عبد العزيز بركة ساكن - ضلالات.. قصة قصيرة

1/ فراش
تَقلبتْ قليلاً في فراشها الرطب، قبل أن تنهض و تضع ثوبها علي أطفالها الثلاثة، فالبطانية العسكرية القديمة المزيقة فقدت دفئِها علي مر الأعوام، بطانية الصوف الخضراء الخشنة ذات الثقوب الكثيرة، ابنتها الوحيدة آمنة ستبلغ السابعة عشرة بعد شهور قليلة، ما زالت تعاني من التبول الليلي علي الفراش، علي الأقل مرة في الأسبوع، أُصيبتْ به منذ اليوم الذى تلقتْ فيه خبر مَقتل والدها في كبويتا الصيف الماضي علي يد الثُوار.
2/ مشهد
آمنة : ترقد علي عنقريب مفروش ببرش أحمر، تحت العنقريب توجد جوالات خيش فارغة مُفترشة علي الأرض لتمتص ما قد يتساقط من بول عبر البرش.
زهرة: تربت علي قدم ابنتها المتغطية بملاءة. تصيح البنت في غضب مفتعل "مالك يا أمي ؟! "" ترفع الغطاء يظهر و جهها المحكوك بكيمياء الكريمات الرخيصة شاحباً".
زهرة: يا بت ما ماشة المدرسة و لا شنو؟!
تنهض آمنة في تثاقل ترمي بالملاءة بعيداً عن جسدها تشمم المكان علها بالت عليه أم لا، عندما لا تجد أثراً للتبول تنهض واقفة، تستعدل قميص نومها، ترتدى شبشبها، تجمع جوالاتها و تخرج بها من القطية، تذهب نحو الحمام تجرجر جسدها الثقيل و أردافها الكبيرة.
أبو ذر و معاوية: " يصطفون خلف القطية يتبولون في نعاس و لذّة"
3/ مشهد
" خارج القطية يجلس الأطفال الثلاثة علي عنقريب قديم يحتسون الشاى، آمنة تسرح شعرها و هي تترنم بأغنية غير واضحة الكلمات و اللحن و في وجهها طلاء أبيض، زهرة تأتي من راكوبة المطبخ، تقف أمام أطفالها، تصرخ "
زهرة: من بكرة الفطور في البيت.
آمنة: " تلوى شفتيها في إمتعاض "... كل يوم فلم جديد.
أبو ذر: أنا ما عايز فطور في البيت... عايز افطر في المدرسة.
معاوية: نجي من المدرسة لحدى البيت في الحي الجنوبي و تاني نرجع المدرسة حنلقي الجرس دقا و الأستاذ حيدقنا...و لكن مافي في مشكلة...انا حاجي افطر في البيت.....يا أمي...بأى شىء....
زهرة: إخوانك ديل ما عارفين حاجة.... ببكوا و ما عارفين الميت منو..." بصوتٍ عال" القروش كملت... آخر ألفين حأعمل ليكم بيهم الغداء الليلة...بكرة و بعد بكرة و بعده حتاكلوا لقمة بزيت ، و بعد داك حتموتوا من الجوع أو تاكلوني أنا ذاتي..." تأخذ وعاء قربها و ترميه علي الأرض بشدة " في حركة جنونية غير متوقعة.
آمنة: "متجاهلة انفعال أمها" أنا ذاتي المدرسة ما نافعة معاى " تنتهي من تمشيط ضفيرة بحركة قلقة سريعة"... أنا عايزة أبيع الشاى في السوق الكبير أو الموقف أو كبرى ستة أو حتي في سوق النوبة... زى البنات...آها...كلمتك يا أمي، علي الأقل أساعدك في رسوم المدرسة و اشترى ريحة كويسة و كريمات و أشوف الدُنيا دى فيها شُنو... أنا كرهت الفقُر و الجُوع.
معاوية: أنا عايز اشتغل في كارو...الم قروش الفطور و الرسوم بعد داك ارجع المدرسة أجمد سنة و اقرأ سنة لحد ما أكمل المدرسة و اتخرج.
أبو ذر: أنا عايز اشتغل عسكرى في الجيش بس...
زهرة: " مغتاظة " عشان تموت زى أبوك و تريحنا.
ابو ذر: عشان اجيب قرنيت و أقتل بيهو آمنة (ال...) دى " يأخذ من وراء ظهره قرنيت يفك التيلة و يقذفه بإتجاه آمنة بحركة عسكرية رشيقة".
آمنة: " تنهض و تهرب بعيدا، يسقط القرانيت قرب رجلها و ينفجر مبعثراً قطع الطين و الزبالة و الحصي التي يتكون منها في ساحات شاسعة " يا وسخ...دا شنو؟
أبو ذر: عشان تاني ما تبارى الرجال...حأكتلك.
آمنة: أنا...
أبو ذر: ايوا..إنتي.. الأولاد كلهم قاعدين يقولوا كدا....
آمنة: أنا... يا وسخ... انا قاعدة ابارى الرجال ؟!
" يصمت الجميع، يرتدون ملابسهم، يخرجون الي المدرسة تبقي الأم وحدها".
4/ ضلالات مشهد
تعرف الأم كل شىء عن البنت، ضلالاتها الصغيرة و الكبيرة، مراقدها و مقاماتها كل عشاقها الكثيرين، و يعرف الأطفال، و تعرف هي أنهم يعرفون و الأم تعزى إنحراف ابنتها الي سببن: غياب سُماعين و الفقر. كان سيكمل عامه السادس بالجنوب و بذلك تتاح له العودة الى خشم القربة، في الحقيقة لم تكن علاقتها بزوجها بتلك القوة التي دائماً ما يقتضيها الزواج، و لكن كانت ظروف معايشة و تربية أطفال لا أكثر، و لو ان سُماعين ما كان عنفياً غليظ القلب فظا مثل كثيرٍ من ازواج صديقاتها، و لكن كان الشهيد كسولاً غير مبالِ و بخيلا، لا يخرج الجنيه من كفه إلا بعد لأى و مجاهدة، و لكنه فوق ذلك كان يحب أطفاله و يشترى لهم رؤوس النيفة في كل نهاية و منتصف الشهر طوال فترة تواجده بخشم القربة.
نعم، انه يشرب البغو و العرقي، مثله مثل أزواج صديقاتها ليبدو رجلا فحلا و متكاملا، لكنه لا يضربها مثلهم و لسانه عفيف. لكن أكثر ما تعيبه في الشهيد رحمة الله عليه مغامراته النسائية و ما تزال أصداء فضيحته مع ابنة مبشر كاجيلا جمعة تملأ الحلة طنينا، رغم ذلك حزنت لموته حزناً حقيقيا، و ربما كان باطنه الخوف علي مستقبل الأطفال. زهرة لا تفهم كثيرا في الدين ، هي مسلمة حقيقية، تصلي و تصوم رمضان ولو أنها لا تحفظ من القرآن سوى سورة " الحمدلله رب العالمين " و سورة " قل هو الله احد، الله صمد " و دعاء " الزاكيات لله" حفظتهم من أطفالها عندما كانوا يستذكرون دروسهم بصوتٍ عال. ظاهرها الديني هذا يضعها في الحى الذى تسكن فيه ضمن النساء المتدينات، إلا أنها ترفض فكرة ان يُزف سُماعين كوكو مرفعين إلى حورية في الجنة تاركاً لها أولاده و بنته الملعونة لتربيهم وحدها و هو لم يترك لها قرشاً. تَخّيلتْ الجنةَ، بل رأتها رؤية العين، كانت عبارة عن كَنبُو كبير، أكبر من كَنبُو كديس بعشرات المرات، به الحور العين رشيقات جميلات لهن بَشَرةٌ شديدة السواد ناعمة تلمع مع أشعة الشمس، يمشطن شعرهن في ضفائر مُسدلة على جاني رؤوسهن، تماماً كما يحب كوكو سُماعين مرفعين أن يرى شعرها عندما كانا مخطوبين، يَسقينه المريسة من أنهر تجري في هدوء عبر أشجار المسكيت، النبق و اللالوب الخضراء، يرقصن معه الكرنق والكمبلا، يدفعن في فمه بغنج قِطع النِيفَة الطَرية مُتبلة بالشطة و أبُنْغَازي، من وقت لآخر يخلو باحداهن في قُطية جميلة. هُنا،جذبت زهرة نفساً طويلاً، ثم لعنته في سرها، لعنت اليومَ الذي عرفته فيه.
ها هو الإحتفال يجرى الآن أمامها، في حوش البيت، تحجب سحابات غباره الرؤية و يكح لها الصغار، الحملان و الكتاكيت، ينطط فيه العسكريون، كبار الضباط، بعض اللحى المدنية و غيرهم من الغرباء يعرضون و يبشرون لها، مشهد لن تنساه، يتكرر يوميا في صحوها و منامها. عندما ذهبوا، ذهبوا. إجمالي ما تركوه كان كما يلى:
50 كيلو دقيق استرالى، جوال بلح باعته في حينه للنساء اللائي يصنعن العرقي في الجوار.
1 جركانة زيت سمسم، سعة خمسين رطلا.
10 رطلا من البن الحبشي، و كرتونة لبن بدرة ماركة الكفين المتصافحين، و كثير من الأغبرة و أثر العربات و بعض أطفال الحي بملابسهم الممزقة و سراويلهم المتسخة المقدودة من دبر، يفتشون في الأرض العملات المعدنية التي قد تسقط من جيوب جلابيب الراقصين الكبيرة، تركوا صدى أيقاعٍ ممتزجٍ بفحيح فنانٍ خليعٍ يتلاشي تدريجياً في أزقة و قطاطي و رواكيب كمبو كديس ثم يموت للأبد بين أشواك المسكيت، لكن يظل الأطفال يرددون أغنياته لأعوام طويلة.
لما تأكد سُكان كمبو كديس من ذهاب الغرباء و تلاشى أغبرة عرباتهم الكثيرة، صمتْ مكروفوناتهم و خرس مغنيهم، جاءوا فرادا و جماعات يعزون في وفاة صديقهم الوفي ابن كمبو كديس البار سُماعين كوكو مرفعين، و في ذهن كل واحدة وواحد منهم آخر ذكريات تخصه مع سُماعين كوكو مرفعين و كل واحدة وواحد منهم كان يتحدث لمن يصادفه عن آخر مرة شاف فيها المرحوم.... آخر ونسة... آخر كأس، آخر سوق، آخر حفلة و آخر كرنق، حليمة بنت الكرنقو سوف لا تغفر لنفسها أن خذلته مرتين، لكن مبشر جمعة وحده الذى يعرف أن سُماعين كوكو مرفعين لم يُقتل عرضاً، و لكنه قُتل عمداً، و هو الذى قتله، لقد ربطه بحبل بندا عند مُعْرَاقي من الامبرورو يوم الجمعة الماضية و ها هي جمعته الثانية التي ما كان عليه أن يحيا بعدها بأية حال من الأحوال"... سُماعين خاين... كسر بتي كاجيلا و نكر و ابا يدفع كسر الباب... و حَزْرَّتُو.....حَزْرَّتُو.....حَزْرَّتُو...... وجبت ليهو الجودية فوق الجودية... وهو عارف انا ما حأخليهو ساكت... حأكتلو".
كان مبشر جمعة أكثر الناس بكاءاً و أسفاً علي وفاة سُماعين. كاجيلا تُحمَّل سُماعين الخطأ في كل شىء "هو كسرنى مرتين... أنا سامحته في المرة الأولي ودانى الداية عدلتنى... و قلت ليهو سُماعين اختانى عليك الله ... و لكنو تانى كسرنى قمت كلمت أبوى."
سَمِع كل سكان الأحياء المجاورة لكمبو كديس صراخ النساء صديقات أسرة سُماعين كوكو، بل سُمِع الصراخ بوضوح تام في قشلاق الحجر و كمبو كريجة و الإدارة المركزية و المستشفي.
زهرة كانت صامتة تعقد يديها خلف ظهرها و تمشي بين المعزين، تنظر إليهم في إستغراب.. الحاصل شنو ؟ قبل شوية مش كنتو بترقصوا و تعرضوا و تغنوا هنا... ليه هسع بتبكوا و تصرخوا!.. الحاصل شنو ؟! و فاقت زهرة عندما صفعها أبكر جنى الملايكة البلالاوى علي خدها الأيمن ثم بكفه ا|لأُخرى علي خدها الأيسر و عندها فقط فهمت مَنْ رَقَصَ ومَنْ مَاتَ.
5/ مشهد
أبو ذر: " يرمي شنطة المدرسة المصنوعة من كاكى الجيش علي بنبر خارج القطية في طريقه الى داخل القطية يرفس القطة التي تتسول بقايا طعام علي الأرض، يدخل القطية، ينظر الى امه الراقدة علي العنقريب يسأل " الغداء الليلة شنو... أنا جعان....
"بينما لا أحد يجيبه يسمع صوت معاوية يدندن بأغنية، يقترب من القطية، يرمي شنطته علي البنبر يدخل القطية، يسمع صوت آمنة من بعيد تغني أغنية هابطة، تقترب من البنبر، ترقص في إنتشاء، تهز كتفيها طربا، تلقي بشنطتها علي البنبر، تدخل القطية، ترمي بجسدها الثقيل علي العنقريب."
آمنة: هييه ازيكم....
زهرة: "ممتعضة وهي تنظر اليها من ركن قصي من عينها " اهلاً...
آمنة: " ترمي بطرحتها علي العنقريب الذى يخصها، تخلع قميص المدرسة دفعة واحدة و ترمي به هو ايضا علي العنقريب، ترفع ذراعها اليسار الى أعلي تتشمم رائحة إبطها " هه هه...
زهرة: " تلوى شفتيها، و تعرف أن رائحة جسد بنتها أصبح و منذ فترة رائحة امرأة ناضجة، و تعرف أنّ رائحة المرأة ربنا خلقها لكي تجذب الرجال و رائحة بنتها غير عادية، أنها أكثر كثافة و قوة من رائحة كل النساء اللائي عرفتهن.... و تعرف أنّ آمنة تعرف. وتريد أن تبقي رائحة جسدها كما هي لذا رفضت العطر الرخيص الذى اشترته لها أمها من السُوق بما اقطتعته من خبز البيت" مش أحسن تستعملي الريحة بدل من ريحة أباطك العفنة دى... الريحة ليها شهر قاعدة في الدولاب.
آمنة: " ترقد علي العنقريب بقميص النوم محاولة وضع رأسها ما بين البرش و المخدة " دى ريحة ميتين يا أمي... أنا ما بستعملها.
أبو ذر: مش أحسن من ريحة البول والصُناح!
آمنة: "تنهض من رقدتها و تجلس علي العنقريب فجأة في وضع هجومي مخاطبة أمها التي يبدو عليها القلق وعدم التركيز " لِمي ولدك الوسخ ده... أنا حأكتلو ليكي... أخير يختانى.... انتَ عايز مني شنو ؟ عامل قدومك الطويل ده.
أبوذر: " يضحك، يخرج من القُطية يمشي نحو المطبخ ، يعبث بالأواني و طبق الكسرة، فجأة ينادى بأعلى صوته " تعالوا شوفوا في شنو في المطبخ... اجروا تعالوا شوفوا البرميل في النار.
معاوية: " معاوية و آمنة يجريان نحو المطبخ، يعود معاوية بسرعة الى أمه يسألها في حزن " ده شنو يا أمي ؟
زهرة: "تبقي في مكانها تحملق نحو باب القطية"... كعكة... كعكة كبيرة سويتها للملايكة.
آمنة: سجمي... أمي جنت.... " تجرى نحو أمها و التي لا تبرح مكانها مبتسمة في بلاهة، تحتضنها و تبكي بحرقة.
أبو ذر: " يجرى خارج المنزل و هو يصرخ في هستيريا " أمي... أمي.. أمي..
6/ الملائكة
الجيران والباعة بسوق النوبة، و زبائنهم الكثيرون، الأطفال العائدون من المدارس، المتسكعون بالشوارع، جزارو سوق النوبة، أصحاب الكوارى، كمال زكريا، السكارى الذين كانوا بالكنابي المجاورة، و كمبو كديس، الصادق حسين باباكر في صحبته عشرين من عمال الكمائن، علي رمرم، غادة الجميلة، كلبان، الأطفال و الشباب الذين يلعبون الكُرة في الخور الكبير، نجلاء عثمان صديقة آمنة الوحيدة و رفيقة ضلالاتها. امتلأ الحُوش الصغير بهم، أولاً أطفأوا النار من تحت البرميل الكبير، تولى جبرين الجزار، حمدو العسكرى، زكريا و حاج عثمان إلقاء البرميل علي الأرض و دفق محتوياته، ثُم هَمْ المحسنون بتحرير الأشياء من العجينة الضخمة: أحذية الأطفال، البطانية القديمة العجوز، الملاءات، آنية الصيني التي اشترتها بعرق دمها من سنوات مضت، حِبال جوال السكر البلاستيكية، الملابس الداخلية، الكبابي، شظايا زجاج دولاب العفش القديم الذى كانت دائما ما تفتخر به، كراسات المدارس القديمة، ما تبقي من معاش سُماعين، ألفان من الجنيهات وُجِدَا معاً وسط الكعكة العظيمة، جرادل المياه، آنية رمضان و مسبحتها، صابون الغسيل، عطر آمنة الذى رفضته، توب الجيران، قُفْة الكُجُور، و طواطم الأسبار.
كانت كعكة، لم يرِ أحد أكبر منها في حياته، تعوم في الزيت السمسم و يفوح منها عطر السيد علي الميرغني، بطعم السُكر و ما تبقي من ملح و كَوَلْ و لبن بدرة ماركة الكفين المتصافحين.
بينما كان الناس مشغولون بتفكيك الكعكة... طفلاها و ابنتها يصرخون، كانت هي ساكنة ، علي شفتيها ابتسامة رضاء عظيمة بلهاء وهي ترقب الملائكة يلتهمون كعكتها الطازجة، أحتفاءاً بِعُرسْ الشهيدة: التي كانت هي نفسها.

عبدالعزيز بركة ساكن
الخرطوم
أعلى