بهاء المري - دُنيا.. قصة قصيرة

استعْصَى عليه استيعاب مَوت زوجته، لم يُصدِّق الرَّجُل السِّتينيّ أنه سيعُودَ إلى البيْت ولا يجدها فيه، عاش كابوسًا لم ينته إلا وكانت إلى جواره.
انتهَى العَزاءُ وجُمِعَ السُّرادق، بقِيَ جالسًا لا يريد أن يُغادر مكانه، قضَى ليلتهُ فى بَيْت ابنه الوحيد وبين أحفاده؛ رفضَ اقتراح ابنه بأن يَبقَى معه، قال: إنه سيعود إلى بيْتهِ؛ كان واهمًا أنَّه سيستمر في كابوسه، ولن يتزوج بعدها أبدا، سيكفيه طيفها، وإن كانت الخادمة ستقوم بأعباء البيت.
صمتٌ مُوحِشٌ يلفُّ البَيْت، يَقْطعهُ أحيانًا ثورته في الخادمة كما اعتاد طوال حياته، تَكنُسُ وتُنظِّف وتطبُخ فى صَمْت؛ ومَهْما عَنَّفها لا تعترض، فليس لها من مأوَى إلا بيْته، ثلاثينية كفَلها بعد أن تَسلَّمها من إحدى دور رعاية الأيتام في السنوات الخمس الأولى من زواجه قبل أن يُرزق بولده، وكانت زوجتها تعتبرها ابنتها وتهتم بها وتحبها، قرر في داخله أن تستمر معه وفاء لزوجته، وكانت هي تتحمل ثورته بمناسبة وبغير مناسبة ربما من ذات المنطلق.
شهور قلائل انقضت لم تبدِّد مَللَهُ، صارت الأيام تُشبه بعضها، ما يُصبح فيه يتكرَّر ليُمْسي فيه، حتى تجارته فى حانوته صارت تُشعرُه بالملَل ولا تملأ فراغًا يلازمه.
يصحو من نومه فى القيلولة متوتِّرًا، يجوبُ البيْتَ لا لشيء إلا ليُبدِّد هذا التَّوتُّر، يلمَحُها تُنظِّف بقميصٍ خفيفٍ يكشف عن ساقين مُثيريْن، وصدرٍ نافِرٍ يتأرجَحْ.
لم يُصدِّق ما رأى، وقفَ مبْهوتًا يُسائل نفسه:
- هل هذه هي دُنيا؟ هذه هي التى كفلتها طفلة منذ ثلاثين سنة؟ والتي كانت تلبس ذات الملابس؛ ولم تُضف جديدًا لهيئتها؟ كيف لم أرَ هذه الأنوثة الفوَّارة هذه من قَبْل؟
صراعُ مُباغتٌ يضربُ رأسه، ذِكرَى زوجته، كِبرُ سِنِّه، جسدُها المثير، سِحْرُ حيائها؛ حين أطرَقَتْ وهو يتفرَّسُ إلى جسَدها.
أرْبَكَتْها النظرة، احمرَّ وجهها، ليكتشفَ ذلك البياض الذى أبدتْهُ تلك الحُمرة، يقاوم نظراته، يَنهرُها لارتدائها هذه الملابس، تُجيبه بأنها تلك التى اعتادَتْ من قبلُ أن تلبسَها.
قاوَمَ ما تحرَّكَ في نفسه بتلكَ الغَضْبَةِ المُفتعَلة؛ وعاد إلى غرفته يشْعرُ أنَّ البَيْتَ صار صحراءً مُوحِشة.
انكفَأَ على نفسهِ يُسائلُها، ألا يجب أنْ أتزوَّج لتؤانسَني امرأة أخرى فى وحدتي هذه؟ هل يَدري أحدٌ كم بَقِيَ من العُمْر حتى أقضيهِ وحيدًا هكذا؟ حتى ابْني الوحيد مشغولٌ بأبنائه؛ فهل من الطبيعي أنْ تستمر الحياة على هذه الصورة؟
راوَدتْهُ تلك التساؤلات وأصبح قاب قوسين أو أدنى من الاقتناع بفكرة الزواج مرَّة أخرى، ولكن سرعان ما عاد ليُحدث نفسه بما يَطرد هذه الفكرة المجنونة من رأسه:
- كيف أقترن بزوجة فى نهاية عُمري؟ لا .. لا .. لن يكون ذلك.
لاحظ أنَّ دُنيا زادت من عنايتها به، فوجئ باقتراحها أن تنتقل من غرفتها الملحقة بالحديقة والتي يفتح بابها على المطبخ؛ لتكون إلى جواره في إحدى غرف البيت حتى إذا ما احتاج أمرًا ليلاً تكون في خدمته، اسْتسَحن الفكرة ووافقها عليها.
ولكنَّ تغييرًا مفاجئًا في نَمط حياتها بدا واضحا له، اهتمَّت بزينتها على نحو أكثر من ذي قبل، حسَّنت من هِندامها، لم تعُد تقضي يومها وليلها بجلباب واحد كما كانت عليه سيرتها الأولى في حياة زوجته، وبدأت تظهر رائحة أنوثتها، شغَلهُ الأمر، يُسائل نفسه: هل مُلاحظتي في مَحلِّها، أم أنِّي لا أتذكَّر كيف كانت طبيعتها فيما مضى؟ أم أنَّ أنوثتها التي بدَتْ لي على حين غفلة تُوهمني بما أظنه تغييرًا في سلوكها وهيئتها؟
لم يَستَيقظ من نومه فى اليوم التالي لمنظرها الذي قلَب موازين تفكيره ، نادَتْهُ دنيا فلم يُجِبْ، ظنَّتهُ خرج مُبكرًا من البيت من دون أن ترَه، خلعَت جلبابها وبقيَتْ بقميصها الشفَّاف وبدأتْ أشغالها، حان الدَّوْر على غرفته، دخلَتْ؛ فإذا به مُسْتلقٍ على ظهره شاردًا؛ ينظرُ فى السَّقف إلى لا شيء.
فُوجئ بها أمامه، صدرُها النَّافر مرَّة أخرى كأنه يُطارده، كان يَهتزُّ مع خُطواتها حين استدارَتْ لتُغادر الغرفة، بياضُ جَسدها الذي لم يلْحظهُ من قَبْل، ذراعيها البضَّتين، ساقيها الملفوفتين، خِصُرها الذي لم يَبْدُ له إلا هذه اللحظة، أنوثتها الفائرة كأنها في العشرين من عمرها.
شعرَ بحُمَّى الشَّوق تعصِفُ رأسه، رَعشةٌ ضرَبَتْ جسدهُ كأنَّ تيارًا كهربائيًا مسَّهُ على حين غرَّة، هَبَّ من سريره واقفًا، شَهقَ كأنَّ غُصَّةً تقِفُ في حَلْقة، راحَتْ عيناهُ في رحلةٍ عَبْرَ دهاليز وتضاريس جِسمها.
ناداها آمرًا لتقفَ في مكانها، تَسمَّرتْ، راحت تُلمْلمُ ما يُمكن جَمْعهُ من أطراف القميص من دون جدوَى، كلما جذبَتْ منه جُزءًا لتَسْترَ به مَوضِعًا؛ كشَفَتْ عن غيره أكثرَ إثارة.
حاولَ مقاومة هذه الصورة المثيرة، ولكنَّ صَدرها وحْدهُ صرَع كل سُبُل المقاومة، طغَت أنوثتها وسِحر حيائها على المكان كله، فقدَ السيطرةَ على عقله، جائعًا وجد لحمًا مُضيئًا يشِعُّ من تحت تلك الملابس الشفافة.
كالمَحْموم دعاها إلى فِراشِه، بدلال تبسَّمَت، لم تتحرَّك من مكانها ، بسَط إليها يدَاهُ لتقتربْ، اتَّسَعتْ ابسامتها، اقترب، جَلسَتْ القُرْفصاء، ضمَّتْ ساقيها بذراعيها، بَرز نهْدَاها على نحو أوضَح، غاب عقله، اقترب أكثر، أمسكَ بيدها ليُوقفها، أطرقَتْ، ضغَطتْ بأسنانها على شَفتها، احتضَنها، قهقهتْ، خطوتين وكان فوق السرير كما أراد.
بين أحضانه تُؤدِّي ما كان مَطلوبًا كما ينبغي؛ تتسلَّلُ في هدوء، تُغادر لاستكمال أعمالها.
يَشرد ليُحدِّث نفسه:
- أهذه دنيا؟ أين كانت طوال ذاك العُمر الذي مَضى؟
يَفيق من شروده، زائغ النَّظرات يَمسح بيده على شاربه، يُناديها بصوت يَتهلَّل، تحضُر على الفور، يتفرَّسُها من جديد وهو يبتسم، ترمُقه بلحظها وتضحك ضحكة خافتة، يُقرِّرُ أمرًا:
- دُنيا.
تُجيب مُتدلِّلة:
- نعم
سيَحضُر المأذون في المساء لأتزوجك.
يتجهَّم وجهُها، تصيح غاضبة وهي تُغادر:
- لا!




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى