مقتطف إبراهيم قيس جركس - شرح كتاب فريدريك نيتشه [هكذا تكلّم زرادشت] -14- (عن المُستَهينين بالجسد)

-14- عن المُستَهينين بالجسد

للمُستَهينين بالجسد أريد أن أقول كلمتي. ليس عليهم أن يتعلّموا من جديد ولا أن يعيدوا تعليم الآخرين، بل فقط أن يقولوا وداعاً لجسدهم – وأن يصيروا بُكماً إذاً.
((جسدٌ وروحٌ أنا)) _هكذا يتكلّم الطفل. ولِمَ لاينبغي على الناس أن يتكلّموا مثل الأطفال؟
لكنّ اليَقِظَ العارِف يقول: جسدٌ أنا بكُلّي وكُلّيتي ولاشيء غير ذلك، وليست الروح سوى كلمة لتسمية شيء ما في الجسد.
الجسد عقلٌ عظيم، تَعَدّدٌ ومعنىً موحّد، حربٌ وسلامٌ، راعٍ وقطيع.
إداةٌ لجسدك هو عقلك الصغير يا أخي هذا الذي تسمّيه "روحاً"، أداةٌ صغيرةٌ ولُعبَةً لعقلك الكبير.
تقول: "أنا"، وتشعر بالفخر لهذه الكلمة. لكنّ ماهو أعظم هو ذلك الذي لاتريد أن تؤمن به، _جسدك وعقله الكبير: ذلك العقل لا يقول "أنا"، بل يفعل "أنا".
ما يشعر به الحسّ، ما يميّزه العقل لا غاية له في ذاته البَتّة. لكنّ الحسّ والعقل يحاولان إقناعك بأنّهما غاية ومنتهى كل الأشياء: إلى هذا الحد يصل بهما الغرور.
أدوات ولَعِب هما الحسّ والعقل: خلفهما تكمن الذات. والذات هي الأخرى تبحث بعيني الحواس، وتصغي أيضاً بأذن العقل.
على الدوام تصغي الذات وتبحث: تُقارِن، تُخضِع، تستولي، تُدَمّر. تسود وهي صاحبة السيادة على الأنا أيضاً.
وراء أفكارك ومشاعرك يا أخي، يقف سيّد ذو سَطوَة وسلطان وحكيمٌ غير معروف اسمه الذات. جسدك مأواه، وجسدك هو.
ثَمّة أكثر حكمةً في جسدك ممّا في أفضل ما لديك من حكمة. ومَن الذي يعرف إذاً ما حاجة جسدك بالذات إلى أفضل ما لديك من الحكم؟
ذاتَـ - ــــكَ تسخر من أنا – ك ومن قفزاتها المزهوّة. "ماذا تعني بالنسبة لي كل قفزات وتعليقات الفكر هذه؟" تقول لنفسها "الطريق الملتوية باتجاه أهدافي. إنّني رَسَنُ "الأنا" والمُلَقّن الذي يهمس لها بأفكارها".
تقول الذات للأنا: "ذوقي الآن ألَماً!" فتتألّم الأنا وتُشرع في التفكير في وسيلة لدرء الألم _ ومن أجل هذا بالذات كون عليها أن تفكّر.
تقول الذات للأنا: "ذوقي الآن لذّةً!" فتلتذّ وتشرع في التفكير في وسيلة تعيد إليها مراراً هذه اللذّة _ ومن أجل هذا بالذات يكون عليها أن تفكّر.
كلمةٌ أريد أن أقولها للمُستَهينين بالجسد. أن يحتقروا، فذلك مايصنع صفة اعتبارهم. لكن أي شء هو هذا الذي ابتدع الاعتبار والاحتقار والقمة والإرادة؟
الذات المُبدِعَة هي التي ابتدعت الاعتبار والاحتقار، وابتدعت اللذة والألم. الجسد المُبدع هو الذي ابتدع لنفسه العقل يَدَاً لإرادته.
ذاتـــ _ـــــــكُم تخدمون حتى في حُمقكم واحتقاركم أيها المُستهينون بالجسد. أقول لكم: إنّ ذاتكم ذاتها تريد أن تموت وتُدبِرَ عن الحياة.
لم يَعُد باستطاعتها أن تبلغ ذلك الذي تريده أكثر من أيّ شيء، _أن تُبدِعَ مايفوق منزلتها، ذلك هو ماتريده أكثر من أيّ شيء، وذلك هو المُبتَغى الأول والأخير لحماستها المتوقّدة.
لكن قد فاتها الأوان لذلك – وهكذا ترد ذاتكم أن تهلك وتضمَحلّ، أيها المُستهينون بالجسد.
ذاتكم تريد أن تهلك وتضمحل، لذلك غدوتم مستهينين بالجسد! إذ لا طاقة لكم بعد الآن بأن تُبدِعوا ما يفوق منزلتكم!
ولذلك تصبّون الآن جام حنقكم على الحياة وعلى الأرض. حَسَدٌ سرّيٌ يكمن في النظرات الشزراء لاحتقاركم.
أنا لا أمضي على طريقكم أيها المُستهينون بالجسد! فَلَستُم جُسورٌ العبور إلى الإنسان الأعلى في نظري!
هكذا تكلّم زرادشت.
################################

عن المستهينين بالجسد وإرادة القوة
------------------------------------------
إنّ هذا القسم الموجَز يتناسب عكسياً مع أهميته الفائقة. إذ يحتوي على الخطوط العريضة لعلم النفس الفلسفي لدى نيتشه. هذه هي الحجّة الأولية: على عكس الأطفال الذين يمكن تثقيفهم عن الجسد لأنهم يدركون عن طريق الفطرة وبسبب سذاجتهم وبساطتهم العقلية أنّ الجس والروح كيانين متعايشين، ولايوجد مايمكن فعله بشأن محتقري الجسد والمستهينين به كالمسيحيين، والمثاليين، والأطهار الذين يرفضون الجسد بكل بساطة. ومع ذلك يعرف الإنسان الأعلى أنّ جميع الجوانب الحسية والروحية للحياة الإنسانية ماهي إلا وظائف للجسد الحي: ((ليست الروح سوى كلمة لتسمية شيء ما في الجسد)). ومايلي ماهو إلا بمثابة رسم تخطيطي نثري لبنية النفس الفردية مع الجسد كجذر فيزيولوجي للوظائف النفسية. إنّ الجسد بصفته كائناً حيوياً وديناميكياً مُبدعاً، هو الظهور أو التجسيد لإرادة القوّة في كل إنسان. إنه ((عقلٌ عظيم، تَعَدّدّ لكن بمعنى واحد)). هذا التعدّد هو أحد المفاهيم الرئيسية عند كانط، الذي يعني المجال المتباين لمختلف الأحاسيس الداخلية والخارجية والتي (بالنسبة إلى كانط) تخضع للتوليف في فعل فهم، حتى يمكن أن يكون هناك تفكير يُعَبّر عنه بشكل صحيح وبوعي.
تشير صياغة نيتشه إلى أنّ هذا "التعدّد" لديه إحساس يمرّ عبره، وقبل وقتٍ طويلٍ من قيام "العقل الصغير" أو "الأنا" بعمل فعل توليفي، حتى ولو بَدَت عناصر هذا التعدّد متعارضة تماماً (كالحرب والسلم)، ("قطيع" و"راع"). إنّها تستخدم العقل باعتباره "أداةً" ("العقل الصغير" _هذا استخدام لمعنى الروح بالمعنى التقليدي).
يجب فهم أنشطة الأحاسيس والعقل على أنّها وظائف جسدية، "كأدوات وألعاب" للجسم، وليست غايات في حدّ ذاتها. (نزعتان تجريبية وعقلانية ساذجتان على حدٍ سواء). وفي النموذج الفيزيولوجي النيتشوي الكامل، العقل هو نتاج الجسد المُبدِع الذي خلق العقل لنفسه كأيدٍ لإرادته: ((الجسد المُبدع هو الذي ابتدع لنفسه العقل يَدَاً لإرادته)). يستحدم نيتشه مصطلح "الأنا"، وعلى غرار فرويد 1856-1939، هذا هو الشعور المدفوع بالوعي للهوية الذاتية الفرويدية. ومع ذلك فإنّ ذلك الجانب الذي يُطلَق عليه نيتشه تسمية "ذات" يوضَع فوق هذه "الأنا". إنّ الذات تنظّم وتسيطر وتحكُم كافة النشاطات النفسية عند الفرد، ومن ضمنها نشاطات الأنا _الأمر الذي يثير استياء الأنا الفخورة، التي طالما اعتبرت نفسها، مثل الحواس والعقل، مستقلّةً عن الذات. إنّ مفهوم نيتشه عن الذات يؤثّر على ما سيسمّيه فرويد لاحقاً باسم "الأنا الأعلى".
قارن هذا مع ما جاء في كتاب "العلم المرح"، قسم 11 مع "المبالغة السخيفة" في تقدير الوعي. الجسد "يفعل أنا" _"الأنا" ليست شيئاً (كالروح مثلاً) بل وظيفة أو نشاط من أنشطة الجسد. وحتى عند محتقري الجسد والمستهينين به فإنّ الذات هي التي تتكلّم، وإن كانت هناك ذات ((تريد أن تموت وتُدبِرَ عن الحياة)). هذا مهمٌ جداً لفهم الشرخ عند بعض البشر (موصوفين في بعض ألأقسام التالية على غرار القسم السادس "عن المجرم الشاحب"، والقسم الثامن "عن شجرة الجبل"), حيث لم يتعلّم الأبطال بعد التغلّب على نَزعة تدمير الذات، واحتقارهم واستهانتهم، هذه الأمور التي يحتاجون إلى تركها ورائهم كشرط مسبق لتجاوز الإنسان لذانه نحو الإنسان الأعلى.

#ملاحظة حول إرادة القوة
-----------------------------
ومع ذلك، إنّ أكثر ما تبغيه الذت هو أن "تُبدِع مايفوق منزلتها". ولفهم هذه الفكرة، نحتاج إلى فهم مفهوم نيتشه عن إرادة القوة. إنّ الوضع الدقيق لفكرة إرادة القوة غير واضح _عن قصد على مايبدو_ عند نيتشه: هل هي ادّعاء ميتافيزيقي حول طبعيعة الواقع_ ومن ضمنه، حول الكائنات الحية، أو كل الأشياء_ أو تجربة فكرية، أو سرد للطريقة التي تعمل وفقها المظاهر؟ هنا، من أجل التسهيل، سنتعامل معها مبدئياً على أنّها ادّعاء فلسفي ميتافيزيقي واسع النطاق: الوجود هو إرادة قوّة.
كل "الأشياء" موجودة كرغبة للسيطرة على "شيء" آخر، أو رغبة في التعبير عن نفسها وتكثيفها أو تضخيمها كقوّة مسيطرة. ويتمّ اختبارها عادةً كقوّة/قدرة مؤثّرة، كالشعور بالقوة مثلاً. يقول نيتشه في كتابه "ماوراء الخير والشر"، الشذرة 22: ((وقد يأتي أحدهم... ويحذق في أن يفسّر لكم الطبيعة عينها، وبالنظر إلى الظاهرات عينها، على أنّها تحديداً، تحقيق لمَطامع تسلّطٍ غاشمٍ وبَطشٍ لاهوادة فيه _وقد يُفلح ذاك المؤوّل في أن يعرض لكم بصورة جليّة ما تنطوي عليه كل "إرادة قوة" من إطلاقية ولامشروطية، بحيث يبدو لكم [أو يكاد]، آخر الأمر، أنّ كل الألفاظ، بما فيها لفظ "الطغيان" أيضاً، هي نافلة ومجرّد استعارة تزيينية –ومفرطة في الإنسانية،... فكل قوّة تَنزَع، في كل آن، إلى تحقّقها الأقصى)). يرى هنا نيتشه العالم في سياق تنافس عدّة "قوى" مختلفة لفرض كل واحدة منها سيطرتها وطغيانها على الأخرى. (وهذا ما أطلق عليه مذهب "إرادة القوة"). ولكنه يشير إلى أنّ تفسيره هذا ماهو إلا تفسير تنافسه عدّة تفاسير أخرى. إذا كان الأمر كذلك فإنّ إرادة القوة ليست قانوناً أو مبدءاً حاكماً، بل هي حالة الأشياء عند انعدام جميع القوانين ((لكن ليس ثمّة قوانين فيه تسود، بل لأنّ لا قوانين فيه على الإطلاق))، ومن هذا المنطلق ، يرى نيتشه أنّه حتى العلم نفسه ما هو إلا ساحة تتنافس فوقها نسخ مختلفة من "الحقيقة". وأكثر الأمثلة التي يستخدمها نيتشه للدلالة على إرادة القوة هي عملية الابتلاع والهضم.
يبدو أنّ نيتشه يتخيّل شيئاً ما مثل كائن حي مجهري عبارة عن معدة، وظيفته الوحيدة تتمثّل في إحاطة الكائنات الأخرى بأذرعه ثمّ ابتلاعها وهضمها. ليس لدينا فقط صور لاحصر لها لأطعمة أو وجبات أو غثيان أو رفاهة بل "العقل معدة" حسب تعبيره لاحقاً. بأسلوب أقلّ وضوحاً وتمحوراً حول الذات، يبدو أنّ صورة الإحاطة والابتلاع والهضم هذه تشير إلى فكرة عقل الفيلسوف المستقبلي الشامل الذي يبني شكلاً جديداً للإنسانية من بقايا الماضي والحاضر.
نظرياً، إنّ إرادة القوة تهدف أيضاً إلى تصحيح العديد من الأخطار التي يراها نيتشه في الفكر العلمي الحديث، وبخاصة علم الأحياء التطوري أو علم النفس أو الفيزياء (كالذرية مثلاً). يجادل نيتشه بأنّ هذه التفسيرات التالية: 1) تخلق على نطاق واسع وبصورة غير شرعية جوهراً ثابتاً كامناً وراء كل فعل (شيء ما موجود هناك فعلاً ويمكن أن يتمّ التصرّف بناءً عليه، كنوع مثلاً أو فرد من نوع معيّن، ذرّة، غريزة، وهكذا دواليك). 2) سبب مجرّد من نتيجة في صياغة "قوانين" الفيزياء، كما لو كان يمكن أن يوجد أحدهما بدون الآخر، و3) الزعم بأنّ التقدير الكمّي والوضعي للسبب والنتيجة هو في الواقع نوع من التفسير لما يربط بينهما. 4) الدراسة كحالات حقيقية، لامثالية أو مجرّدة، حيث يمكن "التحكّم" في متغيّراتها. 5) اقتراح تصنيفات للأشياء ثمّ افتراض أنّها جواهر للأشياء وليست مجرّد مقاربات مائعة. إنّ إرادة القوة هي نظرية تهدف إلى تصحيح هذه العيوب والنواقص.
يجادل نيتشه بأنّ الجوهر ليس مفهوماً أساسياً، بل نتيجة لإرادة القوة أو أثر لها، أداة أخرى من أدواتها أو لعبة من ألعابها، "تجسيداً" مؤقتاً للإرادة، والذي يبسّط (أو "يزيّف") الطبيعة من أجل أن تمارس الإرادة الأفضل سطوتها. (على سبيل المثال، تحويل شيء ما إلى "ملكية").
وبالمثل فإنّ إرادة القوّة لاتجرّد السبب من النتيجة، لأنّها في الأصل علائقية، موجودة كعلاقة "سلطة-على" أو قوّة مفرطة (وقد مرّت فكرة العلائقية معنا في القسم الأول من الديباجة). ويترتّب على ماسبق، كما يرى نيتشه، أنّ إرادة القوة لا يمكن أن تكون "بذاتها"، وأنّ علاقات القوى غالباً ماتكون محدّدة ومخصّصة، ممّا يجعل أي تجريد أو تشكيل لها موضوعاً بالغ الخطورة. ولذكر العيوب الأخرى باختصار: إنّ إرادة القوّة ليست وصفاً لحدوث شيء ما، بل وصف تفسيري للسبب، كشيء علائقي كلياً، مثلها مثل "متغيّراتها"، ومن المستحيل عزل إرادة قوة بمفردها. كما أنّ إرادة القوة ديناميكية (إنّها تكوّن الأشياء وتحوّلها)، ممّا عني أنّه لايمكن عزلها مع الوقت أيضاً، كهذا النوع أو الفرد أو ذاك.
يجب أن نلاحظ هنا أنّ هذه الأخطاء أو العيوب ضرورية بطريقة ما. وضرورتها بيولوجية في نهاية المطاف: الإنسان الذي لم يزيّف أو يُخَطّئ المظاهر بهذه الطريقة سيكون في وضعٍ غير مؤاتٍ تطورياً.
إنّ "الجوهر" وعلاقة "سبب-نتيجة" هي عيوب فكرية تخلط مابين التشابه والاستمرارية وبين الهوية والقانون العام _وبالتالي يصبح العالَم في الحالة العادية مكاناً يمكن لحياة الإنسان أن تزدهر فيه ("العلم المرح" 110، 112، و121). إنّ موائَمَة الذات مع إرادة القوة _وهي الطريقة التي وصفنا بها الطبيعة الميتافيزيقية للإنسان الأعلى _أمرٌ خطيرٌ جداً، لهذا السبب بالذات إن لم يكن لسببٍ آخر.
الآن الحياة (هنا نقصد الجسد الحي أو الذات) هي نوع من إرادة القوة التي تنعكس علاقات قوّتها على ذاتها. وهكذا لايسعى الكائن الحي لفرض سيطرته أو طغيانه على كائن حي آخر (كما في حالة التنافس على الطعام والمأوى والجنس _وعلى مستوى العقل: على الأفكار والمذاهب أو السلطة السياسية أو المكانة الاجتماعية)، بل أيضاً فرض القوّة على ذاتها. أي أنّها تسعى إلى أن "تَخلق" من نفسها شكلاً جديداً من أشكال الحياة يكون موجوداً كتعبير أعلى أو أقوى عن السيطرة. هذا النوع الجديد يمكن أن يكون فيزيولوجياً بطبيعته (وبالتالي نوعاً جديداً أو جنساً جديداً بالمعنى الحرفي للكلمة)، أو سيكولوجياً (عادات أو تقاليد أو طقوس أو ممارسات جديدة)، أو روحياً (أفكار جديدة، مذاهب، أيديولوجيات سياسية، تقنيات، أعمال فنية، أديان جديدة، وما إلى ذلك). وبالتالي فإنّ إرادة القوة هي الديناميكية الكامنة وراء التطوّر على جميع المستويات. وهذه الحاجة إلى التقدّم والتطوّر نحو شكل أعلى وأكثر قوّة وأكثر اكتمالاً هي _حسب نيتشه_ توصيفاً أساسياً للحياة. إذن يجب أن يكون الإنسان الأعلى هو "الشكل الجديد" للإنسانية الذي يتواءم مع غرادة القوّة من رأسه إلى أخمص قدميه.
قد يعني هذا التواؤم أنّها تفهم وتؤكّد عملية التطوّر المستمرّة هذه (على الرغم من أنّ ذلك يعني بالضرورة "الانحطاط" الفردي أو الجماعي)، علاوة على ذلك، إنّها تُدرك وتؤكّد ذلك باعتبارها إرادة متكاملة مندمجة بالوجود ككل، متّسمة بالتحوّل، والعَود الأبدي كما سنرى لاحقاً. ومن المهم أن نفهم أنّ هذا التقدّم لايحدث بالنيابة عن الأفراد، بل من خلال الأفراد بالنيابة عن الحياة البشرية نفسها، وفي النهاية نيابةً عن الحياة نفسها. وبالتالي يوجد عنصر ديونيزي مميّز هنا: تهدف الذات الفردية كتجسيد للإرادة إلى تجاوز نفسها والتفوّق عليها والاندماج مع الإرادة العامة للطبيعة. ومن خلال التغلّب على الذات وتجاوزها، تسعى الذات إلى موائمة الإنسان الفردي مع الإرادة العامة للطبيعة.
يجب أن نشير هنا إلى أنّه من بين التبسيطات القاتلة التي ينغمس فيها نيتشه هنا تكمن في الإشارة الضمنية بأنّ الجسد أو الذات هما "حاسّة واحدة"، قائد واحد خلف أوركسترا متنوّعة ومتشعّبة، وبالتالي فهما في انسجامٍ تام مع مظاهر إرادة القوة. ومع ذلك، غالباً ما يتحدّث نيتشه عن الذات على أنّها ساحة معركة تتصارع عليها الدوافع (مظاهر متضاربة أو متنافسة) _كما هو الحال في الفصل التالي، "عن صبوات الأفراح والآلام" _وكان ذلك هو جوهر مناقشتنا لصورة الجمل-التحوّل في القسم الأول). ولتعيين هذه الفكرة، سنتحدّث هنا غالباً عن الجسد باعتباره "نظام دوافع".
لدينا هنا الخطوط العريضة لعلم النفس النيتشوي في مبادئه الأساسية، والتي يمكن أن نسمّيها مبادئ "مادية" جذرية في توجّهها المشدّد واللافت نحو الجسد. إنّها نظرة "مادية" لاتنطلق طبعاً بطرح مادة أساسية، كالذرة مثلاً. لذا فهذا القسم ضروري جداً لوضع اسس مفهوم الإنسان الأعلى الذي تتلخّص مهمّته في تعلّم كيفية فهم واستيعاب هذا النموذج النفسي الشامل القائم على سيادة الجسم الحي.
على العموم، يُتَوَقّع الكثير من هذا لاحقاً في النظرية النفسية للقرن العشرين: وبالتالي من الممكن قراءة ذلك باعتباره بياناً مبكّراً لكلٍ من العلوم العصبية (حيث يتمّ فهم على النفس على أساس تركيبة الجهاز العصبي وتنظيم الدماغ وعملياته الكيميائية)، ووجهات النظرية النفسية-الجسدية [السيكوسوماتية] (حيث يمكن أن تحدث الأعراض الفيزيولوجية بسبب حالات نفسية).
يدمج مفهوم نيتشه السيكولوجي تماماً بين علم وظائف الأعضاء وعلم النفس. ويمكننا تقريبه أيضاً إلى المواقف النفسية عند كلٍ من دولوز وغوتاري في عملهما "ضدّ أوديب" أو حتى فلهلم رايخ في عمله "وظيفة الإرجاز" حيث أنّ فكرة الجسد لها نفس الأهمية المركزية.
إبراهيم قيس جركس 2020

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى