة والتي يكون علاجها بالتباعد الاجتماعي فقط ، لكنّهم كانوا بحاجة إلى العذر المقبول والشرعيّ والمحبّذ للإفلات من المحيط ، لا بل وتغييره ولو مؤقتاً .

ما كانت حزينة لابتعاده ، وما شعر صاحبنا بنقصٍ افتقده ، وغيره وغيرها ومثله ومثلها ، كان الأمر بالتباعد نعمة ، وكأنهم كانوا ينتظرونها ويحنّون إليها ، وخاصة بعد فترة حظر التجوّل السابقة والتزام البيوت والتلاصق الاجتماعي التي زاد أمراض العائلات الموصدة على جراثيمها والمنغلقة على فيروساتها والهاجعة على أورامها والكامنة فوق خباثاتها ، فتكاثرت حتى سبّبت الاختناق العاطفي والاحتقان الرّوحيّ..ولذا كان التباعد الاجتماعي كمن يتنفّس الصعداء .

كانوا ـ بمعظمهم ـ سعداء بإضافة اسمهم إلى قوائم المصابين ، وكانوا مستعدّين لتقبّل فكرة أنني سأموت بعد أسبوعين ،لا بل وإعلان ذلك على الملأ ، فدعوني أودّع الدنيا بطريقتي !

أما في قرارة أنفسهم فهم يثقون بأنهم ليسوا مرضى بذاك المرض ، ولذلك ظلّوا بلا تحاليل ولا علاج ، وفكرة الانعزال الطوعي والتباعد الاجتماعي راقت لهم فهجعوا إليها ، وركنوا أجسادهم في مرآب الراحة التي لابدّ منها .

ومشافينا غير كافية لاستيعابهم ، وإمكاناتها محدودة ، وظروف العزل في المشافي غير لائقة ، إذن دعوني يا قوم أغيب عن عملي غياباً مبرّراً ، ودعوني أعتزل الخلق المخالطين لي لأنّ المرَض الحقيقيّ فيهم ومنهم وبهم أيضاً ، بعيونهم وألستنهم وسوء عشرتهم وحقدهم ونميمتهم واغتيابهم وحسدهم وجشعهم ، دعوني أرتاح في فترة حضانة الفيروس لأسبوعين ، وأنام كالدجاجة الحاضنة على بيوضي في عشّي أو أي عشٍّ يحتويني .

طبعاً ..ولا يُعمّم كلامي على الجميع ، لأنّ المريض الحقيقي تراه غريقاً ملتمساً قشّة طافية وسط الموج العاتي ليتعلّق بها ، لا بل ترى المريض الحقيقي أشدّ التزاماً بعائلته ، إذ يطلب منهم العون والإسناد والإمداد لأنّ شدة الأعراض تستضعفه حقيقةً فيذوي ولا ينزوي .

-لا تقترب منّي فقد أكون مصابة بالوباء فأنقله إليك ، نَمْ أنتَ اليوم خارجاً وابتعد عني مترين على الأقل ، لا تجعلني أرى وجهك وشاربك المتهدّل ، ابقهما خلف قناعك الواقي ، ودعنا لا نجتمع ولا نلتقي على مائدة الطعام ، أصلاً أنا لن أستطيع تحضير وجباتك حرصاً عليك ..وا زوجي الحبيب !

وقال في نفسه ، بعد أن أومأ برأسه وأسدل جفنيه موافقاً :

-نعم ..نعم ..وذلك ضروريٌ لنا نحن الاثنين ، أصلاً كنا نمارس حياتنا الزوجية من واديين يفصلهما جبل من جليد ، حاولنا تذويبه ولكنّ البرودة قسّته وفاقمته ..كنا متباعدين سرّاً والآن سنتباعد جهراً لأنّ الفيروس غدا ثالثنا .

وفعلاً تابعا حياتهما ضمن المنزل الواحد ولا يربطهما إلا الهاتف الجوال ، الذي لم يثبت حتى الآن أنه قد ينقل الفيروس الخانق .

وفي العمل ، ما أحلى التباعد الاجتماعي عن زميل أمقته ، ووجوده وثرثرته في مكتبي يرفعان حرارتي ، وما أحلى الدوائر الحكومية التي خفّ زحامها ، وكم كنت أكره تلاصق الأجساد عديدة الروائح ومتعدّدة السموم .

لكنّ صديقاً لي قال وهو يعبث بكمامته :

-وما زال بي حنين إلى صويحبتي ، وما زلت أستلذّ ارتشاف القهوة من فنجانها حيث انطبعت شفتاها ، وأندفع مقترباً منها لأسترق قبلة من تحت كمامتها ، فما أطيب فيروساتها التي ترفع حرارتي ولا تقتلني !



وحتى ساعة إعداد هاتيك السطور ، كان الأمر بالتباعد بالمعروف كالنهي عن التقارب الذي صار منكراً .

لكنْ بالله عليك قل لي ..تباعدٌ عن مَن ؟ ..وتقاربٌ مِن مَن ؟

لست أدري !

هنيئاً لكم يا قوم فقد فزتم بالتباعد الاجتماعي الذي كنتم تنشدونه ، وصبراً على الفيروس ريثما تهجع فوعته ، وعندها ستعودون للتقارب إن كنتم تحنّون إليه .



**********************
  • Like
التفاعلات: نقوس المهدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى