سوزان ابراهيم - مدينة البرازخ والعابرين.. دمشق إن نظرت إلى وجهها..؟!

أتعرفين ما يثير دهشتي وتساؤلي: من أين أتيتِ بكل هذه البراعة في كسب العابرين.. والمنافقين.. والأعداء أيتها الخالدة أبداً؟!

من أين تعلّمت حرفة البرازخ, فلا كنتِ الجنة ولا كنتِ النار..

لماذا لم تصرخي بالعابرين أن كونوا أتباعي وقد رضعوا حَورَك طويلاً! لماذا تعلّمتِ إشاحة وجهكِ عن عقوقهم بحق أمومتك, وأتقنتِ كظم الغيظ!

لو نظرت دمشقُ اليوم في مرآتها, هل ستتعرف إلى وجهها؟

من منّا يستحق اليوم سجلك المدني كابنٍ.. أو كمواطن.. وقد كنا إما نزلاء فيك كفندق فاخر, أو تجاراً يسعون إلى صفقة رابحة؟

من منّا نحن العابرين إليك بأحلام ما كانت لتتحقق لولاك, من منا قادر أن يبرَّ بك كمدينةٍ لا كملاذ للحلم والطموح؟! لماذا جعلتِ من نفسك ملاذاً للطامحين والحالمين.. أما كنتِ قادرة على الإمساك ببنوتهم دون إغراء أو تحفيز أو تواطئ؟!

دمشق التي كانت من المدن الأكثر أمناً وسلاماً في العالم تخشى اليوم أن تنام في سريرها بمفردها فتراها واقفة على قدم واحدة حتى طلوع الصبح يحيط بها الحراس من كل الجهات.. المدينة التي كان الليل يأوي إليها ليمارس كل غواياته وحيله, أقفل دكان ألعابه, وترك لها الخوف المدسوس هنا وهناك.

سأفترض أن الكهرباء ما عادت متوفرة, وهي غالباً كذلك, وهكذا لايمكننا متابعة أي وسيلة إعلامية تحمل عواجل الأخبار.. وسأفترض أن الاتصالات من كل نوع توقفت.. يكفي أن تمشي في شوارع المدينة لتعرف أحوالها دون أن تجسَّ نبضها.. أو تقيس ضغطها.. ودون أن تسألها أين مواضع الألم.

ستكون الحواجز.. واللافتات.. والنعوات.. وصور الشهداء.. والجنود.. والسلاح.. والتدقيق في الهويات.. وزعيق سيارات الإسعاف.. وزحمة الباعة الجوالين والبسطات.. وتدفق الناس في سوق الحميدية والشام العتيقة.. الناس المتشابهون وغير المتشابهين.. الغضب.. وضحكات المراهقات.. وبسطات الكتب وطلاب الجامعات.. زحمة السير وصراخ السائقين وأزمة الوقود والكهرباء.. سترى شارع الحمراء والشعلان وسوق «التنابل» ومحلات الألبسة من أرقى الماركات وحمى التنزيلات.. ستقابلك المحجبات والسافرات والمُغاليات من الطرفين... سترى رجالاً بلحىً وآخرين بوشومٍ وسلاسل وقصات شعر حديثة...... سترى المقاهي عامرة بروادها.. وأصوات لاعبي الورق «الشدة».. وطاولة الزهر يلعلع نردها في مقهى الروضة... سترى المتسولين.. وسيارات فارهة.. سترى الفقراء والتجار ورجال الأعمال.. محلات الاتصالات والموبايلات وأحدث عروض الأجهزة الالكترونية ملاصقة تماماً لسوق ساروجة ومطاعمه ومقاهيه الشعبية ورائحة الماضي المنبعثة من كل حجر فيه.............

سترى في دمشق كل المتناقضات ولهذا لم تفلح في أن تكون الجنة ولاالنار وبقيت برزخاً بينهما أو مطهراً لا يلبث الواقف فيه أن يغادره.

منذ سنوات طويلة كانت المدينة تصرخ.. وترسل الإشارات.. منذ سنوات كان علينا أن نقرأ شيفرتها جيداً.. وحين لم تنجح كل الرسائل في لفت انتباه الحراس, انغلقت على نفسها وعاشت حزنها وحزن أبنائها.

أخلَصَ نجيب محفوظ للقاهرة ولكل تفاصيل حياة الناس فيها, فإن أردت معرفة تاريخها الشعبي المعيش ستكفيك قراءةُ رواياته مشقةَ البحث في كتب التاريخ أو الجغرافيا, فمن من عابريكِ أخلَصَ لك دمشق كأمٍّ.. لاكعشيقة أو حبيبة أو امرأة جميلة يفوح الياسمين من أردان نافوراتها؟!

في الأعياد والعطل الرسمية الطويلة تكاد الحركة تخمد في شوارع دمشق- حتى قبل هذه الحرب اللعينة- لأن غالبية سكانها من الوافدين إليها من بقية المحافظات سعياً وراء رزق.. وثمة أمثلة كثيرة على من ترك دمشق- حتى دون وداع حميمي- بعد أن أنهى عمله وعاد إلى مستقره البعيد.

أين تكمن المشكلة دمشق: فيكِ أم فيهم؟!

لماذا لم تصبحي مستقر قلوبهم.. لماذا لم تتمكني من الصعود والتحول إلى مدينة, فغزاكِ الترييف بكل تقاليده وعاداته وقيمه.. وحول جسدك بُنيت مجتمعات محلية صغيرة تعيق مدنيتك وطموحك بالانفتاح على المدنية والتطور.. لم تتمكني حتى الآن من التحول إلى بوتقة لصهر الجميع.. فهل كانت هذه نقطة قوتك أم كعب أخيلك؟!

عبر ثقوب كثيرة في جسدك, عزف كل عابر لحنه ومضى.. يا ناي الحزن.. كان عليك أن تعزفي لحنك أنتِ وليُصغِ الآخرون.. يا ناي الحُرقة ما كان عليك أن تسلمي وجهك لأطباء الأعشاب والمشعوذين, بل لاختصاصيي التجميل.. فهل كبرتِ حقاً.. هل شِختِ ولابد من تجميلٍ لبشرتك؟!

كان عليك أن تطبعي وجهك أنت على وجوه الجميع, وألا تسمحي لهم بارتداء أقنعة وجوه أخرى!

أيتها الجحيم الحلو.. أيتها الجنة السعير.. أيتها القديسة الملعونة.. أيتها الجبارة الضعيفة.. كيف لنا أن نعبرك ونبقى!!


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى