إيفان بونين - روح الأثر الإسلامي وظل الشرق في شعر إيفان بونين - تقديم وترجمة د. عبدالله عيسى

" أشعر في الفترة الأخيرة ، وبشكل مرعب ، أنني شاعر . مغتبط وحزين في آن . إن هذا يملأ روحي ، يمنحها موسيقى شعر غير محدود . أحس أن قوة إبداعية تخلق في ّ شيئاً ما حقيقيا ً "
يعترف بونين الشاب ، ولد لي ٢٢ أكتوبر ١٨٧٠، بهذا، وبالضبط في عام ١٨٩١، بينما كانت دور النشر تحتفي بنتاجاته ، فيما ، ولم تمرعشر سنين حتى تطأ ثورات ثلاث روح روسيا ، فيضطر للهرب إلى فرنسا ، حيث يبقى حتى مماته في ٨ ديسمبر ١٩٥٣.
فقيراً كسنبلة ظل بونين الحائز على جائزة نوبل للآداب عام ١٩٣٣ طيلة عمره الممتد ٨٣ عاماً في منفاه . لقد صرخ يوماً : " إنني فقيرا حد ّ أني لا أجرؤ على التفكير بهذا " .
لكن بونين الذي قضى ٤٣ عاماً من عمره في منفاه القسري ظل مطارداً بتفاصيل مكانه الأول / الوطن ، وممتلكاته في الذاكرة . يكتب : " حتى أقصى خلاياي أحس بجذوري مغروسة في روسيا ، أحسّني رجع أسلافي . وأكثر من هذا أحس بعلاقة استثنائية مع حيواناتها الوحشية ، ولهذا أحب الحياة بوحشية " .
وعلى الرغم من اجتراحه لكتابة قصة خلاقة يندر أن تحاكى في القص الروسي بلغتها الموسيقية المدهشة بحيويتها وعمقها وتكثيفها وتناولها الأشد إيغالاً لمفردات العوالم الداخلية وأعماق الحياة التي ظل مؤمناً بحقيقتها وأحقيتها ، إلا أنه ظل وفياً للشعر ، معتزاً بلقب الشاعر : " أنا قبل كل شيء شاعر . بعد كل هذا قاص ، وقاص فقط " .
ويكاد يصعب مقارنة عالمه الشعري بآخر ، ففي خلقه للأشياء والرؤى ظل قابضاً على حركية الكثافة والعمق الشفاف ، والإمعان في الكشف عن مدارات شعرية باكتشاف لغة جديدة باستعارات طازجة مفتوحة على صفاتها الخصوصية . لكن فكرة الإنسان الروسي الموطوء بقتامة عهد جديد طارئ على حياته ظلت مشغلاً لآدوات الشاعر ولرؤاه لكسر الصورة الكتيمة التي يتقدم بها عالمه بين الأمم :
معتم كل شيء حواليك ، يطمره الثلج
كيف الرياح رمادية كالحة
في السديم الجليدي ؟
حولك
كيف بهذا الهدوء الذي مسنا بالآسى
تتورّد تلك النوافذ من خشبات البيوت التي لم تزل
بالرطوبة والبؤس ، في يأسها طافحة .
وفيما كان الروسي في رؤيا بونين يحمل بما لا يطاق صليبه الأبدي تحت وطأة اليأس والبؤس المضنيين والعزلة الكتيمة ، لكن الجمال الذي حبا الله روسيا به ، الجمال الإلهي الخلاق بطبيعة ملؤها احب والإنعتاق ، لا بد أن ذاكرة بونين ما تزال تشتعل بها مذ كان صبياً يرعى الماشية مع أبناء الفلاحين في القرى ، سيكون صليباً جديداً لينفض الروسي المؤمن عن كاهله نير ثقافة دون إله جاؤوا بها . يقول : أنا أحب اتساع الحياة . أحب الحياة ، واحب الحب " .
مواسم ُ ، حسْرات ُ روح ، وفيض سماء مظللة بالغيوم
ولا بد أن تعبر العتمة الشتوية .
إن على الأرض ما لا يحد من الحب ّ
أن تتعمد بالضوء . ضوء الإله .
إن توحّد الروح بالمبدَع من الطبيعة بألوانها ورائحتها المفتةحة على ما تخبئ من آبار الفصول وذاكرتها ، الولع الحسي الوديع بحبيبة ستجيء من الذاكرة ، القدسية البشرية التي تعلو على الآفكار المزيفة الملحدة ، جسدت حساسية نصه الشعري وسر رؤاه الإبداعية . يكتب بونين المهدود بدروب آلام الغربة ولوعات الحنين إلى الوطن القصي ّ : " لو كنت أجلس على مرمى مشهد الشمس الغارية هناك لكنت سعيداً . الرؤية والتنفس ما يهمني من الحياة . رؤية الورود وحدها تستحضر لي ذاتي أبلغ آيات الغبطة " .
لا طيور تُرى
ومهجورة هذه الغابة ، الغابة الآن موجعة
ذبلت . ذبل الفطر
فيما روائحه لا تزال مبللة بالندى تعبر الآفق والأودية .
وطالما كان بونين على وصل روحي خصوصي واستثنائي بالروح الإنساني ، مأخوذاً باكتشاف السؤال الوجودي ٌ الأشد قلقاً للإنسانية فقد كشفت عوالمه الشعرية باقتباساته وتضمينة لآيات أو استيحاءاته لمعاني النص الكريم عن علاقة داخلية عن أسرار معرفته بروح القرآن الكريم ورموز الديانة الإسلامية ، وتجليات السلالة الشرقية .
" بشهوة ينتظر القلب الحياة "
١-
منتصف الليل ، أنسل ّ وحدي من البيت ِ ، وحدي
جليديّة خطواتي تدق ّ على الأرض ،
منغمر ٌ بالنجوم الشهيّات روض السواد ِ
وعلى الأسقفِ القش ّ أبيض ، أبيض
ومنتصفات الليالي َ راقدة بحداد ِ
يناير ١٨٨٨
٢-
ومع الأرغُن ِ ، الروح تحن ّ
تغني الروح ، وتنشج
تحتفل الروح ، وتلعن ،.
ثم ّ ، بفيض الحزن الغلاب ، تنادي :
أيها الخيّر ، يا المُشجِن ُ!
كن رحيماً ، حين تُنذر في الأرض ، بالأفئدة المنكسرة ،
البشر ِ المذلولين ، المعدومين
يُها الخيّرُ ، في الخير والشر !
عن المسيح ، في لوعات الصلب .
أيها القدّيس ، يا المغني !
أصوات طاهرة في القلب هنا .
هبْها لغة السر ّ .
١٨٨٩
***
وطن :
تحت سماء رصاصية ٍ قانية
كالحاً ، يخمد اليوم ، هذا النهار الشتائي ّ
لا حدود لغاب الصنوبر
والقرية النائية
والسراب الحليبي ّ، اللازوردي ّ فقط
مثل حلم ٍ حليم ٍ
على ناصيات بوادي الثلوج
يخفّف بعدي الكتيم ، القصيّ
١٨٩٦
****
وما زلت ُ أذكر ُ يا أمّ :
غرفة النوم ، والشمعدان ،
الدمى ، والسرير الرؤوم ُ،
وصوتك ِ ، ذاك الوديع ُ ، الرؤوم ُ
يصلّي :
" الملاك الأمين يظلّل ُ قلبك يا ولدي " .
أذكر ُ الحاضنة .
تخلع الثوب عني ، بهمس ٍ يرق ّ تعاتبني
بينما النوم ، ذاك اللذيذ المحبّبُ ، عينان غائمتان
انحنتا بي على كتفيها .
ترسمين علي ّ الصليب ، وبالقبلات
تذكرينني أنه لا يزال معي
وتفتنينني ، مؤمنة ً، بغبطة ٍ تجيء
أذكر . أذكر صوتك ذاك .
أذكر الليل ، السرير الدافئ ،
السراج في عتمة الزاوية
وظلال سلاسله ..
ألم تكوني الملاك ؟
١٩٠٦-١٩١١
***
" أرسل لك ِ روحي "
١-
عالياً ، قمر ناضج ٌ ، في السماء
مطمئناً خرير الموج الناعس ،
وكحقل ثلجي ، ذهبي ّ-
سناه ُ يشع ّعلى البحر .
على البحر ، بين السماوات والأرض ، طافت
غيمة ، وفاضت على جنبات القمر
بينما ، على خلسة ٍ، عانقتنا بظل ّ رؤوف .
والحقل الذهبي ّ بعيد
مطمور ٌ بالغبش ِالبللوري ّ،
والريح ، راعشة بالعشب ، تفح ّ بدفء منتصف الليل .
موجة ما ، بالزفير السعيد ، تنهّدت
بالزفير العميق . في سكينة النعاس -
بأيما ثقة ٍ . بأية لذة ٍ
بي التحمت ِ جميعك ِ.
لكن ّ بريقاً تهيّج في الأفق ،
هجرت الظلالُ الجبال ٓ إلى الغابات
ونحن ، ثانية ، خامِدَين نجلس
فيما ، من جديد ، تشتعل الليلة كالنهار .
ينام البحر تحت جناح القمر الناصع
تلمع الأحجار الطحلبيّة الرطيبة .
آه ، يا ليلة الحب !
أ يلزمنا ، حتى في السعادة ، تنهيدة واحدة ؟
١٩٠٣
***


اغنية :
على الإنعتاقة فتّحت ِ
نوّرت ِ في حقل بتولا .
ولا تحدّق في الروح -
العينان الوادعتان .
أذكر . أذكر الناعم
ذاك الكتّان الشفيف َ
هناك يزهر في أرض ما بعيداً .
أذكر . أذكر الصافي
ذلك اللحظ َ المشع ّ
كلما يرفع الرموش
تستفيق الكائنات
١٩٠٦-١٩٠٩
***
خرج الهلال المتأخر ، في الليلة المطمئنة ،
من أكمات الزيتون الأسود .
باب الشرفة صَرّ . سمعت ُ :
رقيق هذا الصريف !
في الخصام ، لا نغفو معاً ، في الخصام الأحمق ،
فيما تنفسّت لنا الورود في عتمة الممر ّ .
تلك الساعة الطيبة
أنا في السادسة عشر
وأنت ِ في ربيعك السابع عشر .
أذكر . أتذكّر
كيف شرّعت الباب على الضوء القمري ّ
وضممت ِ المنديل المبلّل بالدموع تلك إلى الشفتين
ناشجة ترتعشين ، تهت ِ عن دبّوس شعرك ِ.
بينما ، من الرقة والألم الغلاب ، ينحُل جسدي .
يا صديقي!
ليتنا نسترد ّ الليلة تلك .
٢٧/٨/١٩١٦
***
هناك في الحقول ، وفي المقبرة
ودُغل ِ البتولا العتيق
لا قبور ، ولا .. لا عظام -
مملكة الأحلام السعيدة .
الريح ، تلك الصيفية ، تهز ّ اخضرار الغصون المديدة
ثم يطير إلي ّ شعاع ابتسامك ِ.
لا رخام ُ الضريح ، ولا الصلب ُ
لازال فستانك الجامعي ّ
أمامي
ونظرتكِ الساحرة .
أنت وحدك ِ؟
لست ِ معي ؟
في السنين البعيدات عن عمرنا
حيث كنت ُ سواي ؟
وفي عالم الأرض ، في العالم الدائري ّ
النهارات هذي الفتيّة ، هذي الأصيلة والغابرة .
من زمان ٍ
أنا لم أعد ْ ...!
٢٤/٩/١٩١٧
***
في الآقاصي تطوفين أنت ِ ،
وأنت تحبّين ، أنت ِ وتغتبطين .
الآن ، أينك ِ؟ مأخوذة
بأمواج خليج البسكايا الأخضر
بين الأبيض من أثوابك ِ، والملْك .
ليس من عبثٍ ينساب فيك دم القرى
أيتها الجذلى ، البسيطة ، والطليقة ُ..
بألق العينين الغامقتين بالأسود ،
بتوردّك المغسول بالشمس ،
بالشفتين النحيلتين ، الشفتين الرقيقتين
قولي للأمير سلاماً .
سلاماً يا أميرة ُ.
ألثم كفيك ِ الطفليّتين
لأجل ذاك الحب ّ
الحب الذي ليس لأحد سواه أن يوهن العظم مني
١٩١٨/٩
***
حزن الرمش الأسود ، الرمش الغلاب بَريقُهُ
الدمع الألماسي ٌ ، الدمع العصي ّ ، الدمع الجزيل ُ.
وثانية ، وهج عينيك ِ ، عينيك السماويتين
النشوانتين ، الوهابتين والوادعتين .
أذكر ُ ..
لكننا لم نعد في العالمين
نحن
الفتيّان والمستبشران .
من أين بزغت ِ لي ؟
لماذا تُبعثين في الحلم
ساطعة ً ، بفتنة ، على مهل ٍ
ترد ّ إلي ّ الغبطة َ النشوى ؟ .
ذاك اللقاء، اللقاء الشتوي ّ القصير
الموهوب من الله ،
تلك الساعة العاصفة ، من جديد ؟
١٩٢٢/٨/٢٧
***
أيها الطريق الطويل ، الطريق البعيد
ماذا تخبئ في وجهتك ؟
أيما جهة ، بالهدوء الكتيم ، تُيمّم ؟
هي تلك ذاتها .
العينان ذاتهما ،
والصدر الطازج ذاته
يعلو ويهبط بالأنفاس المطمئنة التي ترق ّ،
والياقة ذاتها ، المستكينة ُ تلك
، على مهل ٍ ، تفرّ من الرقبة الغيداء ،
فأُرمى برذاذ عطر ٍ خفيف ٍ.
شعرها ،
أنفاسها .
وأحس ّ
اللذة البيضاء
بعودتي ٓالمشتهاة .
ماذا هناك في البعيد ؟
بالحنين الغلاب
لا أرى ما أمامك َ
أنظر إلى الوراء ، وكفى .
١٩٢٢/٩/١٥
***
بالطمأنينة ذاتها ،
بالهدوء المكين ،
حيِيْت ُ .
ورق الجدران اصفر ّ إذ شاخ َ ،
وبالحوّارى ابيض ّ السقف الواطئ ،
والنوافذ مالت ناحية الشرق .
الصباح الشتائي ّ . وحدها الشمس تستفيق .
وكنت ِ على فرح ٍ :
الضوء الدافئ يرعى الحقول ،
والموقد يعم ّ بذؤاباته في الزاوية .
وعلى الرف ّ ، بالرتابة كلها ، انتصبت كتب ٌ ما ،
الأوراق ُ ترقد ضجرانة على المكتب ، تتضوّر .
وبالأريج ِ الوهاج
الزهور على الطاولة .
" سعادة يرثى لها " .
هكذا فكٌرت ِ.
٣٨/١/١٨
***
" في الجهات البعيدات عن الوطن "
١-
الكوثر :
" إنا أعطيناك الكوثر "
هنا ملكوت الأحلام ، على مئات الفرسات العذراء
سبخة الشطآن العارية .
الماء فيهن ّ- الزمرّد السماوي ّ
حرير الرمال أنصع من خبط أجنحة الثلج .
وحده ، في الحرير الرملي ، الشيح ُ الرمادي ّ
يستنبته الله لقطعان الضأن الرحّل .
وهنا السماوات ، بالذي ليس يُبدٓع ُ ، زرقاء
الشمس ُ فيهن ّ - النار ُ السعير ٌ. سقر ْ
وفي هذه الساعة اللهّابة ، حيث السراب ُ الصقيل ُ
يندغم الكون في السُبات - الحلم الأوحد ، الجليل
في البهاء الذي لا يحدٌ ، خلف حافة الأرض المحزونة ِ
إلى الرياض ، رياض الجنة
يحمل الروح .
وهناك ينساب ُ ، يصب ّ ، وراء السديم ، هناك
نهر ُالأنهر ٍ ، الكوثر اللازوردي ّ
الأرض جميعاً ، القبائل ُ والبلاد طرّاً
يبشّر بالسكينة .
اصبرْ ، صل ّ وآمن ْ
١٩٠٣
٢-
ليلة القدر
" تنزّل الملائكة والروح فيها " قرآن
ليلة القدر . الذرى التحمت ً. الذرى اندغمت ْ.
وعالياً ، عالياً في السموات العلى نصبت ْ عماماتها .
والمؤذٌن أنشد . تحمر ّ قطع الجليد
لكن من الأفاجيج والوهاد تتنفس عتمة باردة .
ليلة القدر .
على منحدرات الجبال المعتمات تنسكب الغيوم الكثّة .
أنشد المؤذن . أمام النهر العظيم
يندلع ، طافحاً بالرذاذ ، النهر الألماسي ّ .
وجبريل لا يُرى . جبريل لا يٌسمع
يطوف بالدنى المطمئنات للسبات .
سيدي أيها المبارك !
ظلّل الدرب المقدّس ، درب الحاج ّ الجليل
وامنح الأرض ليلتك حباً وسلاماً .
١٩٠٣
٣-
سر ّ
" ألف لام ميم " قرآن .
فاح على النصل بالشهقة الواحدة -
وفي سديم لازوردي ّ خمدت ْ زبانة ُ خنجره السوري ّ :
زخارف الذهب ،
ونقوش الفولاذ الصافية
، بالذي أشد ّ بهاءاً ، لمعت تحت السديم .
" باسم ربّك َ،
باسم نبيّك ٓ
إقرأ . عبد الله ، والقدر !
مفتاحُك ٓ الأزلي :
فل : بأي الرموز مُزيٌا نصلُك َ؟ "
قال : رمزي - شانئي الأبتر
هو سر ّ الأسرار : ألف ، لام ، ميم
" ألف لام ميم ؟
هذي العلامات لا تُوقن ُ كصراط في غيهب الحياة الآخرة
محمد ٌ وارى سرٌها الأبدي ّ"
صارماً قال : " أصمت ْ
لا رب ّ في العالمين سوى الله
لا حول إلا مشيئة أسراره القادرة "
قال ، تعلّق ُ بحَدّي ْ سيف ٍ محدّب ٍ
جبهته تحت العمامة الحرير
تفرّس " أتميدان "* القائظ
بطرْف طائر جارح وسنان -
بالرموش الكحليّة ، في سكون ،
ثانية ، انحنى على السيف ذي الحدّين
١٩٠٥
* أتميدان : ساحة السلطان أحمد في إسطنبول .
٤-
حجر الكعبة الأسود
اليَشْبُ الأغلى كان ، في زمن ما ،
البياض المحفوظ َ كان ،
كورود فراديس ِ الجنة ٍ مكللة ً بالغيم
مثل الثلج الجبلي يوم شمس وربيع .
روح جبريل ، للشيخ " إبراهيم " ، الجليل
ألفاه ُ بين الرمال والصخر
والعارفون كلأوا بوابات الحرم ،
حيث ، بالصدر ، يخفق الدُدرِي ّ ، هو .
القرون قضت . من أقاصي الدنى طرّاً
يمّموا الصلوات ِ إليه ، ونهراً
اندلعوا في الحرم المقدّس ، القصي ّ
الله ، يا الله !
خبتْ عطيٌتُك َ المباركة
خبت من الدمعات والحسرات الأدمية .
١٩٠٣-١٩٠٥
٥-
استانبول :
الكلاب النحيلة ، منسولة ُ الشعر
بالعيون الكئيبة ، العيون المنخورة -
سلالة أولئك القادمين من البراري
خلف الإستغاثات الفضّاحة ،
الإستغاثات المعفّرة .
منصرة ً
، بأقواس المجد وأبراج الغنى ، كانت .
ثم ّ
موطوءة
بالرُحّل المسكونين بالضجيج الفتّاك .
قصورك ِ
وحدائقك ِ
أُخلِدت ْ ، مثل ليث ٍ متخم ٍ، إلى مخادع الإسترخاء .
لكن ّ الأيام تطير . أسرع من الطيور تطير !
وفي الجبّانات . في " سكوتاري " *
تسود ّ الغابات ،
وآلاف الأضرحة ، مثل العظام تماماً ، تبيض ّ،
في شجر السرو .
وعلى الرفات ِ المقدّس
رفات الأزمان هوى
على المدينة الماجدة ، الوحشيّة ِ الآن
وبالحنين الصحراوي ّ يعلو عواء الكلاب
تحت رياحين القسطنطينيّة الخاوية على العروش .
وليبق َ " سيرال "* ، بصمت نافورته .
مئات القرى جفّت ْ.
استانبول ، استانبول
آخر معسكر ٍ ميّت ٍ
لآخر ِ مخيّم ِ رُحّل ٍ عظيم .
١٩٠٥ .
***
" للخيانة .."
١-
لخيانة الوطن ِ المسكين أهلكهم
سيدهم .
بعظام أجسادهم ، بالكثير من الجماجم
بذَرَ الحقول .
قام منهم فيهم رسول ٌ
توسّل منه حياة ً لهم
لكن ّ الأرض لا تغفر خطيئة المفسدين .
عنهم ،
في أساطير الشرق ، علِمت ُ أسطورتين
الرحيمة : المبعوثون قضوا في المعارك ،
والمعذّبة : إلى حافة القبر .
، مثلما قال الرسول ،
عاش الغلابون في الصحراء
في المضرب الوحشي ّ .
من رمّة ِ الأجداث ، يوم البعث ، سوداء
أثوابهم ووجوههم
تظل ّمحنيّة ، حتى القبور ، من الغيظ الكتيم ، على السحيق
سيماها اللون الرصاصي ّ
البارد ،
الخامد .
١٩٠٣-١٩٠٦
***
٢-
السفينة المهيبة ،
السفينة العتيقة ، الحمراء
آيبة ً من " سيدني " حطّت في المرطم .
المرطم ُ يبيض ّ ، يزرق ّ المرطم مستبشراً
قبّة السماء تشرق عارية من الغيم .
بالسكينة ِ والدفء ،
في الشمس ،
في الماء الزمردي ّ العابر ،
مستنداً على الجنب الأيسر
الجبّار ُ غفى . يغفو الماء الفوّاح
والحمّالون . بينما يبيض ّ الميناء ُ المهجور .
والأرِينَة ُ في الماء الشفيف تُرى
الأرينة الضيّقة ُ
مطمورة بالأصداف الصغيرة
تلك التي طلع الأخضر الصدئ من زمن عليها ..
في " سمطرة " ، أو "يافا"
في المحيط الجليل ..
في قيظ ٍ ، أو في هدأة .
والولد الزنجي ّ
، في طربوشه التركي ّ المبقّع بالوسخ ،
يتدلّى في البئر
ويطرّش الصهريج .
ومن الماء
، على الصباغ الأحمر الطازج ،
تبزغ الزخارف العربية لمّاعة كالمرايا
تأتلق الصبغة تحت الكف ٌ السوداء
تعمي الأعين .. والولد - القرد ُ
من الأحلام يغنّي .. لحن السودان المنساب
يوقظ ، في استراحة الغرباء، لوعات الحنين الغلاب.
١٩٠٦/٨
***
جوردانو برونو *:
هوذا عالم الأحياء -
فُلْك ٌ بزعامة عَيْرٍ . فاحيوا ، إذن ، في الكون .
هذه الأرض -مأوى الخديعة والشر ّ ،
كهف النفاق .
فلتعيشوا في هذا الجمال المؤبّد ! .
أنت ِ ، يا أمنّا الأرض !
أنت القريبة ُ طرّاً من الروح ،
أنت البعيدة .
ها إنني أتشهّى الذي يغبط الروح ،
ما سوف يضحِك من باطن القلب . يبقى
حنظل ُ الكآبة ، أبداً ، في عشبة السعادة
يلسع بالمُر ّ ، تبقى
في الحسرات ، أبداً ، ثمّة لذّة غامضة " .
هوذا يسطو على عكّاز الجوّال :
غفرانك ، يا قباب الصوامع الواجهة !.
تلك روحه لا تعيش سوى في الغريب من الكائنات .
وحده الآن : نفَس ُ الإنعتاق .
" كلكم عبيد . قيصر دينكم - وحش ٌ:
ها أنذا أخلع عرش دينكم الأعمى ،
العرش المظلم .
ها أنذا أفتح بوابة الوقت لكم
على المضيء ، اللازوردي ّ
على لجّة القبّة ِ السماويّة ،
فيما أنتم في المعبد الوثني ّ المعمّد بالخرائب .
ليس ثمة هاوية للمهاوي ، ولا حافّة للحياة .
نحن الذين نبقى شمس " بتولومي " *
زوابع الأكوان ، حشد كواكب لا تعد ّ
تنبسط أمامنا ، أيتها الشعلة " .
هوذا . المتكبّر ، هذا الجسور ، على كل شيء
تطاول حتى على السموات .
إنما الهدم ُ توق ٌ إلى الخَلق
وهو يدمّر حن ّ إلى المعجزة -
معجزة الخلق ، تلك الإلهية ، في الكون .
تبرق العينان ، والحلم سليط ٌ
يحمل ُ الغبطة بيضاء إلى عالم كشف ٍ يُشتهى .
المُبتغى والجمال في الحقيقة وحدها .
الذي يحتاج شيئاً أقوى من قلب الحياة كلها
يطلبه .
" أنت ِ ، يا فتاة ُ ! . بالوجه الملائكي ٌ
المغنيّة ُ على طنبورك ِ الرنّان ،
الطنبور القديم ! .
كان يمكن ُ أن أكون أباً لك ،
أو صديقاً أكون ..
ولكنني وحدي ..
ليس في الأرض من ليس يُؤوى ! .
عالياً ، عالياً ، رفعت ُ لواء عشقي
وفي الأرض ثمة ما يستحق ّ الفرح :
الرغبة مطمورة بالجليد .
أما أنا
لك ِ وحدك ِ . مشتهاي َ - صوفيا" .
ومن جديد . هو ذا الجوّال ُ . ثانية ً
يغرق ُ في البعيد القصي ّ . عينان تلمعان ، ومنحسر ٌ
وجهه . لن يدرك الأعداء
أن الرب هو الضوء .
وهو يموت ُ من أجله .
" الكون لجٌة الهاوية . كل ّذرّة فيه
تنساب بالرب حياة وجمالاً .
نحن
، أحياء أو موتى ، نحيا
بروح كونيّة واحدة .
أنت ِ ، مع الطنبور !
أما تزال الحياة مأخوذة بالفرح الوهّاب
تحيا في مرايا أحلام ِ لحظِك ِ ؟
وأنت ِ ، يا شمس ُ!
يا أسراب نجوم الليلة !
وحدكم من يتنفس السعادة كلها
بالرضا كلّه .
والإنسان الصغير ، الموطوء
، إلى أبد لا يحد ّ ، بما يُقلق الروح
بالنظرات الطيّبات ،
النظرات الباردات ، الجليّات
يمضي إلى النار .
" الميّت في عصر العبوديّة
يتوّج بالخلود -
بالحريّة الأبدية "
وأنا أموت . أو هكذا أشتهي .
السيّاف الذي بعثر رُفاتي ، المُزدرى !
سلاماً ، سلاماً للشمس ! ، للسيّاف !
هوذا يذرّي فكرتي على الكون "
١٩٠٦
***
معبد الشمس
الأعمدة ُ الستّة ُ ، الأعمدة ُ المذهّبلت
المرمريّات
الوهاد ُ الخضراء التي لا تنتهي
لبنان في الثلج
وسفح السماء اللازوردي ّ .
وأنا الذي رأيت النيل ، والجبّار أبا الهول
رأيت ُ الأهرامات
: أنت ٍ الأعلى ، والأبهى أنت ٍ
يا أطلال ما قبل الطوفان .
النسيج القيصري ّ ، النسيج البطرياركي ّ
من الثلج ، سلاسل الصخر الطويلة
تمتد ّ
على لبنان ، مثل زي ٌ ديني ّ أرقش .
تحتها الروض ، الحدائق الغنّاء
والطازج الطيٌب ، كنسيم جبلي ٌ، يبعث الروح
الخرير العجول للدُهنُج ِ المائي ّ
وتحتها ، استراحة الرُحّل الأولين
وليكن أنها منسية ، عزلاء
الشمس تضيء رواق الأعمدة ،
الشمس الخالدة
وبواباتها تفضي إلى العالم المُغبِط
البوابات الواسعة
بعلبك ٦-٥-١٩٠٧
٧-
أزهار شيراز
غن ّيا عندليب ! . يحنّون باللهفة الغلابة ،
في سرادق الميموز الموشّى
تشيب على الرموش الدموع الألماس
الكبيرة ، الدموع الساجية
تكتسي بالفضي ّ
الحديقة هذه الليلة مثل رياض إرم
شاحبة ، ويانعة بالعذوبة
مثل مخدع الجواري
وعلى الشعاب الموشاة يطل ّ القمر .
غامضاً ، يبيض ّ حوارى الجدران
وهناك حيث يندلع الضوء
تلمع سحنته باخضرار وشهوةٍ
مثل زمرد عيون الأفاعي .
غن ّ يا عندليب ! . تتحسٌر الشهوات
تصمت الزهور ، ليس ثمة ما يقال :
استغاثتها اللذيذة - طيبة الفوح ،
ألماس الدموع - طاعتها
١٩٠٦-١٩٠٧
***
وسلوى الموت موهوبة من حارس الروح .
أيها الجوّالون ! . أنتم
من العِفار ِ انتصرتم ْ
بين الأعداء ، في البلاد الغريبة كنتم ْ .
هذه استراحتكم -
السكينة والسلام
محترقة ناصيات الجبال هذه الظهيرة
و الرياح جفّفت مجرى " كيدرون " .
فيما ، بالعُصي ّ رتّبتُم رُفات السلالة
واقتناكم البلد الحبيب .
حيث يثوي لقياصرة ،الأنبياء ، والكهنة
راقدين في الغبطة التي تُشتهى .
كلّ من لم يقتل بعد في المنافي البعيدة
تجمعه يد الرب ّ الرحيم
على بلاط المنحدرات الوعرة -
الكتاب المفتوح من سفر التكوين .
الهوامش :
سكوتاري : أكبر بحيرة في البلقان بين الجبل الأسود وألبانيا
سيرال : سراي . قصر السلطان التركي .
جردانو برونو *: فيلسوف وفلكي إيطالي .
بتولومي : فلكي وموسيقي . عاش في الإسكندرية في العصر الروماني .
كيدرون : نهر .


ايفان بونين

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى