طلحة محمد - أحجيات مناضل

وجدته شاحب الوجه مستلقيا تحت الدّوحة(شجرة أبي عبد الله ) كما يلقّبونها هناك في أعالي جبال قطيّة ، ممدّدا رجليه النّحيفتين يصطاد بهما قيظاً صباحياً ليطرد برد الزّمان الكاسح الذي لاحقه في وهنه، فاتحا على ترائبه ذات اللّون الأبلق التي صار يعدّها ويتتبّعها بسبّابته بعد أن قلّ لحم جسده . يحيط به قطيع من الماعز مختلف الاجناس الذي ما يكفّ يستذكر به حيف الضّابط الرّومي الذي قايضه عنوة على قطيع مماثل بعلب من الجبن والتّونة التي ألقت فرحا عارما على قلوب الصّبيان حينها إلا انّ إحدى عجائز الدّشرة ألقت بها كلّها في المطمورة خوفا على الأطفال من التسمّم .
يتراقص على أنغام صيحاته المتكرّرة قطيع من الجديان بقفزات بهلوانية توحي بالنّشاط الصّباحي، تعتلي أحد أغصان الشّجرة الكبيرة قربة ماء نمير موشحة برائحة القطران يعود جلدها لحولي مقّاط ذو لون بنّي مرصّع باللّون الأسود ، كان لا يزال يجترّ ذكرياته مع الاستعمار، تتسلّل إلى ذاكرته ضربة الكلاشينكوف التي كسرت فكّه و ألقت به سجينا لمدة معتبرة دون أن ينطق ببنت شفة مكرّرا أجوبته في الاستجوابات المتتالية على اختلاف من يسديها له ، منكراً أنّه يساعد جيش التحرير الوطني بمعرفته للجبال والوهاد والوديان ، يتسرّب وَسَنٌ طفيف لعينيه فيطرده برفع حاجبيه الغليظين مستنكرا لغفواته .
استوقد نار شوقٍ بداخله حين تذكّر صديقه الحصيف الذي رافقه إلى ''متّيجة ''حين خيّم عام الشّر وألقى بركائزه غير مبال بالظّروف العصيبة التي يمر بها الوطن فقضى على الأخضر واليابس ليعملا هناك في الفلاحة عند ''القاوري'' الذي أصبح مَوْئِلَ الكثير من ''الخمّاسين '' بسبب معاملته المحترمة لهم ولا مفرّ لهم أيضا من ذلك فقد رمت بهم نوائب الدّهر على كفّه الغَدِق.
ظلّ ذلك الكابوس ينخر في ذاكرته ليتسبّب له في أسىً مجرّد من النّسيان ، هنا استفاق من لا وعيه وارتكز على يديه مطلقاً العنان لسيادته ويصدح بأعلى صوته " يا طفل رد الضحيّة " وراح يردّدها ليلوح صداها في أفق الجبل ، ترافقها ''غايطة " بشّولي " لتصدر نغما بدويا متناسقا.
عاد الأطفال مع القطيع ليأخذوا استراحتهم و يرووا عطشهم ، صعدوا إلى الدّوحة ثم انحنوا على رأس سيدي الطاهر كما يحلو له أن ينادوه مقبّلين لرأسه، ليبدأ في سرد أحجياته التي تتسرب إلى باطنه كلما انفرد بأبنائه أو أحفاده .
بدأ في كلامه الحثيث عن حادثة أليمة تركت أثرا بليغا في قلبه عندما جاست مجموعة من ''الخاوة '' يترأّسهم ضابط من جيش التحرير الوطني وسط الجبل قاصدين سي الطّاهر الذي وجدوه بانتظارهم فأسرع في إدخالهم إلى ''الخالفة ''وذبح لهم فحلا من قطيعه كحفاوة استقبال وليستريحوا من نصبهم . لم يكفّ الضّابط سي بلقاسم بطرح الاسئلة الكثيرة على سي الطاهر متسارعا مع الزمن ليعرف ما جرى من أحداث في المنطقة، ثم باغته دون كلل موجّها له أمرا: ستكون لك مهمّة مغايرة عما سبق من المهمّات . اعترى سي الطاهر ذعر وأجاب دون تفكير : ''راني واجد '' ردّ عليه سي بلقاسم : هذه المرّة ستحمل السّلاح وتمضي معنا . امتزج بداخل سي الطاهر شجاعة وجبن سقاه حنين لولده البكر الوحيد الذي مازال في مهده. انكسر شموخه المعتاد ودخل إلى البيت وأحضر ولده ليترجّاهم به علّهم يعفونه من هذه المهمّة ، قفز الضّابط من مكانه ورمى الصّبي أرضا كأنّه جماد غير مكترثٍ لروحه، وصاح بأعلى صوته اليس لنا أبناء ؟....اليس لنا أبناء ؟ سكت سي الطّاهر وأراد ان يحسن التصرّف لينجو بنفسه. وقال يا سي بلقاسم اعفني من هذه المهمّة ولك ان أدلّك على الحركي المبحوث من طرفكم ، انطلق وجه سي بلقاسم وعاد إلى مزاجه أخيرا ثم أجاب ليس لدينا وقت فلنمض قبل ان يدركنا النّهار . خرجوا مسرعين تتبعهم لالا مسعودة لتمحوا آثارهم بغصن من الصّنوبر حتى ابتعدوا عن المكان .
واصلوا مسيرهم دون توقّف في ديجور شديد بين أحراش الوديان يتقدّمهم سي الطّاهر بخطوات حذرة ومتثاقلة كجندي أتمّ تدريبه للتّو منتصبا بقامته يلتفت يمينا وشمالا ويسدي تعليمات للخاوة ، يدلّهم على الطّريق الخالية من الاخطار ملتزما بحمل هذه الامانة الثّقيلة. بقوا في تِعداد خطواتهم ناقمين على سي الطّاهر حتّى لاح الفجر خيوطه الأولى وأخذ الضّباب دور الظّلام الدّامس ، يتصاعد بخار من أنفاسهم ليلقي على أيديهم القليل من الشّفقة وسط برد شديد . توقّف سي الطّاهر وخاطب سي بلقاسم بصوت خافت ''ياو عليكم '' وأشار بحاجبيه، لم يجبه سي بلقاسم وأسرع كعادته وأخذ مكانه من جديد يتقدّمهم إلى أن وصل البيت الذي يسكنه الحركي يتبعه سي الطّاهر مندهشا من شجاعته وعزيمته . دخل من الباب الخلفي للبيت ليجد الحركي نائما فسلّ سكينه وذبحه وسط عائلته دون اكتراث وتابع سيره. وقف سي الطّاهر فَزِعاً فاقدا لحركاته لبرهة ثمّ استفاق وعاد أدراجه مهرولا متناسيا فضاعة الحدث .
سكت لبرهة يتملّكه حبّ طاغ وعميق وشوق لرفاقه الذين لقوا حتفهم آنذاك ثم ّ بدأ ينهر أبناءه ويسدي لهم نصائح موحشة قد تجاوزها الزّمن ليأخذوا العبرة فيذكر لهم موقفه مع " القاوري " الذي يعمل سقّاءا في مروج "متّيجة" عندما نال منه العطش فطلب منه كأسين فلم يظفر إلا بواحد حينها أخذ الثاني منه عنوة وضربه وترك دما كثيرا يلطّخ وجهه لينتصر لزملائه ، حينها توقّف الكل عن العمل في انتظار ما سيؤول إليه الوضع .
وبسرعة فائقة جاء " الكوموندو " صاحب المشتلة على سيارة مكشوفة من الأعلى يعتليها السائق وحارس يقف وسطها دون أن تزعزعه حركاتها وسرعتها . توقفت السّيارة عند طرف المشتلة ونزل "الكوموندو " يتلو عبارات بالفرنسية غير مفهومة إلا أنّها تدلّ على انزعاجه الكبير فتوجّس الكل خيفة منه وانسحبوا إلى الوراء وبقوا مشرئبّين بأعناقهم وكأنهم في انتظار خطاب تاريخي.
عند وصول المترجم قام بنهرهم وأمرهم بالإنصات ثمّ قال : "شكون قايم الزازة " رفع سي الطاهر يده وتقدّم بحذر فسأله "الكومندو " على لسان المترجم لماذا ضربت السّقّاء؟ فأجاب سي الطاهر : لقد طلبت منه المزيد من الماء فسبّني وسبّ الله ، تقدّم ''الكومندو'' من السّقاء ولطمه وأمر بسجنه منصفا سي الطاهر مسديا له مهمّة السّقي بدلا منه .
آلمته كثيرا هاته الدّمدمات الناّبعة من صدره التي أيقظت ماضيه بقوّة فتملّكه حنين جارف لايّام شبابه وقال : يا "ودّادي" في وقتنا حتى الحيوانات كانت صادقة معنا واستحضر صورة فرسه التي أسقطته في طريقه إلى السّباق في مدينة ''تيارت ''فأشفقت عليه وبقيت بجانبه تبكيه بألم معترفة بخطئها وبالرّغم من كل هذا إلا انّه كان واثقا أنه على تماس حقيقي مع الفوز فامتطاها وأكمل طريقه ووصل إلى المضمار مع شارة الانطلاق ، فأرادت فرسه أن تنصفه في ذلك اليوم المشهود ليفتكّ المرتبة الأولى فينصفها هو أيضا بوسام على سبيبها.

ايحاءات :
حولي : جدي يبلغ من العمر حول كامل
مقّاط : نوع من أنواع الماعز
الخالفة : باب الضيوف على مستوى الخيمة
الغايطة : آلة موسيقية كلاسيكية تستعمل غالبا في الطابع البدوي
المطمورة: مكان يحفر في الأرض و تخبّأ فيه الأشياء كالحنطة ونحوها .

تعليقات

أعلى