فؤاد زكريا - الإنسان في فكر سارتر

لم يكن فيلسوفًا عاديًّا ذلك الذي نَعَتْه أسلاك البرق في منتصف أبريل (نيسان) ١٩٨٠، بل كان طرازًا من الفلاسفة يتحدى جميع الصور النمطية التي ترسبت في أذهان الناس عن شخصية الفيلسوف.
كان سارتر أبعد الناس عن صورة ذلك المفكر المتوحد العازف عن صغائر الأمور، المترفع عن المشكلات اليومية، المنصرف بكل طاقته إلى التأمل والنظر إلى الأشياء من موقع رفيع شديد العلو، لا تتكشف فيه الجزئيات أو الدقائق، وإنما تتجلى فيه المعاني العامة والأفكار الشاملة في نقائها وتجردها، فقد كان سارتر إنسانًا مندمجًا في العالم، وفي مشاكله، بكل ما تحمله كلمة «الاندماج» من معنى.
كان في مراحل مختلفة من حياته محاربًا يحمل السلاح، ومُعلِّمًا وأديبًا ومؤلِّفًا مسرحيًّا وصحفيًّا وسياسيًّا، ومناضلًا نشطًا في سبيل قضايا الإنسان، يدافع عن وجهة نظره في المحاكم ويقود المظاهرات، وخلال ذلك كله، لم يتوقف قلمه عن الكتابة بكل أنواعها، ولكن أعماله الكبرى التي بدأت منذ اقترابه من الثلاثين كانت تسير في خَطَّيْن متوازيين: خط الأدب وخط الفلسفة، وكان كلٌّ من الخطَّيْن يكمل الآخر ويفسره، وحين يتأمل المرء خصوبة إنتاجه لا يملك إلا أن يتساءل من أين أتاه الوقت الذي أتاح له كتابة كل هذه المؤلفات التي كانت تمتاز كلها بطابع شخصي فريد؟ وكيف استطاع أن يوفق بين حياته الصاخبة، الحافلة بالأحداث، وبين الاستقرار والهدوء الذي تقتضيه كتابة رواية أو مسرحية عميقة المغزى، أو كتاب فلسفي ضخم شديد التجريد؟ أكان حقًّا يكتب «في المقهى»، كما قيل عنه في أخصب فترات حياته، بعد الحرب العالميَّة الثَّانية مباشرة؟ وكيف يمكن أن ينبثق إنتاج أصيل كهذا من ضجيج المقاهي؟
إنه على أي حال نمط فريد للفيلسوف يمثل القطب المضاد لذلك النمط المنظم المنهجي الهادئ الذي جُسِّدَ في شخص فيلسوف ألمانيا الأكبر «كانت» الذي كان كل شيء في حياته يسير وفقًا لنظام مطرد لا يتخلف، والذي كان يحرص على هدوئه وسكينته حتى لا يعكر شيءٌ برنامجَ حياته المألوف، أجل، لم يكن سارتر فيلسوفًا يضبط الناس ساعاتهم على موعد جولته اليومية، ولم تكن قدماه تدبان بانتظام دقيق في «طريق فيلسوف»، بل كان إنسانًا يتقلب مع الأحداث ويتفاعل مع متغيرات عالم شديد الاضطراب، ولم يكن يملك إلا هذا، فقد كان «محكومًا عليه» بأن يكون ابنًا لعصره.
(١) ليس مجرد مذهب فكري
ارتبط اسم سارتر ﺑ «الوجودية» إلى حد اعتقد معه بعض الناس — من غير المتخصصين — أنه مؤسسها وفيلسوفها الأكبر، وحقيقة الأمر أن سارتر هو الشَّخصيَّة الكبرى في الوجودية الفرنسية، على حين أن هذا الاتجاه الفلسفي كان له مثلوه الكبار منذ أواسط القرن التاسع عشر، في الدنمرك وألمانيا، وحتى في فرنسا لم يكن سارتر أول الفلاسفة الوجوديين، ولكنه كان بغير شك أهمهم وأشهرهم، ويذكر الكثيرون، ممن ينتمون إلى جيل الكبار، ذلك الطابع الخاص، اللافت للنظر الذي اتخذته الحركة الوجودية في فرنسا ثم في بلدان أوروبية عديدة، بعد الحرب العالميَّة الثَّانية كانت أفكار سارتر تسري بين الشَّباب الفرنسي، والأوروبي بوجه عام، بوصفها التعبير الصادق عما يحس به الإنسان المنتمي إلى شعب طحنته الحرب وأفقدته الكارثة كل إحساس بما في العالم من حكمة وتناسق وجمال، ولعل الكثيرين من هؤلاء الشبان لم يفهموا أفكار ذلك الفيلسوف حق الفهم، ولكنهم تعلقوا بها؛ لأنهم وجدوا فيها «طريقة للحياة»، لا مجرد مذهب فكري نظري، وسرعان ما ظهرت بينهم «ملابس وجودية» ومقاهٍ ومنتديات «وجودية»، بل وأسلوب «وجودي» في الأخلاق والحديث والتعامل مع الناس، أصبحت الحركة «موضة» وبقدر ما أفادها ذلك في الانتشار على أوسع نطاق، فقد أساء إليها إذ شَوَّهَ أفكارها وغلَّب مظاهرها السطحية على جوهرها الحقيقي، وبعد أن خفت آلام الحرب وبدأت ذكرياتها السوداء تتباعد عن أذهان الناس، انحسرت الموجة الجارفة، وبدأت الحركة تعود إلى حجمها الأصلي، بوصفها فلسفة تعبر عن نظرة معينة إلى الإنسان والعالم، وليست بالضرورة أسلوبًا كاملًا في الحياة، كما بدأ الناس يدركون أن الوجودية، وإن كانت قد اشتهرت في فرنسا على يد سارتر، كان لها ممثلوها الأقدم منه عهدًا بكثير، وكانت نشأتها الأولى في بدلان غير فرنسا فضلًا عن أن لها اتجاهاتها المتعددة التي يصل الاختلاف بينها أحيانًا إلى حد التعارض.
ولكن على الرغم من هذا التباين الشديد بين مجموعة الاتجاهات الفكرية التي يُطلَق عليها اسم جامع هو «الوجودية»، فلم يكن من الصعب أن يدرك الناس تلك السمات المشتركة التي يتجمع بينها كلها، وأهمها ارتكازها على الإنسان، وبخاصة في تلك الجوانب التي كانت تهملها الفلسفات التَّقليديَّة، فقد كانت الفلسفات السابقة تتعامل مع الإنسان بوصفه «عقلًا» فحسب، وحتى حينما كانت تتحدث عن العواطف والانفعالات والقيم، كانت تعالجها بطريقة عقلية خالصة، كانت تجرد الإنسان من وجوده الحي الملموس؛ لكي تستبقي منه هيكلًا عقليًّا خلا من كل نبض، ومن هنا فقد جاءت الوجودية لكي تُضيف بُعدًا جديدًا تجاهلته الفلسفات التي سبقتها: هو البُعد النابض بالحياة في الإنسان، فهي تتابع رحلة الإنسان بطريقة تتيح لكل مِنَّا أن يتعرف عليها في نفسه، وتقدم إلينا صورة للإنسان بلحمه ودمه ومشاعره وضعفه وقوته، وتصف أحوال حياته اليومية، وهمومه في موقع زمني محدد، أمَّا الإنسان الأزلي الذي لا يتغير ولا يتحول، الإنسان الذي هو «عقل خالص»، فلا شأن لها به.
(٢) الإنسان محورها وهدفها
وتتمثل هذه السمة أوضح ما تكون في فلسفة سارتر التي وصفها هو نفسه بأنها «نزعة إنسانية»، وكان يعني بذلك أن محورها وهدفها هو الإنسان بالمعنى الذي حددناه من قبل، ولقد لُوحظ في تاريخ الفكر أن الفلسفات تعود في أوقات الأزمات الكبرى، أو في نقاط التحول الرئيسية إلى الإنسان، ولعلنا لاحظنا شيئًا من هذا القبيل في وطننا الْعَربي بعد هزيمة ١٩٦٧، حتى انهال سيل من الكتابات والبحوث التي تحاول كلها أن تدرس الإنسان الْعَربي وتتعمق في نظرته إلى الحياة وأسلوبه في التفكير وجوانب القصور في تربيته وتكوينه العقلي وطريقة معالجته للأمور، مثل هذا الانسحاب إلى الداخل يبدو أمرًا طبيعيًّا حين يمر مجتمع بأزمة طاحنة تزعزع أسسه وتدفعه إلى مراجعة مواقفه من الجذور، وأغلب الظن أنَّ شيئًا من ذلك قد حدث في فرنسا قبل الحرب العالميَّة الثَّانية مباشرة، وأثناءها وبعدها، وكانت وجودية سارتر هي المظهر الفكري لعملية الانطواء على النفس وتأملها من الداخل في فترة المحنة هذه.
ومما يدل على أن الأزمة التي عانى منها المجتمع الأوروبي — والفرنسي بوجه خاص — في تلك الفترة الحاسمة من تاريخه كانت وراء اتجاه سارتر إلى تركيز فلسفته على الإنسان، وأن محاسبة النفس في وقت المحنة كانت عاملًا حاسمًا في تحديد معالم هذا الاتجاه، أن المجتمع الأوروبي نفسه قد عرف في أوقات التفاؤل والإحساس القدرة على إخضاع كل شيء للمنهج العلمي الدقيق فلسفات هامة ترتكز أساسًا على مفاهيم مستمدة من العلوم الطبيعية أو الرياضية، وتدرس ذات الإنسان من خلال هذه المفاهيم، ولكن سارتر لم يكن يؤمن أصلًا بهذا الاتجاه، وكان من أولئك الذين ظلوا يعتقدون إلى النهاية بأن الإنسان مختلف في جوهره عن العالم؛ ومِنْ ثَمَّ فإن طريقة فهمه والنفاذ إلى كيانه الباطن ينبغي أن تختلف عن تلك الطرق التي تصطنعها العلوم من أجل فهم الطبيعة. صحيح أن الإنسان — بمعنى ما — جزء من الطبيعة، ولكن أهم ما فيه لا يخضع للقوانين التي تسري على الطبيعة؛ ومِنْ ثَمَّ فإن الاستبصار الفلسفي والنفسي يظل هو وحده القادر على التعبير عن أعمق ما في الإنسان، ويكتمل هذا الاستبصار بنواتج الأدب والفن والإنسانيات، فهذه كلها هي وسيلتنا للكشف عن أغوار الإنسان والوصول إلى تلك الأعماق التي يستحيل أن تنفذ إليها أي دراسة تعتمد على الأساليب المتبعة في العلوم الطبيعية أو الرياضية، ومجمل القول أن الوصول إلى «الذات» البشرية يحتاج إلى طريقة في المعالجة تختلف عن تلك التي نعالج بها «الموضوع»، ومن هنا كانت فلسفة سارتر في أساسها فلسفة ﻟ «الذات».
(٣) الإنسان والجبل!
لم يكن من المُستغرَب إذن أن يكرس سارتر جزءًا كبيرًا من جهده الفكري، سواء في كتبه الفلسفية وفي إنتاجه الأدبي، للبحث عما يميز طريقة وجود الإنسان وما الذي يجعله «ذاتًا» متفردةً عن الطبيعة، فنحن نقول عن الحجر المُلقى في الطريق أو الجبل الراسخ في مكانه إنه موجود، ونقول عن الإنسان الحي أيضًا إنه موجود، ولكن من المؤكد أن هناك فرقًا أساسيًّا بين الاثنين، فما هو؟ إن الأوَّل «وجود في ذاته»، والثَّاني «وجود من أجل ذاته»، وبرغم الصعوبة الظاهرية التي قد يجدها القارئ في هذه المصطلحات، فإن الفكرة واضحة كل الوضوح، فالأشياء موجودة في ذاتها بمعنى أنها منطوية على نفسها، يستهلك وجودها كله في تلك الصفات التي تكون عليها في أي لحظة معينة، أمَّا الإنسان، فلا يمكن أن تستنفد جميع أبعاده في أي لحظة بعينها، ولا يمكن أن تحدد سماته كلها من خلال مجموعة من الأوصاف الجاهزة المعدة سلفًا؛ ذلك لأن الإنسان هو — قبل كل شيء — «مشروع» يتجه نحو المستقبل ويستهدف تحقيق غايات يرسمها مقدَّمًا، وهذا الاتجاه الدائم نحو ما لم يتحقق بعد، هو سمة أساسيَّة تميز وجود الإنسان، وتفرق بينه وبين وجود الأشياء، فوجود الإنسان غير مكتمل، وعدم اكتماله هذا صفة إيجابية فيه وليس مظهرًا للنقص؛ لأنه لو كان مكتملًا لأصبح كالحجر الذي اكتسب جميع صفاته ويستحيل أن يغير فيها شيئًا.
(٤) وجود الإنسان يسبق ماهيته
لقد أوضح سارتر هذا الطابع المميز للإنسان في عبارة أصبحت مشهورة في الفكر الفلسفي، وهي أن «وجود الإنسان يسبق ماهيته»، والمقصود بالماهية هو تلك الطبيعة الأساسيَّة التي تميز جوهر أي شيء ولا يُعرَف إلا بها، وعلى ذلك فإن معنى عبارة سارتر هذه هو أن الإنسان يتميز عن سائر الكائنات بأنه لا يملك طبيعة جوهرية ثابتة تتشكل على أساسها حياته وطريقة وجوده، بل إنه يوجد أوَّلًا، وتتخذ حياته طابعًا معينًا ويظل يكتسب صفاته المميزة له من خلال أفعاله والطريق الذي اختار لحياته، وبعبارة أخرى فإن ما يقيد مسار بقية الكائنات، ويحكم عليها بألا تتحرك إلا في أضيق الحدود، لا يؤثر على الإنسان الذي تُتاح له بدائل لا حدَّ لها، ويصنع طبيعته بنفسه، إن جاز هذا التَّعبير، ومن هنا قال سارتر موضِّحًا فكرته هذه في كتاب «الوجودية نزعة إنسانية»: «إنَّ الإنسان يوجد أوَّلًا ويواجه ذاته ويقذف به في العالم ثم يعرف نفسه فيما بعد، والسبب الذي يجعل الإنسان — في نظر الفيلسوف الوجودي — غير قابل للتعريف هو أنَّه في البدء لا يكون شيئًا، ولن يُصبح شيئًا إلا فيما بعد وعندئذٍ سيكون ما يصنعه بذاته.»
على هذا النَّحو تخلى سارتر عن تراث فلسفي كامل كان يضع للإنسان طبيعة محددة المعالم، أو جوهرًا ثابتًا يتحكم في تشكيل كل فعل يقوم به ويصبغ وجوده بصبغته الخاصة، كما تخلى سارتر عن كل محاولات الفلاسفة المتأثرين بالعلم في تفسير الإنسان كما لو كان نتاجًا للطبيعة، يسري عليه ما يسري عليها، وركز جهده على كشف ما يتفرد به الإنسان، وما يختلف فيه «وجوده» عن وجود أي كائن آخر.
هذه النظرة الخاصة إلى وجود الإنسان هي التي أدَّت إلى تأكيد معنى «الحرية» في فلسفة سارتر؛ ذلك لأن قدرة الإنسان على صنع وجود بنفسه، تعني أن أمامه إمكانات لا متناهية وأن عليه أن يختار مساره، ويختار بذلك ما يكونه وما يصبحه، في كل فعل يقوم به، فالحرية هي قدر الإنسان الذي لا يستطيع أن يهرب منه، وهي الشيء الوحيد الذي لا يمكن أن يكون الإنسان «حُرًّا» في رفضه أو التهرب منه، وهكذا استطاع سارتر أن يقول في لغة لا تخلو من المفارقة إن الإنسان «محكوم عليه» بالحرية، ولكن هذه الحرية تحمل في طياتها مسئولية فادحة؛ إذ إنَّ الإنسان حين يتخذ قرارًا ما أو حين يختار واحدًا من الممكنات المتاحة أمامه إنما يختار نوع الوجود الذي يريده لنفسه، ويُضفي على عالمه المعنى الذي يريده.
(٥) الإيمان الزائف
إزاء هذه المسئولية الفادحة، لا بُدَّ أن يستشعر الإنسان «القلق»، وهو يرى نفسه كائنًا محدودًا تُتاح أمامه إمكانات لا نهاية لها، والقلق هنا تعبير عن وضع الإنسان أو موقفه، وليس مجرد حالة نفسية يمكن التغلب عليها بالنصح أو العلاج أو التحليل، إنه ذلك الوضع الذي يظل ملازمًا لكل إنسان يدرك معنى انفتاح المستقبل أمامه، ويرى تلك الهوة السحيقة التي تفصل بين قدراته المحدودة وبين الإمكانات الهائلة التي يتعين عليه الاختيار بينها، ولا شك أن كثيرًا من الناس يتجنبون هذا القلق عن طريق الانشغال بأمور حياتهم اليومية، فيوهمون أنفسهم بأنه لا يحتل مكانًا في حياتهم، ولكن القلق جزء لا يُجْتَزَأ من وعي الإنسان وإدراكه لطبيعة وجوده، ومهما هربنا من ذلك «الإيمان الزائف» الذي نتصرف في ظله وكأننا لسنا أحرارًا، ونتعامل مع العالم وكأننا «أشياء» في هذا العالم، فإنه لا بُدَّ أن يعاودنا في مواقف الاختيار الحاسمة وهي مواقف لا تخلو منها حياة أي إنسان.
فماذا يمكن إذن أن يكون نوع الأخلاق التي يدعو إليها مفكر مثل سارتر، يؤكد خصوصية الإنسان وذاتيته إلى هذا الحد؟ لا جدال في أن مثل هذه الأخلاق لا بُدَّ أن تكون مختلفة اختلافًا أساسيًّا عن تلك المذاهب الأخلاقية التَّقليديَّة، التي يجد فيها الإنسان قيمًا أخلاقيةً جاهزة يتعارف عليها المجتمع، وكل ما يتعين عليه عمله هو أن يعرف كيف يطبقها على سلوكه بطريقة سليمة متناسقة مع نفسها؛ ذلك لأن الإنسان عند سارتر هو الذي يضع قيمه الخاصة، وهو يحدد بنفسه القاعدة والمعيار اللذين يسلك وفقًا لهما، لكن هذا لا يعني على الإطلاق أن يتحلل المرء من كل أساس للسلوك ويستبيح لنفسه كل شيء بحجة أن هذه قيمه ومعاييره الخاصة؛ ذلك لأن الشعور بالمسئولية هو الضابط وهو الضمان في عالم لا نستطيع أن نحتمي فيه بقيم تعلو علينا وتتجاوز نطاق اختيارنا الحر، ففي كل اختيار أقوم به أكون ملتزمًا، وأُلزِم معي البشرية كلها، وفي كل فعل يصدر عني أحدد نوع الإنسان الذي أكونه، ونوع العالم الذي أريد أن أحيا فيه.
(٦) معارك سارتر
إلى هذا الحد تبدو فلسفة سارتر «فردية» تمامًا، حتى بالرغم من كل ما قاله عن المسئولية والالتزام؛ «لأنَّ هذه هي مسئوليتي تجاه ذاتي في نهاية الأمر»، وهكذا تبدو فلسفته مغامرة فردية لا تخلو من الشَّجاعة المأسوية، يتحمل الفرد فيها أعباء أفعاله وقراراته، ويلتزم بها إزاء نفسه، ويشكل حياته وفقًا ﻟ «المشروع» الذي يختطه لها، وبالفعل كان هذا الطابع الفردي هو السائد في فكر سارتر خلال مراحله الأولى، ومن أجله دخل معارك عديدة مع كل مذهب قديم أو حديث يحاول أن يبني فلسفة تتجاوز نطاق الذات الفردية وتُدمجها في كيان أوسع، وبلغ الأمر بالنزعة الفردية عند سارتر حدًّا أصبح يرى معه أن «الجحيم هو الآخر»، ويُغرق نفسه في تحليلات معقدة للعلاقة بين وجودي ووجود الآخرين وتأثير حضور الآخرين فيَّ ونظرتهم إليَّ، وكيف أن هذه النظرة تفقدني إحساسي بتفردي وخصوصيتي وتحيلني إلى «شيء»، وكلها تحليلات تدل بوضوح على أن سارتر لم يكن يتجاوز، في تلك المرحلة نطاق الذاتية الخالصة.
على أن أمانة سارتر الفكرية جعلته يزداد إدراكًا بالتدريج لأهمية العوامل الاجتماعيَّة، حتى أصبحت هذه العوامل تلعب دورًا ملموسًا في فلسفته المتأخرة، فقد أدرك أن استقلال الإنسان الأخلاقي، وحريته ومسئوليته، يمكن أن تهدد وتنهار كلها في ظل ظروف معينة، كمعيشة المرء في مجتمع استغلالي مثلًا، وهكذا أخذ يزداد وعيًا بأن مفاهيم «الحرية» و«المسئولية» و«الاختيار» لا تعني شيئًا بدون السياق الاجتماعي الذي تُقال فيه، وبأن «الأخلاق» ليست مغامرة فردية بطولية بقدر ما هي ممارسة ذات أبعاد اجتماعية يستحيل تجاهلها، وكان من نتيجة هذا الوعي المتزايد بالأبعاد الاجتماعيَّة للشخصية الإنسانية أن ازداد اقترابًا من الماركسية، بعد أن كان حتى نهاية الحرب العالميَّة الثَّانية، خصمًا عنيفًا لها، وهكذا بدأت كتابات سارتر تستخدم المفاهيم الماركسية استخدامًا متزايدًا، وتجاوز — إلى غير رجعة — مرحلة العداء السافر الذي عبر عنه تعبيرًا صريحًا في مسرحية «الأيدي القذرة».
(٧) حرية الإنسان
ومن المؤكد أن الممارسات العملية قد لعبت دورًا حاسمًا في إحداث هذا التغير؛ ذلك لأن الدور الإيجابي الذي قام به سارتر من أجل مساندة حركات التحرير في الجزائر وفيتنام وأفريقيا السوداء، قد أقنعته بأن حرية الإنسان ليست «وضعًا» أو «موقفًا» يجد نفسه فيه، وإنما هي شيء يُكْتَسَب ويُنْتَزَع بعد كفاح طويل، صحيح أنه لم يتخلَّ تمامًا عن النوع الأوَّل من الحرية، ولكنه أخذ يزداد إدراكًا بأن النوع الثَّاني هو الأهم، وهو الذي يمكن أن يقضي فقدانه على جميع إمكانات النوع الأوَّل، ففي ظل أوضاع اجتماعية معينة — كأن يعيش الإنسان خاضعًا لاستعمار أو لدكتاتورية سافرة أو لاستغلال اقتصادي بشع — يمكن أن تضيع تمامًا قيمة تلك الحرية التي يعتقد الإنسان أنها تميزه عن عالم الأشياء، ويضيق تمامًا نطاق الإمكانات التي تتيح له ممارسة قدرته على الاختيار واستشعار المسئولية عن أفعاله، وهكذا تبين له أن الحرية الفردية تفترض شروطًا وليست على الدوام شيئًا محكومًا علينا به، وتبين له أن هذه الشروط ذات طبيعة اجتماعية قبل كل شيء.
وهنا نجد أنفسنا إزاء سؤال أساسي: «هل كانت فلسفة سارتر إذن تتحدث عن «الإنسان» بوجه عام أم عن إنسان معين يعيش في ظل ظروف وأوضاع معينة؟» لقد تصور سارتر في المراحل الأولى من تفكيره، أنه يصف وضع الإنسان، بالمعنى المطلق لهذه الكلمة، ولكن إدراكه المتزايد لتأثير العوامل الاجتماعيَّة في هذا الوضع الإنساني كان لا بُدَّ أن يؤدي به إلى تحديد أدق لنوع الإنسان الذي تتناوله فلسفته، وبقدر ما يمكننا أن نحكم فقد كان سارتر يتحدث في كتاباته الفلسفية، لا عن الإنسان بوجه عام، بل عن الإنسان الأوروبي المغترب في ظل أوضاع المجتمع الصناعي المعقد، بما فيه من أزمات وحروب ونظم حكم تسلطية أو ديمقراطية هشة.
(٨) إنسان سارتر
ولو أمعنَّا النَّظر في مقولات سارتر الفكرية لوجدنا أنَّها لا تعني الشَّيء الكثير بالنسبة إلى إنسان العالم الثَّالث، فالقلق والاغتراب و«الجحيم هو الآخر»، كلها مفاهيم تعني الكثير لدى الإنسان الأوروبي في مرحلة معينة من تاريخه، ولكنها ليست مقولات إنسانية عامة كما أراد لها سارتر أن تكون، وأبسط مثال على ذلك: أن إنسان العالم الثالث والإنسان العربي على وجه التحديد، يمكن أن يدرس معاني الحرية والاختيار والمسئولية على النحو الذي حددها به سارتر، ولكنه لا يستطيع أن يستشعرها في ذاته ويعيشها بوصفها جزءًا من تكوينه الفكري الخاص؛ ذلك لأن الإنسان في هذه المجتمعات يندمج في جماعات كثيرة، كالأسرة والأصدقاء والجماعة الدينية … إلخ، ويرتبط بها إلى الحد الذي تسمح له بأن يشعر بذاته بوصفه فردًا ذا مسئولية مُطلَقة عن كل ما يفعل ولا تدع له مجالًا للشعور بذلك الفراغ المخيف الذي يحس به إنسان سارتر أمام ممكنات المستقبل، وليست المسألة هنا مسألة تفضيل بين هذا الإنسان وذاك، وإنما هي مسألة نمط مختلف من أنماط الوجود، لا يكون فيه لمفاهيم سارتر معنى واضح يعبر عن خبرة مُعاشة، ومن هنا كان الحديث عن «وجودية عربية» أو «إسلامية» — في رأيي — تعبيرًا يجمع بين أطراف لا تناسق بينها.
إن مفاهيم القلق، والحرية «المكتوبة على الفرد»، والاختيار المطلق — يمكن أن تُفهَم وتُستوعَب بسهولة في المجتمع الغربي الرأسمالي، حيث الأسرة الصغيرة التي يستقل أفرادها ويتحملون كافة مسئولياتهم منذ وقت مبكر، وحيث يطلب إلى المرء أن يتولى المسئولية الكاملة عن حياته وعمله وتعليمه ومرضه في ظل نظام «الأعمال الحرة» الذي يتركك وشأنك في أهم أمور حياتك، وحين يقترن هذا النظام بالأزمات الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والحروب المدمرة أو التهديد المستمر بالفناء والعيش على حافة الهاوية، ويكون للمفاهيم الوجودية معنًى لا يدركه العقل وحده، بل يجربه الإنسان ويعايشه.
وهكذا كانت الوجودية عند سارتر — وعند غيره بطبيعة الحال — ذات بُعد اجتماعي لا يمكن تجاهله، حتى لو كانت هي نفسها تنكر هذا البعد، وحتى في الحالات التي تعبر فيها المفاهيم الوجودية عن رفض للمجتمع الذي ظهرت فيه، أو عن تمرد عليه، فإن هذا الرفض أو التمرد، إنما يمثل رد فعل على هذا المجتمع، منطلقًا من داخله، ولا معنى له إلا في إطاره.
وإذن فقد كان سارتر — في نهاية المطاف — ابنًا لعصره وحضارته، وفي هذا الإطار وحده تكتسب فلسفته معناها الكامل وتتضح دلالة المواقف التي انفرد بها بين مفكري عصره، سواء منها مواقفه الإيجابية، كتأييده لحرية إنسان العالم الثالث في وجه الاستعمار الأوروبي والعدوان الأمريكي، أو مواقفه السلبية، كتردده وممالأته — كما فعل معظم الأوروبيين — في إصدار حكم قاطع لصالح الأعداء في الصراع العربي الإسرائيلي.
*
مقال منشور في مجلّة: العربي، العدد ٢٥٩، يونيو ١٩٨٠م.
أعلى