تماضر الطاهر - بوابة الوسن..

سكبت المزيد من القهوة حتى تتمكن من إكمال قراءة تلك الرواية، لم يفلح الفنجان السادس في إبقاء أجفانها على حالة نشاطهما الصباحي المعتاد، فقد اشرقت الشمس عليها مرتين وهي لم تغادر مقعدها - مطلقاً- إلا لإحضار المزيد من القهوة.
طُلب منها في جمعية الكتاب التي تنتمي لعضويتها، وضع تصور مكتوب لمسار الرواية بالمقارنة مع أعمال أحد الكتاب السابقة، وتسجيل ملاحظاتها النقدية صوتياً في مدة اقصاها ثلاثة دقائق فقط.
كانت الرواية مملة بكل المقاييس، لم تفلح احداثها ولا شخصياتها في التواصل مع ذوقها، وجذبها لقراءة الفصول المتتالية التي تعلوها عناوين باهتة لم يوفق الكاتب في اختيارها مثلما لم يوفق في اختيار اسم الرواية ايضاً.
جاء في جزء من مقدمتها:
رواية من ثمانية فصول، تصور أحداثاً من الواقع، وتعكس ما تتميز به تلك البيئة، وهي بيئة فريدة غنية متنوعة بمكونها البشري وثقافاته، تدور أحداثها في منطقةحارة صحراوية، فكأن شخوص الرواية قد غمست عمداً في طبقة من الشمع لتحمي نفسها من جفاف الأسلوب، أو انغلقت على ذاتها و(تقرطست)، فصارت شوكة حادة تهدد الأخيلة بالخدش أوالثقب. تبدد حماسها للقراءة مباشرة بعد الصفحة الثانية.
من أين اتت النوارس؟
سألت نفسها في ذهول ثم شهقت، واجتاحت حلقها نوبة من السعال، على إثر تسلل مفاجئ لقطرة من القهوة إلى مجرى أنفاسها.
نوارس وسماء زرقاء، ورائحة ندى، بحر يتنفس في وقت السحر، وشمس تتوق للمغيب خلف سنديانة عتيقة!!
عن اي صحراء يتحدث الكاتب؟
أين لهيب الشمس، والحر الخانق وسياط السموم، واشجار (العشر) المظلومة، والعقارب والثعابين، التي تظهر في تلك المناطق كوجه مرعب لما يعقب الموت، ونسر يحلق ليستكشف ثم ينقض لينهش الأجساد المستسلمة لأنيابه، كما يستسلم المريد لتصاريف القدر ويقابلها بابتسامات الشاكرين.
وضعت أكثر اللوم على نوع البن الذي تصنع منه قهوتها، فقد كاد يهزم جودته ويهزمها النعاس، ودخلت بلا إرادة منها عبر بوابة الوسن.
بوابة بيضاوية الشكل ولها إطار مضيء، تشبه تلك الصور الملتقطة حديثاً للثقوب السوداء، يتماوج إطارها في كل اتجاه، فتبدو وكأنها ترقص للنعاس وتغريه على إحكام السيطرة على أجفانها والتقوي للدخول بها لعالم النوم العميق.
تجتمع على جانبي البوابة كل مخاوفها ورغباتها وأفكارها الحديثة ووساوسها.
كان الضوء المنبعث منها هاديء جداً ومحايد، فلا هو شاعري جميل ولاهو باهت يميل إلى الظلمة، مثل الضوء الذي يخرج عبر زجاج سطحة محتشد بالخدوش، ليذكرها بضوء (سهارة) قديمة، كتلك التي توضع في أركان الغرف لتضفي على الليل بعض النعومة، فينام المرء بوجودها وهو في حالة أشبه بالسعادة المقتلعة قسراً من واقع مرير.
ومع أولى خطواتها عبر تلك البوابة، رأت كاتب الرواية وهو يبتسم لها، ويسألها عن رأيها في محتواها
ثم رأت أعضاء اللجنة وهم نيام، والرواية مفتوحة من المنتصف فوق رؤوسهم، وكأنهم مجموعة أهرام سيئة البناء، يتعالى شخيرهم فيذكرها بفوران القهوة وبنها الرديء، والكاتب يبتسم في بلاهة تدفعها للصراخ، فتستيقظ في فزع.
صبت الماء البارد على وجهها، ومقدمة رأسها، ثم غيرت مقعدها بآخر غير مريح، وأخذت الرواية على مضض وعادت للقراءة من جديد.
نجحت في طرد النعاس، وأغلقت بوابة الوسن بكل ما أحاط بها من خيالات وأوهام، وأكملت القراءة دون تذوق او تركيز.
ومع طلوع الفجر كانت قد فرغت تماماً من كتابة ملاحظاتها النقدية عن الرواية، تبقي لها فقط أن تسجلها بصوتها وترسلها لأعضاء المجموعة،فأغلقت باب غرفتها وضغطت على زر التسجيل.
خرج صوتها ككتلة من الغضب المركز، أسقطتها على الكاتب دون شفقة أو رحمة، لم تترك زنبقة ولا نورساً ولا سنديانة عتيقة دون أن تعلق عليها بكلمات قاسية، كادت تخرجها عن الموضوعية تماماً.
استمعت لصوتها عدة مرات، قبل أن تقرر في أمر إرساله.
لم تكن متوترة قط بهذا القدر في المرات السابقة، كانت تستمتع بالقراءة في كل الأحوال، فحتى تلك الروايات والقصص القصيرة التي كانت تردها من صغار الكتاب، كانت تجد فيها ما يشدها ويعينها على دراسة النصوص، والكشف عن ما تحتويه من الأفكار والصور الجمالية، وإظهار معانيها و طرق معالجاتها للقضايا الاجتماعية و الرؤية الفلسفية للأشياء والأحداث، وحتى تلك التي تحتوي على سرد تاريخي وغيرها من ضروب الكتابة القصصية، ثم الحكم عليها وفق معايير النقد التي تفيد الكاتب والقاريء معاً.
اعادت الاستماع لصوتها مرة اخرى، حذفت التسجيل ووضعت هاتفها جانباً وبكت.
،هل كانت قاسية متحاملة على الكاتب؟
هل لأنها تعرف من هو؟
وكيف كان ينافسها في مرحلة دراسية ما؟
هل كانت تحاكم شخصه وخياله وطموحه وحلمه بتغير الحال في قريته الصحراوية، وامله في أن تزورها النوارس ونسمات البحر وتنمو على أرضها هذه الأشجار أو تلك؟
أحست بصغار يجتاح أفكارها، وتذكرت كيف يصاحب الرياء، وتضخيم الأقزام أغلب جلسات النقد، ويتغاضى البعض عن أخطاء كبار الكتاب، فتعبر رواياتهم للعالمية بالصيت والتصفيق والترويج والاحتفالات المصاحبة، فقط لأنه فلان.
أعادت قراءة ما أسقطته على بوابة الوسن، وتنفست بعمق، ثم أعادت الكتابة عن محتوى الرواية.
ضغطت على زر التسجيل، أتاها صوتها كما تمنت، وتحدث بنبرة متزنة تعرفها.



L’image contient peut-être : 2 personnes, texte


11

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى