ثروت عبدالهادي علي - بلاد الغرباء!.. قصة قصيرة

حدث في أواخر الثالث والعشرين من مايو، بدء ليلة إحتفالات التحرير.
سوف ترن أجراس الكاتدرائية العتيقة الضخمة بعد ثلاث دقائق من الان معلنة عن بداية فجر الرابع والعشرين، تُسمع أصوات حركة عقاربها قرب بار “كيت كات“أ، صوت يهمس داخلي:
- كم أتوق إلى الألعاب النارية التي ستنطلق بعد ثلاث دقائق، تتقاطر الجموع من كل حدبٍ، فلا محال أنه عرس الإستقلال، تتزين الشوارع بالأضواءِ ويجوب الأطفال في أزياءِ عسكرية ، يعم الصخب المدينة كلها لاسيما شارع (الحرية).
لطالما ألفتُ هذه الأجواء وعشقتها، يساورني شعور دائم بالفخر، رغم أنني مجرد مشاهد تتملكه رغبة المعرفة وتجربة الشعور الجمعي الذي يعيشه كل من هم حوله.
يساورني الخوف كما افعل دائماً على بعض الأشباح ذات الأجساد الذابلة، تلك الأجراس تمثل لهم أفراح حزن على ما مضى، تضيء وجوههم لبرهة وتذبل مع الذكريات القاسية.
لا يغيب عن ناظري أبداً ذلك الشيخ الهرم الذي تترقرق عيناه بالدموع كل عامٍ، ما يحيرني فعلاً أنها تبرق بالدموع دون أن تنزل، و أرى ذلك المعاق الذي يكاد عظم صدغه يقطع جلده، تتكرر المشاهد مع إختلاف الأزمان، وترن الآن الأجراس وتبدأ أفراح الإستقلال. ثملتُ دون أن أدنو إلى كأس يفرح من به مرض، ولا يزيد عليه سوى السقم، ورعشة عارمة تتحول إلى قشعريرة بفعل البرد القارص.
ذلك الوجه الصارم الذي يختفي وراء ملامح معصورة بالألم لا يكاد يغيب عن ناظري في مثل هذه المناسبات، أبدو وكأنني منهم دون أن أتعرّف على ملامحهم أتفحصهم برويّة، أرى تلك الأنوف الحادة كحد السيف ، وتلك العظام البارزة كأنما ألمت بهم مجاعة أودت بكامل أجسادهم التي لم يتبق منها سوى العظام وبعض من الجلود، بعد أن قسى عليها البرد فجعلها كجبلٍ ضربه البرق فاشدقه من كل جانب مشقوقا وباردا.
تلك الفتيات الصغيرات اللاتي يتبادلن الإبتسامات مع الصبية في خلسةٍ دون الشعور بهُنّ، أشفق عليهم جداً من هذا الزمان و أشفق أيضاً على هذا المكان، ترى هل الزمان أودى بنا إلى ما نحن عليه! سألت نفسي في صمت.
إذن على ما يبدو أنها لعنات من فارق الأرض دون طهارتها بعد أن غسلها بدمائه.
راودتني تلك الهواجس اللعينة من جديد:
كم هي مهلكة ساعات التفكير في ما مضى من الزمن كم كان مراً الفراق على من إعتاد الموت مرات ومرات في الأحراش و ما بين الثكنات.
لن أنسى، كيف تردى الحال بخالي الذي أصبح كغيره يغوص في حالة اللاوعي العارمة، كان شعور غريب، غير مألوف أجهل تفاصيله تماماً، أظن أنني في كوكب آخر أو عالم آخر ، حتماَ أنه عالم آخر حيث تجتمع المتناقضات: الفرح والحزن، الأمل و الأسي, الوعي واللاوعي. غير أن هناك شيء واحد يميزهم عن العالم: قدرتهم العالية علي الصبر، وشيء آخر يبعدهم عن العالم: خوفهم من المستقبل, واكتفاؤهم بالماضي دون المضي قدماً في الحاضر!
أندهش بحزن بالغ من هؤلاء الأطفال الذين يقومون بالعروض العسكرية في غياب تام للبراءة التي ولدوا بها، وكيف يقومون بها في حرفية كبيرة, يتقمصون دور الجنود - عفواً إنهم لا يتقمصون ذلك, بل هم جنودٌ فعلاً!
تمنيت لو تنتهي الحرب الوهمية المصطنعة ونرجع الى ما كنا عليه، لكنني أيقنت أنه كتب علينا الفرح الممزوج بالحزن.
لا أستطيع العيش بينكم, إنني مغادر .. إعذرني يا خالي فأنا لست منكم سأتركك وحدك، ستكون كما أنت مكانك في كل عام مقبل على ضاحية (كماشتاتو).
تتفحص الوجوه التي حولك و تستعجب وتخشى السؤال متى ما أردت ذلك، ولكن ستبقى مكانك، ستفرح قليلاً وترقص قليلاً، وستعود و تتسع دهشتك وأنت هناك في مكانك، ستذهب إلى باحة كنيسة (اندا ماريام) و تتأثر بمظهر العراة الجياع المكدسين بعضهم فوق بعض ولكن ستمحي تلك النظرة الحزينة وتعود مكانك. سترى الجهة الأمامية من مسجد الخلفاء وتبكي على الأطفال وهم يهربون من جحيم العسكر ولكنك ستتسمر مكانك. ستستمع الى كلمة القائد العظيم في كل مناسبة، وتصدم من آراءه و كلماته الشامتة ونبرة صوته القاسية، و تخاف من المصير المجهول، ستتقبل الكلمات وتقف مكانك، ستسمع آهات المغيبيين في نومك وصرخات المظلومين, لكنك ستعود إلى مكانك، ستقرأ كلمة التنمية في كل خطاب حكومي ويساورك شعور بالشجاعة وستحاول أن تسأل أين التنمية؟
لكنك لن تجرؤ أن تسأل أبداً لأنك متجمد في مكانك، ستتغير أوضاع من هم حولك مع مرور الزمن لكنك لن تبرح مكانك، ستثور جموع من هم حولك ولكنك ستبقى في زمانك، سينهض من هم حولك ولكنك تشاهد بإستحياء ما يحدث من حولك و أنت عاجزٌ تراقب زمانك، وتبقى مكتوف الأيدي، لأن كل ما هناك يشلّ قواك وأنت في مكانك، تحارب في غير زمانك، لعنة أخرى تلاحقك!
أعذرني للمرة الأخيرة، سأحاول فقط أن أغير من قواعد المكان، وإن لم أستطع فإنني أطمع أن تقوم أنت بذلك - تكسر حاجز المكان، تخلى عن كل ما تستغرب حدوثه، أنا موقن تماماً بأني سأنجح إذا جاورتني, لا تقلق، نعم بلاشك سأدفع ضريبة التحرر من سلاسل المكان و أمضي قدماً أسابق الزمن كما فعلت أنت سابقاً!

4 سبتمبر 2020م


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى