علي زيعور - الميتافيزيقا او الماورائيات في المدرسة العربية الراهنة في الفلسفة والفكر

جاءت هذه العبارة “ميتافيزيقا” من العنوان الذي أُعطي لكتابات أرسطو التي أعقبت كتاباته في الفيزياء ، والتي كانت تعالج مواضيع تتجاوز العالم الفيزيائي او هي من ميدان ما وراء الفيزياء . أندرونيكوس دي رودس (القرن الاول قبل الميلاد) هو أول من استعمل هذه العبارة أثناء جمعه لكتابات أرسطو.
هذه العبارة عنت إذَنْ علماً لا يختلط مع أيًّ من العلوم الأخرى الخاصة التي تتناول مسائل الطبيعة . أرسطو أراد إيجاد علمٍ يدرس الموجود بصفته وجوداً لان العلوم الاخرى، علوم الطبيعة ، تجزّئ الموجود لتأخذ أجزاءه جزءاً جزءاً وتدرسها . والدراسة التي تعطيها هي دراسة نعتية. الاشياء كلها عند أرسطو متشاركة فيما بينها بشيء واحد هي أنها “موجودة” أي أنّ الوجود هو الصفة التي تجمع بينها . ومن هنا كانت – برأيه – ضرورة دراسة هذه الصفة : “الوجود بصفته وجودا” . وهذه هي – بدايةً – مهمة الفلسفة الاولى أو ما سماه أرسطو “الميتافيزيقا”.

غير أنّ هذه العبارة لم تكن لتظهر وتفرض وجودها بمعناها الأرسطي إلا مع القرون الأوروبية الوسطى ، وبالاخصّ قبل ذلك مع ابن رشد . فهذا الاخير الذي هو الشارح الاكبرـ بل القارئ الأدقّ ـ لارسطو في العصور الوسطى جمع المذهب الأرسطي وكوّن ما عُرف “بالرشدية” لتنتقل الى أوروبا اللاتينية ولتندمج ” الميتافيزيقا الارسطية الرشدية” باللاهوت المسيحي وبالاخص عند توما الاكويني “بحيث صارت الميتافيزيقا تعني معرفة الاشياء الإلهية كما تعني معرفة مبادئ العلم . القديس توما الاكويني ما كان على هذا الصعيد سوى موفِّقٍ بين الارسطية بالرشديةمع العقيدة المسيحية مشدّداً على الصفة العقلية في العقيدة وواضعاً هذه الصفة في المرتبة الاولى ( را: الفلسفة اليونانية ـ العربية ـ اللاتينية ).

ولكنّ الميتافيزيقا إنْ كانت قد اانقادت في القرون الوسطى لتتّحد باللاهوت أو لتصبح لاهوتا ، فإنّ الامر ستيغير تغييراً هاماً وأساسياً مع ديكارت . فهذا الاخير ذهب إلى أنّ الميتافيزيقا تختص “باللامادية”. وهذه الميتافيزيقا هي القسم الاول من الفلسفة . هو يقول بأنّ القسم الاول من الفلسفة الحقيقية إنما هي الميتافيزيقا التي تحتوي على مبادئ المعرفة التي من بينها تفسير الصفات الأولى لله ، وشرحُ لا مادية الروح وكلِّ ما يوجد فينا من أفكارٍ واضحةٍ وبسيطة . ديكارت ذهب إلى أنّ الفلسفة هي شجرة جذورها الميتافيزيقا وجذعها الفيزياء واغصانها بقية العلوم من طب وهندسة ميكانيكية واخلاق…

مع ديكارت انتقلت الميتافيزيقا من علمٍ لاهوتيّ إلى ميدانٍ تقوم به كلُّ فروع العلم ، بمعنى أنّها صارت أصل العلم بل صارت نظريةً للمعرفة .

هذا الموقف من الميتافيزيقا تغير تغييراً جذرياً مع كانط. فهذا الاخير جاء بنقدانية تجاوزت الكوجيتو الديكارتي او اليقين القائم على البداهة المطلقة المبنية بدورها على الحقيقة الالهية،وذلك ليس أبداً من أجل هدم الميتافيزيقا وجعل العلم يحل محلها. بل من أجل أنْ يتساءل عن إمكانية العقل . الميتافيزيقا بنظر كانط هي معرفة نظرية تولّدت بالتأمل العقلي الذي لا يقود بالضرورة إلى معرفةٍ حقيقية . العقل لا يستطيع أنْ يدرك من الاشياء سوى ظواهرها . هو يدرك ظاهرةَ الشيء ، وليس الشيء في ذاته الذي هو غاية الميتافيزيقا . ومن هنا كان تساؤل كانط عن جدوى تأمّلٍ لا يُدرِك الحقائق في ذاتها.

فكرة كانط هذه نجدها تقريبا عند هيجل . فهذا الاخير ذهب بدوره إلى أنّ العقل هو الاساس الرئيسي للمعرفة ليعتبر بأنّ الميتافيزيقا هي الفلسفة التي كانت تسود قبل الثورة الكانطية . وهذه الفلسفة هي في ذاتها ليست سوى مجرد مفاهيم عقلية لمواضع العقل . هيجل أراد تجاوز هذه المفاهيم كمفاهيم أساسيةٍ تحدّد حقيقة الاشياء وذلك من أجل الدخول في الحركة الاساسية للتوسط الجدلي ؛ وهنا نجد الميتافيزيقا تُستبدل بالمنطق التأملي .
غير أنّ الميتافيزيقا إنْ كانتْ هي أصل العلم عند ديكارت ، وإنْ كانت تبدو متأرجحةً عند كلٍّ من كانط وهيجل ، بل عاجزةً عن إدراك الحقائق ، فإنّها تظهر بكليتها مجرد ترهات وتخيّلات عند اوغست كونت . هي تختص بالمرحلة اللاهوتية التي هي مرحلة بدائية وهي مجرّد أفكارٍ تتردّد منذ أقدم العصور دون أنْ تُحرز أيّ تقدّمٍ في توضيح مفاهيمها. ولكنّ أوغست كونْتْ الذي يرفض الميتافيزيقا من أجل العلم الوضعي الذي يبني حقائقه على التجربة والملاحظة والمقارنة ، فإنّه لا يلبث في البناء الوضعاني الذي يشيده ان يُدخِل عليه “ميتافيزيقا سلبية” أو لنقُلْ “ميتافيزيقا علمية” حين يذهب الى بناء “دينٍ للإنسانية” إلهه الإنسانية ذاتها وقد تزودت بكل معايير العلم . بعبارةٍ أخرى،أوغست كونْتْ أحلَّ محل الميتافيزيقا القديمة “ميتافيزيقا علمية”.
الميتافيزيقا التي هي مرفوضة عند كونْتْ ليست بأقلّ رفضاً في الفلسفة الماركسية . فهذه الاخيرة لم تنظر الى الميتافيزيقا الابوصفها كايديولوجيا ، كقناع لإخفاء الانانيات الطبقية . هي مفهوم للوجود يتعارض مع المفهوم الجدلي كونه مفهوماً جامداً بكل ظواهره وأحداثه . أنْجْلس يقول بهذا الصدد ” الفكر الميتافيزيقي يَعتبر الاشياء وانعكاساتها في الفكر والمفاهيم كأشياء وكمفاهيم كل منها منفرد عن الآخر، متباعد عنه ، وكلٌّ منها ثابت وجامد لا يتحول ولا يتغير”.

هذه الحملة على الميتافيزيقا تكمل طريقها عبر مارتن هَيْدغر. فهذا الفيلسوف المهتم بفهم الوجود يرى بأنّ فهم الوجود يقضي بالضرورة بتفكيك الميتافيزيقا وتاريخها . الميتافيزيقا التقليدية لم تعطِ جديداً ، لذلك يتبنّي هيدغِر ميتافيزيقا جديدة تلتقي مع الميتافيزيقا الوجودية التي نجدها عند كلٍّ من ميرلوبونتي وجان بول سارتر حيث التساؤل عن الوجود يتمحور حول المعاش ، حول اموجودة هنا او هناك . لم يعد من مجالٍ للبحث في الشيئية أو الماهية الماورائية ، فالذي يُدرس ويُبحث هو هذا الهنا ، هذا المُعاش . ونجد سارتر يقول : ” الميتافيزيقا ليست نقاشاً عقيماً حول أفكارٍ مجرّدةٍ لا تدرِكها التجربة، إنّها جهدٌ حي من أجل أنْ تُدرِك من الداخل الشرطَ الإنسانيَّ في كلّيته”.

وهكذا فنحن امام مفهوم جديد للميتافيزيقا . ولكنْ هل هذا المفهوم الجديدُ يَحقّ له أنْ يَثْبُت كذلك دون انْ يكون قد قوضّ كلَّ مفاهيم الميتافيزيقا كما يعطيها التاريخ ؟ إنْ الواقع هو أنّ الميتافيزيقا صارت مع فلسفة الوجود او الوجودانية انطولوجيا ؛ او علما للموجود بما هو ظاهرة وجود.



علي زيعور

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى