إبراهيم قيس جركس - سيزيف: أسطورتنا الحية إلى الأبد

سيزيف ليست أسطورة إغريقية خاصة باليونانيين القدماء فقط، بل هي أسطورة كونية شاملة لكل حضارة وثقافة وزمان، ونكاد نراها بأمّ العين في زماننا الراهن ووضعنا الحالي.

من هو سيزيف؟
تمنحنا جميع النسخ المختلفة لهذه الأسطورة شرحاً لسبب تعرّض سيزيف لمثل هذه العقوبة. فوفقاً لإحدى النسخ، كانت ابنة اسوبوس، إيجينا، أحد أسباب إنزال العقاب بسيزيف. فبعد أن اختطفها زيوس، أخذ والدها أوسوبوس يبحث عنها، لكنه فشل، إلا أنّ سيزيف أخبره أنه يعرف مكانها. وقد وافق على إفشاء مكان تواجدها فقط إذا وافق أسوبوس على إمداد كورنثيا بمياه الشرب.
تقول نسخة أخرى من الأسطورة أنّ سيزيف كان على عداء مع شفيقة سالمون، وكما تنبّأ أبوللو، فقد اغتصب ابنته تيرو، ثمّ أنجبت أولاداً. ثمّ اكتشفت أنّ ابنائها يريدون قتل سالمونيوس لأنّ سيزيف أمرهم بذلك. لهذا السبب عوقِب. من الصعب معرفة أي نوعٍ من الرجال كان سيزيف من خلال افعاله ولكن هذا المقال سيساعدنا في معرفة ما إذا كان بطلاً في الحقيقة.
ومن أكثر النسخ انتشاراً وشهرةً عن الأسطورة: كان سيزيف، ابن عوليس إله الريح، مؤسس مدينة كورنثوس، والتي كانت تسمّى في العصور القديمة باسم مدينة "إيثر". لم يكن هناك أي شخص في اليونان بأكملها يضاهي سيزيف ذكاءً ودهاءً. وعندما جاء ثانوس الكئيب إلى أذكى رجل في اليونان ليأخذه إلى العالم السفلي هادس، تمكّن سيزيف من التملّص من رسول هادس والتغلّب عليه وتقييده ثم الهرب منه. ومع ذلك، كان لهذا الفعل عواقب معينة على الناس على الأرض. لم يعد أحد يموت، لم تعُد تُقام جنازات، ولم يَعُد أحد يكرّم الآلهة أو يقدّم القرابين والأضاحي لها. تمّ كسر النظام الذي وضعه إله الرعد زيوس. وبعد أن اكتشف الأخير ذلك، أرسل زيوس الإله آريس، إله الحرب، لتحرير ثانوس ومعاقبة سيزيف ونقله إلى عالم الموت.
ومع ذلك حتى وهو واقفٌ أمام هادس بجلالة قدره، تمكّن من خداعه الفرار منه. وقبل أن يُقبَضَ عليه للمرة الثانية طلب من زوجته بألا تدفنه وبالتالي لا تضحّي بجسده للآلهة. أطاعت الزوجة رغبة زوجها وفعلت كما طلب منها. انتظر كل من هادس إله العالم السفلي وزوجته برسيفوني التضحية، لكنّ الأخبار وصلتهما بأنّ زوجة سيزيف لن تقيم طقوس التضحية. ثم قرّر سيزيف التحدّث مع الإله وتمكّن من إقناعه بأن يعود إلى الأرض ويطلب من زوجته دفن الجثة.
صدّقه هادس وأطلق سراحه. ومع ذلك، لم يَعُد سيزيف إلى عالم الظلال وقرّر البقاء على الأرض للاحتفال مع عائلته وأصدقائه لأنه كان الإنسان الوحيد الذي تمكّن من خداع إله العالم السفلي والفرار منه، والبقاء على قيد الحياة. أرسل هادس الغاضب مرساله ثانوس مرّةً أخرى لاستعادة سيزيف وإرجاعه إلى العالم السفلي، لكنه وجده على الطاولة يضحك ويأكل. لسوء حظه لم يستطع خداع الإله مرّةً ثانية وتمّ نقله إلى عالم الظلال ليُعاقَب على أفعاله.
عوقِبَ سيزيف بشدّة على جميع أكاذيبه التي لاتنتهي. إذ حكمت عليه الآلهة بدحرجة صخرة ضخمة إلى قمّة جبل عالٍ لإنهاك جميع عضلاته. وبغضّ النظر عن ثِقَل الصخرة أو ارتفاع الجبل ومقدار الجهد الذي يبذله سيزيف، كان الحجر يسقط ويتدحرج مراراً وتكراراً بعد بلوغه قمّة الجبل، ليعيد الكَرّة من جديد. وبغضّ النظر عن جميع المحاولات، فإنّ الحجر محكومٌ عليه بالسقوط. لا زمن ولا إجهاد يؤثران عليه وهو يحاول يائساً دحرجة الحجر إلى قمة الجبل مراراً وتكراراً إلى الأبد ولعدد غير محدّد من المحاولات.
وهكذا فإنّ صورة سيزيف دارجة ومتجذّرة بقوّة في الأدب العالمي، وخاصة في الأدب اليوناني القديم. فمثلاً، نجد سيزيف الشخصية الرئيسية في معظم الأعمال الدرامية الساخرة لأسخيلوس، وسوفوكليس، ويوريبيدس. وحتى الكتّاب المعاصرين كان لهم نصيب في شخصية سيزيف كروبرت ميرل وألبير كامو والفنانين يصوّرون مارداً يشخّص صورة سيزيف كمصدر الوحي والإلهام. وسيُكَرّس هذا المقال لأعمال أحد أبرز ممثّلي الفلسفة العبثية ألبير كامو. كان هو الشخص الوحيد القادر على إظهار جوهر العبث الذي يلازمنا طوال حياتنا وخلال حياتنا اليومية باستخدام صورة سيزيف كزمر "للامعنى" و"اللاجدوى" و"اللامعقول". وكما لاحظتم تساعدنا الأساطير على التفكير في موضوع الدين لأنّ الإغريق القدماء كانوا أناساً متديّنين للغاية وربطوا جميع الظواهر الطبيعية بإرادة الآلهة ومشيئتها. ومع ذلك فهي مسألة جوهرية حتى في عصرنا الحالي.

# سيزيف عند ألبير كامو
===============
إذا كنتم على دراية مسبقة بأسس الفلسفة العَبَثية، فعلى الأرجح أنتم تعرفون أنّها تستند إلى حقيقة أنّ وجودنا عبثي ولامعنى له. وسيزيف كامو يمثّل بالضبط ما نبحث عنه هنا: فقد وجد معنى الحياة والغاية منها. وهذا المقال سيعتمد بشكل أساسي على مقال كتبه ألبير كامو في عام ١٩٤٢ بعنوان "أسطورة سيزيف". ويستخدم هذا العمل في الجامعات والمعاهد كدليل لدراسة الفلسفة العبثية.
يحاول كامو في مقاله عن العَبَث أن يجيب عن سؤال قديم جداً لطالما سألناه جميعاً على أنفسنا: "هل تستحق هذه الحياة أن تُعاش؟"، "هل تستحق كل هذا الجهد والعَناء اللذان نبذلهما من أجلها؟". ووفقاً لكامو، هذا هو السؤال الوحيد الأهم في تاريخ الفلسفة. فعندما قرّرت الآلهة معاقبة سيزيف على مافعله، اعتبرت أنّ العمل اللانهائي العَبَثي واللامجدي أفضل عقوبة تنزلها عليه. يُعتَبَر سيزيف شخصية عَبَثية تعيش حياةً كاملة، وتحتقر الموت والفناء، ومحكومٌ عليها القيام بنفس العمل اللامجدي والذي لايفضي إلى شيء مراراً وتكراراً إلى الأبد.
أحد أكثر أجزاء أسطورة كامو إثارةً للاهتمام هو الجزء الذي ينزل فيه سيزيف باحثاً عن الصخرة التي تدحرجت إلى الجهة الأخرى من الجبل، في هذه اللحظة بالذات تصبح الأسطورة مأساوية لأنّ سيزيف يهبط الجبل وهو يدرك أنه محكومٌ عليه بالفناء ومواصلة عمله اللامجدي اليائس إلى الأبد. لقد فقد كل أمل منذ فترة طويلة، ولكن من ناحية أخرى، إنه لا يملك أي توقّعات يأمَل بها أو عَقَبات لتجاوزها والتغلّب عليها أو أي أسباب لإنهاء عذابه ووضع حدّ لمصيره.
سيزيف لديه الصخرة التي هي كنزه وكل ما يملكه، حتى أنّ أصغر جزء منها يمثّل أغلى مايملك. وقد توصّل كامو إلى استنتاج مفاده أنّ سيزيف عثر على معنى لحياته وأنّ كل ما يحتاجه هو الاعتقاد بأنه شخص سعيد على الرغم من كل العمل الشاق الذي يتعيّن عليه القيام به بلا هوادة.
هناك نقطة مثيرة للاهتمام في مقاله. كامو حريص على اعتبار هذا العمل العَبَثي اللانهائي لسيزيف ماهو إلا استعارة أو تصوير لحياتنا اليومية. ومن السهل للغاية إثبات ذلك إذ أننا نقضي وقتنا جالسين على المكاتب، ونعمل في المصانع والصالات ومختلف الأعمال والأشغال العبثية كما يفعل سيزيف تماماً لكننا نعتبر حياته خالية من المعنى بينما تبدو حياتنا مثالية في نظرنا. يقول كامو ((موظّفو اليوم يعملون في نفس الوظيفة طوال حياتهم، ومصائرهم عبثية أيضاً. ومع ذلك لايُنظَر إليها على أنها مأساوية إلا إذا نظرنا إليها بهذه الطريقة)).
من الصعب أن يكون المرء موضوعياً حول هذه النقطة لأنه يوشك أن يقارن حياته بحياة شخصية أسطورية يُفتَرَض أنها عاشت قبل مئات السنين. ومع ذلك، وبعد قراءة مقال ألبير كامو وأسطورة سيزيف، يمكننا التوصّل إلى نتيجة بسيطة للغاية.
مثل هذه المقارنة بين شخص معاصر يعيش اليوم ومصير سيزيف الرهيب كما قدّمه ألبير كامو قبل حوالي نصف قرن هي القضية المحورية في زماننا الحالي. إذ يكافح ملايين الناس كل يوم في مختلف أنحاء العالم في أعمال وأشغال قهرية على الأرجح هم لايحبّونها وذلك لتحقيق هدف واحد وهو كسب المال وشراء أشياء قد لايحتاجونها. إنّ وقتهم يمضي في أعمالهم العبثية، يلاحقون أكاذيب وأوهام، وفي كل يوم يمضي يموت جزء بداخلهم. وهذا ما يفعله سيزيف بالضبط، أليس كذلك؟ هذا هو السخف والعبث بعينه، أليس كذلك؟ هل هذا أمر منطقي على أية حال؟... لسوء الحظ إنّ معظم الناس محكومٌ عليهم بدحرجة "صخرتهم" إلى قمّة الجبل كل يوم أيضاً ثم السقوط نحو الجهة الأخرى من الجبل تحت تأثير ظروف معيّنة تجبرهم على الاستمرار في القيام بهذا العمل اليومي العَبَثي مراراً وتكراراً حتى نهاية حياتهم.
كما أنّ هناك بيان مهم جداً ومثير للجدل نودّ التطرّق إليه. حيث يتعلّق الأمر بعبثية حياتنا وعدم جدواها وخلوّها من أي معنى بشكلٍ عام. حياتنا هدية فريدة من نوعها منحتنا إيّاها قوى _أياً كان نوعها_ لا ندري عنها شيئاً. ومن السخف القول أنّ الناس يهدرون حياتهم ويضيّعون أوقاتهم بأنفسهم لأنهم لايملكون أي خيار أحياناً، ولكن في معظم الحالات هم كذلك. يمكن لكل واحدٍ منّا أن يختار مصيره ويفعل مايحلو له بغضّ النظر عن الجنس أو العمر. نحن جزء من نظام كامل لا يتأثّر بمصير أو بهلاك لأننا أحرارٌ في اختيارنا. سيزيف اختار أفعاله، وعقابه هو عقاب على ما فعله. البشر أيضاً مبدعون وخلّاقون جداً عندما يتعلّق الأمر بتصوّر شتّى أنواع العقوبات المختلفة، وسيتفاجأ المرء بالفعل بالتنوّع الكبير في طرق تنفيد العقوبات القصوى.
إذا كنت تشعر أنّ حياتك مملّة أو سقيمة ولا تشعر بالسعادة فيما تفعله، قم فقط بتغييرها. ويتيح لنا تنوّع حياتنا اختيار اي اتجاه نريده من بين العديد من الفرص المتاحة. يومان فقط هما المهمّان في حياتنا: يوم ولدنا، ويوم نفهم السبب، أو السؤال "لماذا". لا داعي لاعتبار سيزيف رجل محكوم عليه بالهلاك والعذاب الأبدي، فلديه هدف وعمل يقوم به وهو دحرجة الصخرة إلى قمّة الجبل مراراً وتكراراً. يقضي أغلب الناس حياتهم وهم يتسائلون "لماذا نحن هنا؟"، ولكنهم يكتشفون أنّ حياةً واحدة لا تكفي للإجابة عن هذا السؤال.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى