إسماعيل غزالي - الحسناء على درّاجتها الهوائيّة*..

في عز ّ الظّهيرة، بالذّات في منتصف رمادها، حيث الضّباب الذي بالغ في شطط السّأم، فيما الكائنات هاجعة تتقلّب الأنفاس داخل قيلولتها المحتبسة، فعلتها الشّقراء، اللّمياء، النّجلاء، راقصة الباليه المعروفة بلقب الفراشة.
الرّاقصة الذّائعة الأناقة، التي تسكن البيت السّاحر في أعلى المنحنى المطلّ على مرفأ المدينة.
أتتها مثل فراشة غريبة من شهور وشطرتْ ذاكرتها وزمنها إلى أنصاف أنصاف.
الرّاقصة ذات القدمين الملائكيين، سيّدة الشّعر المتموّج بثراء، التي يفغم عطرها الباريسيّ هواء البلدة ويضرم غلمة الرّجال المحتلمين بها في جشع دبق.
الفتاة اللذيذة المهووسة بالرّكض فجرا في شعاب الغابة، التي تبتسم لها شمس الصّباح الخفيّة قبل أن تكشّر أنيابها في وجه عمّال وموظّفي وعاطلي البلدة.
فعلتها، بتلك السّاعة المشينة بياضا، وصعق الحادث المجيد عشّاقها الأشاوس ومعجبيها من المستمنيّين الطّارئين على أرض التّحوّلات المراهقة، وكذلك من المتصوفّين والكارهين لها على حدّ سواء.
على نفس الدراجة الهوائيّة التي كانت تقضم بها المسافة بين بيتها السّاحر على المنحنى وبين المرقص الجاثم في طرف البلدة قريبا من البحر ، شوهدتْ بتلك السّاعة الآنفة الذّكر.
هل هي أوّل درّاجة من نوع سوناتا تدخل البلدة الصغيرة ؟
تلك ليست مبالغة المفرطين في الهوس بها، فالحقيقة العزيزةُ الظنّ، أنّ الدرّاجات الهوائيّة، التي ازدهر بها المكان من قبل، بحكم العادة تبدو أكثر من عاديّة وشائعة. غير أن القصد الفريد، هو أن فضيلة امتلاك درّاجة هوائيّة من نوع سوناتا بعد رؤية الرّاقصة الفاخرة تركبها، صار تقليعةً محمومةً عند أهل المدينة الصّغيرة، فتسابق دانيها وقاصيها، ميسورها ومعوزها، الى التسلّح بهذه المحمدة البكر، وأمست الطّرق في ظرف شهْرٍ، تعجّ بها، وتصخبُ بحفيفِ مروقها، وتترفُ بأشكالها المتماوجة كما لو يتعلّق الأمر بمهرجان يوميّ لها.
على نفس تلك الدرّاجة الهوائيّة، الرّفيعة، التي يصدر عنها هسيسٌ أثيرٌ يشبه هسيسَ عبورِ سنونوةٍ، خرجت الرّاقصة اللاّذعة اللّيونة، من بيتها السّاحر على المنحنى، وأقلعتْ مثل ترغلّةٍ، عند منتصف النّهار ، حيث الشّارع المؤثّثُ بحجر ٍصقيلٍ، يعيثُ فيه الفراغُ جلالا.
فراغٌ مطلقٌ، إلاّ منْ ملاعين، يتلصّصون على آثام الظّهيرة، بعيونِ ذئابٍ مرقّطة…
وهكذا مرقتْ تحت شرفة عازف البيانو، وقد كان منهمكا في عزف ضلعٍ من موسيقى باخيّة، حين صعقه ما رأى، فأطلّ بعنقه النّحيل، كي تكتنز نظرته مشهد الرّؤية كلّها، ورمقها منطلقة مثل خيطٍ سديميٍّ وقدْ نزعتْ عن رأسها القبّعة الوارفة وألقتْ بها وهي تتطايرُ خفيضةً حتّى سقطتْ على عتبة بيته.
وهي تمرق في المنعطف الشّماليّ للشّارع الضيّق، الفارع، سيرمقها الرّسام الانطباعيّ، من شرفته الواطئة، وقد كان يخطّط مرّبعات على لوحةٍ بهدف ضبطِ احداثيّاتِ وجهِ امرأةٍ يودُّ أن ينجز يورتريه لها ، وصعقه ما لمح، فمدّ عنقه المثخن، ليعزّز من ترف ما رآه على سبيل التوّهم، وشاهدها تنعطف يمينا وقد نزعتْ عنها النّظارة وألقتْ بها بعيدا حيث تساقطتْ على عتبة بيته.
وهي تمرقُ في المنعطف على اليمين، سيرمقها الشّاعر الغنائيّ وقد كان يدبّج قصيدةً حول عيد الحبّ في الشّرفة وصعقه ما لمحه، فأطلّ كيْ يرفع شبهة التخيّل، ممّا شٌبّه له أنْ رآه وشاهدها تنعطف شمالا وهي تنزع عن معصمها السّاعة الصّغيرة وتلقي بها خلفها فتتطاير الى أنْ تتساقط على عتبة بيته.
وهي تمرق في المنعطف الشماليّ، ستمرُّ تحت شرفةِ رجل الفوتوغرافيا، وقدْ كان يفحص جديد صوره التي يعدّها لمعرض وشيكٍ حين صعقهُ ما لمح من جنونٍ، فأطلّ بصعوبة، ليحصد بنظرته الحادّة ما التقطه كبرقٍ، وشاهدها تنعطف يمينا بعد أن نزعتْ جواربها وألقتْ بها خلفها، وتساقطتْ غير بعيد على عتبة بيته.
وهي تنعطف يمينا، سيرمقها الرّجل البحريّ، من شرفته العالية وقد كان يرصد بمنظاره نقطةً نائيّةً في أقصى الزّرقة، وصعقه ما شاهده لمْحا، فأطلّ أكثر ليستجمع أوصال المشهد في نظرته ورآها تنعطف شمالا بعد أن نزعتْ فستانها وألقتْ به فتساقط قريبا من عتبة بيته.
وهي تنعطف شمالا، سيرمقها المهندسُ المعماريُّ، منْ شرفته الباسقة وقدْ كان يطمئنُّ على مجسّم برجٍ، ينجزهُ لصالحِ دولةٍ شرق وسطيّة، عندما صعقهُ ما التقطهُ فارغا فاه، وأطلّ بحماسٍ طفوليّ كيْ يضاعف ثرْوة الحقيقة ممّا شاهده، ورآها منطلقةً بسرعةٍ خارقة صوب مياه المرفأ، وهي تنزعُ عنها صدريّتها وتلقيها خلفها وتتطايرُ الصّدريّةُ إلى أنْ تسقط قريبا من عتبة بيته.
آخر منْ شاهدها، وهي تقفُ على مقعد الدرّاجة الهوائيّة تؤدّي حركة من رقصتها المستحيلة، قبل أنْ تنزع عنْها تبّانها وتلقيه باتّجاهه، وتلج البحر في تناغمٍ ساحر ٍمنقطع النّظير، وتختفي هناك، دون أن تطلع جثّتها كان هو كاتب هذه القصّة القصيرة، ولمْ يكنْ يقفُ في شرفةٍ كبقيّة الذين تشرّفوا برؤيتها، في غضونِ منتصفِ الظّهيرة الكبيسة تلك، بل كان يجلسُ وحيدا على مقعد الضفّة، في المرفأ.
وكان، منهمكا في تخطيط حكايةٍ، حول فراشةٍ، تحلّق في ظهيرةٍ، قريبا من ستّ شرفاتٍ، شرْفةُ عازف البيانو وشرْفةُ الرّسام وشرْفةُ الشّاعر الغنائيّ وشرْفةُ الفوتوغرافيّ وشرفة الرّجل البحريّ وشرفة المهندس المعماريّ.
فراشةُ في مهبّ رياح شيطانيّة لاغير ُ، فكّر في أثرها الصّاعق الذي سيُحدِثُ عواصفَ عند كلّ هؤلاء، الذين رمقوها بتلك السّاعة النّادرة.
فراشةٌ سيتلقّفها الموج أخيرا، فيما يشبهُ موتا بطوليّا أو غنائيّا أو ملحميّا بالأحرى.
لم يكنْ يتخيّلُ أنّه يكتبُ قدر امرأةٍ، وليس فراشة كما خطّطت حكايتُه، أجلْ امرأة، تلْقى نفس مصير الفراشة، وهي راقصةُ الباليه.
وقف هارعا صوب المكان المزبد الذي غطستْ فيه راقصةُ الباليه وغابتْ، إلاّ من درّاجتها التي لفظتها المياهُ، ودون أنْ ينْزع عنْه ملابسه، غطس بحْثا عنْها، ولمْ يجدْ لها أثرا. عندما غالبه العياء، خرج الى الضفة لاهثا واستلقى قريبا من تبانها، وحوْله تحلّق عازفُ البيانو وهو يحمل في يده قبّعتها الوارفة و الرسّام وفي يده يحمل النّظّارة والشّاعر الغنائيّ وهو يحمل في يده السّاعة الصّغيرة والفوتوغرافيّ وهو يحمل في يده الجوارب والرّجل البحريّ وهو يحمل في يده الفستان والمهندس المعماريّ وهو يحمل في يده الصّدريّة.

* من مجموعة (منامات شجرة الفايكنغ)
أعلى