شوقية عروق منصور - مأذون من الليكود.. قصة قصيرة

قررنا أن يكون زواجنا في السنة المقبلة .. الا أن ظروف مرض شقيقه فرضت علينا قراراً آخر .. تحديد يوماً قريباً للزواج لأنه اذا مات شقيقه - لا سمح الله - علينا أن ننتظر سنة أخرى أو أكثر .

بدأت المشتريات بسرعة من تجهيز اثاث البيت وتحضير فستان الزفاف الذي كنت اريده مميزاً ، له الشكل الخاص المزين بتول وخرز على شكل قطع الماس أما الطرحة فكنت اريدها طويلة تجر ورائي ، مع العلم ان القاعة التي ستجري فيها طقوس الزفاف لا تليق بالفستان الطويل الزاحف على البلاط المكسر والمخلوع عن جوانب القاعة ، أما الطرحة فقد تضامنت مع الفستان في الزحف على الأوساخ ، فصاحب القاعة لا يهتم بصيانتها وبنظافتها ، لأنه مطمئن إذ لا ينافسه أحد ، فهو صاحب القاعة الوحيدة في البلدة .

تصفحت جميع المجلات الخاصة بالأزياء .. ولم اترك معرضاً لبيع الأثاث الا دخلته ، وفتشت في الأجهزة الكهربائية وقمت بقياس الطول والعرض لكل تلفزيون ومكيف ولم اترك زراً أو واجهة لغسالة ونشافة وفرنا الا أدخلت رأسي حتى أطمئن على كل قطعة ستوضع في بيتي .. في البيت كان العمل على قدم وساق وقمت بتغيير لون الستائر التي لا تلائم طقم الصالون .. مما دفع خطيبي للتذمر .. لكن هذا حقي في جعل بيتي أجمل البيوت .. وعلق خطيبي على حرصي في الاختيار قائلاً :

- كنت أعتقد أنك لا تهتمين بمظاهر الديكور ، لأنك امرأة تختلفين عن باقي النساء ..!

قبل الزفاف بيومين جاء والد خطيبي طالباً من والدي عقد القران .. بالطبع أكد والدي وأعمامي على طلبه ، واتفقوا على مساء الغد .. كنت جالسة ، صامتة - فهذا شأن الرجال - لكن فجأة تسلل اسم شخص أعرف سيرته جيداً .. انتبهت ..!!

سألت والد خطيبي.. وما دخل هذا الشخص في الموضوع ؟؟

قال والد خطيبي باستغراب :

- هذا مأذون حارتكم .. ؟

- ماذا يعني مأذون حارتكم .. ؟؟ قلت وأنا متفاجئة !!

- كل حارة لها مأذون من قبل وزارة الأديان ، ولا يستطيع مأذوناً آخر من حارة ثانية التعدي على منطقته .. أجابني والد خطيبي وهو ينظر الي شزراً .

- لكن أنا أرفض هذا المأذون .. قلتها بغضب .. هذا المأذون ينتمي الى حزب الليكود .. ويعلق في فترة الانتخابات شعار الليكود فوق بيته .. وعدة مرات رأينا وزراء ومسؤولين من حزب الليكود يدخلون بيته ، ويمد لهم الموائد العامرة .. !! وفي الانتخابات لا يخجل حين يلف ويدور بسيارته المزينة بصور رجال الليكود ، وأيضاً يفتح الميكرفون على أعلى درجة كي يسمع أهل الحارة أصوات المرشحين في الحزب .. وهم يحاولون اقناع المواطنين بالتصويت لهم .

صرخ والدي في وجهي قائلاً :

- انت بدك تربي العالم .. كلها لحظة ونخلص .!!

- انت بالنسبة لك لحظة بتخلص .. أن توقيع هذا المأذون على ورقة العقد ستبقى طوال العمر .. لن اوقع على عقد زواجي لو جاء هذا المأذون .. !!

خرجت من الغرفة بسرعة ... ركض والدي .. ركضت أمي .. ركض أخوتي .. صرخ والدي بأعلى صوته قائلاً :

- هاي البنت طوال عمرها راح تتعبني حتى بزيجتها ..!!

بكت أمي بصمت ، أخوتي اختبأوا في غرفهم .. يعرفون أن هناك عواصف قادمة .. أنا البنت البكر ، المتفوقة ، التي تفتخر بها العائلة .. لكن الجميع يعرف أنني لا أتنازل عن رأي .. حتى والدي أطلق علي لقب صخرة .. !!

وبقيت أنا مصممة على رفض فكرة أن يوقع على عقد زواجي مأذوناً يحمل أفكاراً ضد مبادئي ووطنيتي .

الاقرباء قالوا عني بسخرية لاذعة .. فيلسوفة ..!! والد خطيبي قال لم أكن أعرف انها عنيدة بهذا الشكل !! .. خطيبي قال :

- هي مبدئية وأنا أحببتها لأجل ايمانها بمبادئها ، هي هيك .. !!

في الصباح .. بيتنا أشبه بقاعة للحداد وليس بيت فيه فرح وأضواء وزينات ، والدي رفض الرد علي عندما قلت صباح الخير .. والدتي شتمتني بالهمس ..!! وأضافت :

- طول عمرك راسك يابس !!

شقيقتي الصغرى سألتني يعني مش راح تتزوجي ؟؟ لم أجبها .. لأن عقلي كان يضغط على مشاعري التي تحولت الى قطعة دانتيلا ممزقة .. !!

لم أتصور يوماً أن أقع في مطب مثل هذا ؟؟ كيف أنا التي تقود المظاهرات وترفع الشعارات والنشيطة سياسياً واجتماعياً ، وتشارك في الندوات واللقاءات وتخوض المعارك فيها ، خاصة اذا كان الواقف أمامي من حزب صهيوني .. !! أنا التي تحمل ارشيف شعبها في قلبها وعقلها ، تفتح صفحاته كلما قضت الحاجة أمام وزير أو مسؤول ، وتأخذ بفرش خارطة فلسطين وتقوم بجرد القرى المهجرة ، واللاجئين ، والشتات والمصادرة والتمييز والعنصرية ..

أعترف أنني لم أتوظف رغم تعليمي الجامعي ، بسبب مبادئي وشخصيتي الرافضة ، الحازمة ، التي لا تساوم .. وقد عملت سكرتيرة لدى مكتب محام ، ورضيت بالراتب القليل ، ولم أتنازل ..

كنت سبب معاناة والدي ووالدتي التي رأت في نحساً عليها ، فأنا دخلت العنوسة ولم أتزوج بسبب الحدة التي تميز أفكاري .. ووالدي قالها منذ زمن .. لن تتزوج ..!! من سيأخذ امرأة تدوشه طوال النهار بلسانها وأفكارها الخيالية التي وصلت الى حد المرض .. ؟؟ وفي ميدان المقارنة بيني وبين صديقاتي كانت كفة الصديقات الناعمات اللواتي يخفضن أصواتهن عند الحديث ولا يجادلن ، اللواتي تزوجن وأنجبن - كل واحدة مستورة في بيت زوجها - الا أنا ..! لأنه لا يوجد رجل يقبل أن تكون زوجته مثلك .. !!

كنت أغضب واشعر أنني لا أستطيع أن اكون امرأة تقف على الحياد .. امرأة لا تشارك بهموم المجتمع ، تضع التاريخ في حقيبة مكياجها ، وتمسك بقضية شعبها وتحشرها في كيس ثم ترميه مع ملابسها التي لم تعد صالحة السنة لأن عالم الأزياء أخرج الى النور ازياءً حديثة .

وعندما تقدم لي خطيبي اعتبره أبي من كثرة دعواته ملاكاً .. أمي اعتبرته صيداً ثميناً ، ومؤكد الأقارب والجيران همسوا ، ومصمصوا الشفاه ، تكلموا كثيراً حول حظي الذي قامت الأقدار بتصليحه في أواخر حياتي ..

لكن أنا كنت اختبره بالأسئلة وطريقة اجابته وثقافته .. ووافقت بعد أن ثبت أنه يقاربني في الرؤية والمشاعر والمبادىء .

ما زلت رافضة مأذون الليكود .. اتصل خطيبي .. طلب مني التروي .. !! بقيت على اصراري .. واخذت أصرخ بوجه كل من يحاول مجادلتي ..

شقيقة العريس .. قالت أن والدها يفتش عن حل بعد أن طلب منه ابنه - العريس - أن يفهمني .. أخذ يسأل ويتصل .. كل مأذون أكد أنه لا يستطيع أن يعقد القران .. فكل حارة لها مأذونها ولا يمكن الاعتداء على حارة مأذون الليكود ..

أتصل بي مأذون من حارة بعيدة .. ولا أعرف كيف عرف بقصتي .. قال لي :

- أنا احترم مبادئك وشعورك الوطني الصادق .. أنا مستعد لعقد قرانك .. فقط أنت تعالي على بيت قرب بيتنا ..!!

- قلت أنا لا اعرف أصحاب البيت ..؟؟

- أجاب : أنا تكلمت معهم ..!! بالعكس قالوا نحن ندعم الناس الوطنيين الشرفاء .. سنعقد القران عندهم ، ولن تكون هناك مشكلة ..!! هذا حقك الشرعي ، أن توقعي على عقد القران في بيت أحد الاصدقاء ..

هاتفت خطيبي .. وتكلمت مع أبي .. بسرعة اتصلوا بصاحب البيت .. بعد ساعة كنا هناك وقمنا بإداء طقوس عقد القران ، قمت بالتوقيع وأنا اشعر براحة غريبة ، لم أتنازل عن مبادئي حتى في لحظة صعبة ، هامة ، ومصيرية ، كنت أعرف أن من الممكن أن يهرب خطيبي ، يتركني وهو العريس الذي لا يتكرر ، لكن بقيت على عهدي بروحي وقوتي ومبادئي التي زرعتها في مفاهيمي وأعماقي .

.. نظرت الى الجدران فكانت صور بعض القرى المهجرة .. وصور أناس بلباس عسكري قديم .. والمأذون .. اسمه قسام .. سكت .. وبدأت احضر نفسي لحفلة الزفاف في الغد ..

أما المأذون الليكودي فقد أرسل لي تهديداً مع احدهم .. انه سيشتكي على المأذون الذي تطاول على حارته ، والخدعة التي قام بها . بعد سنوات طويلة ..قرأت نعي المأذون الليكود في أحد المواقع ، زوجي أكد لي أنني كنت قاسية عليه .. وأنني كنت عنيدة في تلك اللحظة ، سألني هل لو رجع الزمان بك لرفضت كما رفضت آنذاك .. لم أتردد بالقول نعم .. اليس والدي أطلق علي لقب صخرة.


شوقية عروق منصور

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى