جمعة شنب - ليلة خميس.. قصة قصيرة

صحا السيّد ماجد، فوجد نفسه ممدّدًا على سرير المستشفى الحكوميّ، وقد تقيّأ على ملابسه وعلى الغطاء الجلديّ الأسود الّذي يكسو السرير.
كانت الساعة قد ناهزت الخامسة فجرًا، وقد تحلّق حوله نفر من الأقارب يدّعون القلق، وترتسم على وجوههم إمارات الدهشة والتقزّز، وتلوح في وجوه بعضهم ملامح شماتة.
كان وجه زوجته سقيمًا كما لو أنّها انتشلت من قبر للتوّ، ولم يكن بمقدوره تخمين ما يجول في خاطرها للمرّة الأولى منذ خمسة وثلاثين عامًا هي مدّة زواجهما..
ابنته دلال كانت الوحيدة الّتي انهالت عليه بالدموع والقبل، ولم تحفل بالقيء المتناثر، وكانت تقول كلامًا مؤثّرًا.
عُرف السيّد ماجد برصانته وجديتّه واستقامته، وقلّة احتكاكه بالآخرين إجمالًا.. الجيران تقوّلوا عليه كثيرًا: اتّهمه بعضهم بالتكبّر، فيما غمز آخرون بأنّه رجل مخابرات متكتّم وعميق، فآثروا تجنّبه وكانوا سعداء بمثل هذا الجفاء.
أمس عصرًا بلغت حالة القرف عنده ذروتها، ودليل ذلك ما قرّر القيام به في ليلة الخميس تلك: عاد إلى البيت، وقد عقد العزم على قضاء الليلة وحيدًا، والموت وحيدًا، في أغلب الظنّ، فلا طاقة له برؤية وجه زوجته المكفهرّ على مدار الساعة، سيّما وقد عزا إليها ما قدره 73% ممّا انتابه – مؤخّرًا- من سوداويّة وحزن.
في أسابيعه الأخيرة، قاطع السيّد ماجد كلّ أسباب العيش، حتّى تلك العادات الأثيرة الّتي كانت سلوة فؤاده في سنيّ عمره الثلاثين الأخيرة. لا بل إنّه انقلب عليها، وراح يردّد أنّ شرار الناس هم الكتّاب: الشعراء، والروائيّون، وكتّاب السيناريو أيضًا. وفي حواراته الصامتة، كان يتّهمهم بالتزوير والتدليس على الناس، فهم الّذين يتغزّلون بالنساء، ويتملّقونهنّ، ويرسمون لهنّ صورًا جميلة شفيفة، ويضفون عليهنّ صفات الملائكة الوادعين. "تبًّا للأدباء! إنّهم كومة من المأفونين. مجموعة من المزوّرين، الأفّاكين، الفارغين، العاطلين عن العمل، غير الضروريّين لقيام حياة فاضلة ذات جدوى. إنّهم كومة من الديكة الضالّة، ويحسبون أنّهم يحسنون صنعا. تبًّا لهم أجمعين، فهم حقًّا يقولون ما لا يفعلون، ويتّبعهم الغاوون، والله من فوق سماواته، في عليائه، قال فيهم ما بان لي الآن وانجلى"، تمتم الرجل.
ظلّت مثل هذه النقمة تطلّ برأسها في وجه ماجد كلّما اختلس نظرة إلى غرام، أمّ أبنائه الثمانية أجمعين. لقد ازداد وجهها صفرة ولؤمًا في سنتها الأخيرة. لحظ ذلك عدد من الجيران والأقارب، وكذلك ماجد بالطبع.
صاغ الرجل خلاصته في الفكر والأدب والأدباء قبل أسبوعين من ليلة الخميس هذه. فمزّق كلّ الروايات الّتي حرص على اقتنائها وقراءتها والتمتّع بها، وتقمُّص كثيرٍ من أفكارها، وتقليد أبطالها حتّى.
كذلك فعل بدواوين الشعر الّتي حرص دومًا على قراءتها، بل وحفظ كثيرًا من سطورها، ولطالما استشهد بأبياتها في جلساته العامّة والخاصّة، كما إنّه لم يستثن، في ثورته تلك، كتب الفلسفة والسياسة والاجتماع.
لقد كره السيّد ماجد أبناءه كلهم، بدرجات متفاوتة أيضًا، لا سيّما أبناءه الذكور الخمسة، هؤلاء الّذين طالما باهى بهم الخلق، واعتدّ بدرجاتهم العلميّة العالية مُسندًا نجاحاتهم إلى ذاته الناقصة. راح يحدّث نفسه، في أسابيعه الأخيرة، أنّ أبناءه أولاء عبارة عن فقاعات بائسة. إنّه ليذكرهم وهم يتبوّلون ويتغوّطون في سراويلهم، ويذكر (غرام) الهالكة وهي تغسل أقفيتهم كلّهم دون استئناء: الطبيب والمحاسب ومهندس العمارة والفيزيائيّ والكيميائيّ. إنّ أولادي سيكرّرون خطيئتي أيضًا: سيعملون، ويجمعون المال، ويتزوّجون، وينجبون، ثمّ يمشون في الأرض مرحًا. إنّ أبنائي سيكونون سفلةً مثلي، وربّما أسفل، فكّر ماجد أيضًا.
بناتي قبيحات: أنا - ربّما- الوحيد الّذي يقرّ بهذا الآن فقط. هنّ – بالضرورة - يعلمن كم هنّ دميمات، وكم إنّ أرواحهنّ خاوية. وإنّهنّ لَيَنمن مجهدات من كثرة التكلّف والسخف. إنّ في ظهر إحداهن بقعة بنفسجية ربّما تكون سببًا في طلاقها ليلة عرسها. والثانية عبيطة، وفيها قدر من الغباء ينوء بحمله حمار. أمّا الثالثة، فلقد ضبطتها تسرق من جيبي غير مرّة. إنّ الحياة تمثيليّة متهالكة أيضًا، فما جدوى المتابعة وقد تكشّف لي كلّ ذلك بغتة؟ فكر بذلك، وأخذ نفسًا راضيًا..
أخي كريه. لقد حاصرني ورافقني إلى الأعراس والجنائز، ولقد ظلّ ينبطح تحتي كالحصى إذا ما راودتني فكرة الإسهام في حديث هابطٍ أستعرض فيه ثقافتي الضحلة على رجال ضحلين، في جلسة يكثر فيها الإسفاف. لقد كرهت أصابع يديه الثنتين وهما ترتفعان فوق مستوى رأسه، مشيرًا للقوم أن يصمتوا، وكأنّه يريدهم أن يُبهروا بدرري كما هو مبهور. وفي قرارة نفسي، كنت أعلم أنّني رجل متبجّح قليل أدب ومتعجرف. وظلّت تحضرني صورته، يوم كان والدي يصفعه، ويلكمه في صدغه السميك، لشدّة بلادته، وتدنّي مستواه الدراسي، واتّساخ ملابسه. ربّاه كم كرهت أخي!
أختي ربيحة سيّئة المعشر، ولقد أشفقت على زوجها من جشعها وطول لسانها. إنّها امرأة صفيقة، شحيحة، وتستحق صاعقة .. صاعقة مناسبة للقضاء عليها، ليتنفّس زوجها ويحظى بامرأة كريمة تملأ بقية أيّامه بفرح ولو عابر. هو نفسه يستحقّ صاعقة أيضًا.. لتكن صاعقة عامّة إذن تأخذه مع أشباهه، إذ لماذا ترك نفسه نهبًا لها؟ إنّه حيوان تافه لم يُعنَ ساعةً بأمر، خلا ما في الطنجرة من طعام. ليذهب إلى الجحيم هو أيضًا!
صاحبي مشهور متهوّر وأرعن، ويسمّي سخافاته فلسفة، ويلصق بها صفة العبث، ويتكلّم في سارتر وصموئيل بيكيت، ويعزو منهجه العابث في الحياة إلى أنّه نتاج ظروف سياسيّة رديئة، وكأنّ ثمة سياسة هنا. أيّ وضاعة أن تقرأ مقالة أو كتابًا مترجمًا، وتروح تعبث في خلق الله وسننه في كونه!
لقد سقط مشهور في حفرة شقّها عمّال شركة المياه، حفرة مناسبة لكسر عظم رجل في سنّه. وزرته، قبل شهر، فكان يشكو ألمًا بدت علاماته على وجهه السقيم. لكنّه أبدًا لم يلجأ للقهقهة والعبث آنئذ، بل كان أقرب إلى مؤمن ورع يرجو من الله ما لا يرجو كثير من الواقعيّين. بئس مشهور، وبئست الحفرة، إذ لم تُهِل ما تراكم على جنبيها من أتربة وحجارة فوقه، إذن لأراحته وأراحت منه.
لقد أتقنت - في ما أتقنت - حرفة الجلوس قبالة التلفاز محملقًا في البرامج السياسيّة والثقافيّة الجادّة. لكنّي رحت أشعر بالغثيان لرؤية معدّ برنامج أسبوعيّ يستضيف فيه أناسًا ذوي شأن في مواقعهم وبلدانهم، وينثر في وجوههم ووجهي قدرًا كبيرًا من الاستخفاف والاستعراض والقدرة على سلسلة الأحداث والتواريخ، وكأنّي به يحاور ذاته . أيّ ذات هي تلك الّتي ينتمي لها هذا الوضيع السمج؟! سنوات تلت سنوات وأنا أحدّق فيه حتّى ارتسمت في شبكيّة عيني مسامات وجهه المقيت، وأيّ نفع كسبته من زهاء مئة ساعة من عمري قضيتها محدّقًا مستمعًا لهذا الرخص؟! أيّ جدوى من بقائنا اثنينا على وجه الأرض؟!
أنا، تكفي للقضاء عليّ كومة من أدوية غرام لم تستهلك 3% منها، فيما استهلكت مبالغ طائلة من مالي فرحت بها صاحبة الصيدليّة المجاورة، صاحبة السيّارة الفارهة. حفنة من هذي الحبوب تكفي للقضاء عليّ. لكن كيف أموت وأترك معدّ البرامج اللدن حيًّا؟ تحضرني تلك الدجاجة العاثرة حين تآمرنا عليها، نحن أولاد الحارة، ووضعنا في مؤخّرتها فتيلاً من البارود، وأشعلناه فراحت تركض كما لو تخبّطها المسّ، حتّى اشتعل الفتيل، ثمّ فرقع، فماتت ميتة غير كريمة. هذا المذيع أولى بالبارود من تلك الدجاجة العاثرة.
أنا خائف! هل مرّ بكم رجل خائف؟ إنّ تلك الدجاجة البائسة، في فزعها يومذاك، كانت أشدّ رباطة جأش منّي في أيّامي هذه.
أنا مرعوب من فعالٍ قمت بها من قبل، ومرعوب من ساعاتي الّتي أعيشها الآن، وذاهل في أمر ما يكون غدًا..
الحمد لله أن ليس ثمّة (غدًا). غدًا يكون الزمان صفرًا، حيث لا خوفٌ ولا فزع! لقد بلغ بي الأمر أنّي خائف من أن يموت حلّاق شعري فلا أجد من يزيّنني. خائف من أن يختفي محاميّ بغتة، أو أن يكون تآمر مع خصمي وباعني بثمن بخس. خائفٌ من ارتطام صحن ميلامين بأرض المطبخ، ومن ضحكة صبيٍّ عالية. أخاف رأسًا تحت مظلّة في يوم ماطر، لا بل أخاف المطر الّذي طالما عشقته. أخاف أن أحترق عند إشعال سيجارتي. أخاف رنّة الهاتف، لا سيّما إن كان بعيدًا عني. أخاف صوت قطّة فزعة يطاردها قطّ محموم..
(أنا خائف)، كانت هذه آخر كلمةٍ تمتم بها الرجل قبل تجرُّعه كأسًا أذاب فيها حبّاتٍ كثيرة تيقّن أنّها كوكتيل موته، وكان آخر ما سمعه صرخةً حرّى انبعثت من صدر غرام، وراح في فراغ.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى