مقتطف إبراهيم قيس جركس - شرح كتاب فريدريك نيتشه [هكذا تكلّم زرادشت] -15- (عن صبوات الأفراح والآلام)

[SIZE=26px]-15- عن صبوات الأفراح والآلام[/SIZE]

عندما تكون لك فضيلة يا أخي، وتكون تلك فضيلتك، فإنه لن يكون هناك من أحدٍ يقاسمكَ إيّاها.
أكيدٌ أنك تريد أن تسمّيها بإسمٍ وتلاطفها، تريد أن تجذبها من أذنها وتعابثها وتتسلّى معها.
لكن ها أنك تتقاسم إسمها مع الشعب، وها أنتَ قد غَدَوتَ شعباً وقطيعاً بفضيلتك.
كان من الأفضل لو أنك قلت: ((لايحيط به النطق ولا الإسم ذلك الذي يترعُ روحي عذاباً وحلاوةً، والذي هو أيضاً جوع أحشائي))
لتكن فضيلتكَ أرقى من حميمية الإسم: وإذا ما كان عليك أن تتكلّم عنها، فلا تخجل من أن تُلَجلجَ في النطق بها.
فتحدّث ولجلج هكذا: ((هذا مَتاعي أنا، وهذا ما أحبّ، هكذا يعجبني حقاً، وهكذا فقط أنا أريد مَتاعي.
لا شَرعاً إلهياً أريده، ولا قانوناً ولا حاجةً بشريين: لا مُرشِداً يدلّني إلى طريق الجنّة وعوالم فوقأرضية.
فضيلة أرضية هي تلك الي أحبّ: ليس فيها سوى القليل من الفِطنة، وأقلّ ما يمكن من صَواب العموم.
لكنّ هذا الطائر قد بنى عُشّه لَدَيّ: لذلك أحبّه وأعزّه، وها هو يحضن الآن بيضاته الذهبية لديّ))
هكذا ينبغي أن تلجلج وتمتدح فضيلتك.
في ما مضى كانت لك صبوات وكنتَ تدعوها شريرة. أمّا الآن فليس لديك سوى فضائلك، وقد نبتت من صُلبِ صبواتك.
لقد وضَعتَ هدفك الأسمى في قلب هذه الصبوات، وها قد غَدَت فضائلك وأفراحَك.
وسواءٌ أكُنتَ من نوع المغضوبين أو من نوع الشهوانيين أو ذوي الإيمان الساخط أو المتعطّشين للانتقام: فإنّ كلّ صبواتك ستغدو فضائل بالنهاية، وكلّ شياطينك ملائكةً تصير.
في ما مضى كانت لديك كلابٌ متوحّشة في قَبوك، لكنّها تحوّلت بالنهاية إلى عصافير ومغنّيات بأصوات عَذبة.
مِن سُمِّكَ أعدَدتَ لنفسك بَلسَمكَ، قد حَلَبتَ بقرة حُزنك – وها أنت الآن تشرب حليب ضرعها اللذيذ.
لن يتأتّى منك أيّ شَرٍّ بعد الآن، عدا ذلك الشّرّ الذي يتولّد وينمو من اقتتال فضائلك.
إن كنتَ محظوظاً يا أخي، فستكون لك فضيلةٌ واحدةٌ وليس أكثر: هكذا تمضي خفيفاً فوق الجسر.
إنّه امتيازٌ أن تكون لك فضائل كثيرة، لكنه عبءٌ ثقيلٌ، وهناك مَن مضى إلى الصحراء وقتل نفسه لأنّه تَعِبَ من كونه قتالاً وساحة قتال للفضائل.
هل الحرب والقتال شَرٌّ يا أخي؟ لكنّ ذلك ضروري هذا الشرّ، ضروريّ هو الحسد وسوء الظن والثُّلب والافتراء بين فضائلك.
أنظر كم هي متعطّشة كل واحدة من فضائلك إلى نيل أقصى ما يمكن أن تنال، تريد عقلك بكلّيته، تريده أن يغدو المُناديَ بصوتها، وتريد أن تستحوذ على طاقاتك كلّها في الغضب والحقد والحبّ.
غيورةٌ كل فضيلة من كلّ فضيلةٍ أخرى، والغيرة أمرٌ فظيع. حتّى الفضائل يمكنها أن تهلك من جَرّاء الغيرة، هي الأخرى.
والذي التفّ عليه لهب الغيرة يسلك سلوك العقرب التي تنتهي بأن توجّه شوكتها السامّة إلى نفسها.
أما رأيت أبداً فضيلة تشنّع بنفسها وتوجّه شوكتها السامة إلى نفسها يا أخي؟
إنّ الإنسان شيءٌ لابدّ من تجاوزه: لذلك عليك أن تحبّ فضائلك، فهي التي تؤدّي بك إلى حتفك.
هكذا تكلّم زرادشت.
##################################

أبسط ترجمة ستكون لهذا الفصل هي "عن الفرح والمعاناة". ولفهم المعنى الكامن وراء هذا الفصل يجب أن نبدأ من عند عبارة ((في ما مضى كانت لك صبوات وكنتَ تدعوها شرّيرة)). من الناحية التقليدية، هناك معنيان متشابكان لمفهوم الصَّبوة أو العاطفة: أولاً، إنّها انعفال أو رغبة أو اهتمام سلبي وغير فعّال، إنّها انفعال يسيطر عليك بشكل مؤقّت ربما بسبب خارجٌ عنك (ومن هنا جاءت تسمية "آلام المسيح" _أي إذلال المسيح وصلبه).
ثانياً، ترتبط الصبوات غالباً بالجسد (الشهوة على سبيل المثال). ولهذين السببين بالضبط، كانت العواطف أو الصبوات مرتبطة بالشرور والرذيلة. أمّا فكرة نيتشه الجديدة فهي أنّك ((قد وضعتَ هدفكّ الأسمى في قلب هذه الصبوات، وها قد غَدَت فضائلكَ وأفراحكَ)).
النقطة المحورية هنا هي أنّ العَواطف أو الصبوات كانت دائماً نوعاً من المعاناة، في حين أنّ صَبوة الفرح ستكون مجرّد تناقض لفظي. وهكذا فإنّ كلمة Leidenschaften هي كلمة ألمانية شائعة، أمّا كلمة Freudenschaften ليست كذلك، حتى أنّها قد تكون كلمة نيتشوية جديدة صاغها وصكّها من عنده.
يحاول نيتشه في عنوان هذا الفصل أن يلتقط هذا التحوّل العنيف للعقل البشري، من النقطة التي تكون فيها العاطفة مجرّد معاناة سلبية إلى النقطة التي التي تصبح فيها فضيلة مبهجة وفعّالة. ويعزّز الثلث الأول من المقطع هذا الطرح ((عندما تكون لك فضيلة يا أخي، وتكون تلك فضيلتك))... بعبارة أخرى، كلمة "فضيلتك" لن تكون فضيلة تأتيك أو تنزل عليك (كواجب مثلاً) من الخارج، تتطلّب استجابة سلبية من الذات. فما أن تكتسب تسمية، حتى تصبح شيئاً مشتركاً ضمن الحيّز الثقافي للغة _والثقافة تكون دائماً معيارية، مع أو ضدّ، كتعبير عن إرادة القوّة المهيمنة لجماعة ما.
يتشارك الناس لغةً ما لأنهم يتشاركون نمط حياة معيّن، وبالتالي لديهم تجربة مشتركة لعالم يتشاركون فيه كل شيء حتى غدا مألوفاً لهم، ولغة مشتركة كمناقشة الأمور ذات القيمة المتبادلة، يقول نيتشه في كتابه "ماوراء الخير والشر"، شذرة 268، ((ما العامّيّ في النهاية؟ الألفاظ هي علامات صوتية على أفاهيم، أمّا الأفاهيم فهي علامات صورية، قليلة التّعيُّن أو كثيرته، على أحاسيس تتكرّر مراراً ويصاحب بعضها بعضاً، أي على مجموعات من الأحاسيس. وضماناً للتفاهم لايكفي أن يستعمل الناس الألفاظ نفسها، بل عليهم أن يستعملوا الألفاظ نفسها للدلالة على النوع نفسه من التجارب الجوّانيّة أيضاً، وفي النهاية، يجب أن تكون تجربتهم تجربة عامّة يتشاطرونها! لذا يتفاهم أبناء القوم الواحد بصورة أفضل ممّا يفعل أفراد شعوب مختلفة، حتى لو استعملوا اللغة نفسها، أو بالأحرى، بعد أن يتعايش الناس مدّة طويلة في ظلّ ظروف متشابهة _من حيث المناخ والأرض والخطر والحاجات والعمل_ يتولّد عن تعايشهم شيء ما "يفهم بعضهم على بعضهم الآخر"، أي يتولّد قومٌ)).
مرّةً أخرى، إنّ التلعثم أو "اللجلجة" هو اختصار منهجي لنوع الكتابة التي يطوّرها نيتشه والتي لاتقوم فوراً على المفاهيم المجرّدة والمعاني المشتركة أصلاً. لاحظ أيضاً تشبيه الفضيلة على أنّها امرأة وعشيق، مثل هذه التشبيهات شائعة خلال الكتاب وسنتحدّث عن اهميتها لاحقاً.
هذا التحوّل مهم للغاية لأنّه، باعتبار أنّ تجاوز المفهوم السابق عن الفضيلة والصبوة، يُعَدُّ تقدّماً رئيسياً لأفول الإنسان. لذلك، لايساوي شيئاً ضمير "أنتم" الذي يتحدّث إليه زرادشت، بل بالأساس عن "مَنْ" يتحدّث هنا، فالمهم أنّه لَم يَعُد ذلك الإنسان العادي في السوق.
إنّه يتحدّث إلى التلاميذ، لكن طبعاً إنّ المعاناة _سواء بمعنى ماهو مؤلم أو ماهو خارج السيطرة_ لم تخفّ أو تزول. لكنّ الفضائل نفسها، في تنافسها ونضالها وقتالها _كل فضيلة منها_ "تريد عقلك بكلّيته"، وذلك هو الشر.
ومن خلال هذا الصراع والتنافس الغيور يمكن أن تموت بعض الفضائل وتندثر _كما يقترح زرادشت، وبذلك نمط الوجود الإنساني بحدّ ذاته_ وبهذا الشكل بالضبط فهمنا وظيفة تحوّل العقل إلى "جَمَل" في الجزء الأول، القسم الأول.
هناك تنويه أخير من المترجم علي مصباح عن تماهي العسل والحليب في المقطع ((من سُمّكَ أعدَدتَ لنفسكَ بَلْسَمَكَ، قد حَلَبتَ بقرة حُزنك _وها أنت الآن تشرب حليب ضرعها اللذيذ)). يقول نيتشه في كتابه "إنساني مفرط الإنسانية"، الكتاب الخامس، شذرة 292: ((...لم تتعلّم بعد أنّه ليس هناك من عسل أكثر حلاوةً من حليب المعرفة، وأنَّ سُحُبَ الأسى التي تُحَلّق فوقك لابدّ أن تكون بالنسبة لك الضرغ الذي ترتشف منه الحليب الذي يُنعشكَ)). يقول المترجم: نلاحظ أنّ نيتشه يماهي بين العسل والحليب. وهذه فكرة قديمة لدى نيتشه منذ كتاباته الأولى، مثلاً في التعليق على أطروحة تلميذه القديم جاكوب فاكرناغلس "حول أصول البراهمانية" وعلاقة الانتشاء بالمسكرات بحالة الانتشاء الروحي والوَجد والمشاعر الروحانية. وكلٌ من فاكرناغلس ونيتشه يؤكّدان على أنّ الإغريق القدامى لم يكونوا يتناولون المُسكرات من الخمر، بل يجدون نشوتهم في الحليب والعسل. يقول نيتشه ((كان اليونانيون القدامى يعتبرون الحليب والعسل غذاء الآلهة _إذ لم يكن ذلك الزمن زمن شراب خمرة)) [هكذا تكلّم زرادشت، ترجمة علي مصباح، هامش1، صـ79]

إبراهيم قيس جركس 2020
Ibraheem K Jarkass

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى