أنطون تشيكوف - كمان روتشيلد.. قصة قصيرة - ترجمة: أشرف الصباغ

كانت البلدة الصغيرة، أسوأ من قرية، لا يكاد يعيش فيها سوى العجائز الذين كانوا يموتون بشكل نادر إلى حد مقلق ومثير للحيرة، وكانت الحاجة إلى التوابيت ضئيلة جداً في المستشفى، وحتى في السجن .. باختصار، كانت الأمور في غاية الإزعاج .. ولو كان ياكوف إيفانوف حانوتيا في مركز المحافظة لامتلك على الأرجح منزله الخاص، ونادوه بلقب ياكوف ماتفييتش، ولكنهم كانوا ينادونه، هنا في البلدة الصغيرة، ببساطة : ياكوف .. ولسبب ما كان لقبه في الشارع “برونزا” برغم حياة الفقر والكفاف كفلاح بسيط في بيت من بيوت الفلاحين الصغيرة الحقيرة، حيث يقتصر على غرفة وحيدة يعيش فيها هو ومارفا، والمدفأة وسرير يتسع لشخصين، والتوابيت، ومنضدة نجارة، وباقى أدوات المعيشة ..كان ياكوف يصنع توابيت جيدة ومتينة .. فمن أجل الرجال وصغار الملاك كان يصنعها على مقاسه، ولم يخطئ في ذلك مرة واحدة، إذ لم يكن هناك إنسان أطول وأقوى منه حتى في السجن، برغم أنه كان قد تجاوز السبعين عاماً .. ومن أجل النبلاء والنساء فقد كان يصنعها بالقياس مستخدماً من أجل ذلك مقياس الأرشين (وحدة طول روسية) بينما كان يقبل طلبيات توابيت الأطفال على مضض، ويصنعها مباشرة دون قياس وباستخفاف شديد ..

وفي كل مرة عندما يتقاضى فيها نقوداً عن عمله، كان يقول : أعترف .. فأنا لا أحب العمل في هذه التفاهات.باستثناء الحرفة، كان عزفه على الكمان أيضاً يجلب له دخلاً غير كبير. ففي حفلات الزفاف بالبلدة كان يعزف في العادة الأوركسترا (اليهودى) الذى كان يقوده السمكري “موسى إليتش شخكيس” الذى يأخذ لنفسه أكثر من نصف الإيراد .. وبما أن ياكوف كان يجيد العزف على الكمان، وخصوصاً بمصاحبة الأغنيات الشعبية الروسية، فقد كان شخكيس يدعوه أحياناً للعزف في الأوركسترا مقابل خمسين كوبيكا في اليوم بغض النظر عن هدايا الضيوف وتبرعاتهم. وعندما كان برونزاً يجلس بين العازفين في الأوركسترا، فإن أول ما كان يظهر عليه هو احمرار وجهه وتصبب العرق منه، إذ كان الجو حاراً، ورائحة الثوم تخنق الأنفاس، والكمان يُزَيِّق والكونترباس يُشَخِّر بجوار أذنه اليمنى، وبجوار اليسرى ينشج الناي الذي يعزف عليه (اليهودي) الأصهب الهزيل، بوجهه الذي تظلله شبكة واسعة من العروق الحمراء والزرقاء، والذي كان يحمل لقب الثرى الشهير روتشيلد .. وكان هذا (اليهودي) اللعين يحول حتى أكثر الألحان مرحاً إلى كآبة وأنين، وبدون أسباب واضحة كان ياكوف متشبعاً بكره واحتقار شديدين لهؤلاء (اليهود)، وخاصة لروتشيلد. وقد بدأ ذلك بالمماحكة، ثم التجريح بالشتائم البذئية، لدرجة أنه أراد ذات مرة أن يضربه .. بينما تأذى روتشيلد من ذلك، وقال من بين أسنانه ناظراً في حنق :- لو لم أكن أحترمكم لموهبتكم، لطرتم من النافذة منذ زمن بعيد ..ثم بكى .. ولذا فقلما كانوا يستعينون ببرونزا في الأوركسترا .. كان ذلك يحدث فقط في حالات الضرورة القصوى عندما يتغيب أحد من اليهود ..كان ياكوف في مزاج سيئ باستمرار لأنه كان يتعين عليه دائماً أن يصبر على الخسائر الفادحة .. وعلى سبيل المثال، ففي أيام الآحاد وفي الأعياد كان من الإثم أن يعمل، ويوم الاثنين يوم صعب .. وبهذا الشكل يكون المجموع حوالى مائتى يوم يتعين عليه فيها أن يجلس، خلافا لإرادته، عاطلاً عن العمل، بينما في ذلك خسارة، وأية خسارة ..! إذا أقام أحد ما في البلدة عرساً بدون موسيقى، وكانت خسارة أيضاً إذا لم يدع شخكيس ياكوف .. ولقد ظل رجل البوليس المراقب بالسجن مريضاً يعطس طوال عامين كاملين .. وانتظر ياكوف بفارغ الصبر متى يموت، ولكن المراقب سافر إلى المركز للعلاج، ومات هناك .. وكم كانت الخسارة إذ ضاعت على الأقل عشر روبلات، لأن الأمر اقتضى أن يصنع التابوت على نحو آخر مستخدماً نوعاً خاصاً من القماش لتزيينه .. وراحت الأفكار حول الخسائر والانتكاسات تضني ياكوف وتعذبه، خاصة في الليل. ولذا فقد وضع الكمان إلى جوار الفراش، وكلما وردت على ذهنه تُرهة ما، كان يمس الأوتار فيصدر الكمان في الظلام صوتاً يهدئ من روعه ..وفي السادس من مايو في العام الماضي توعكت مارفا فجأة .. فراحت تتنفس بصعوبة شديدة، وشربت ماء كثيراً ثم ترنحت. وعلى الرغم من كل ذلك نهضت في الصباح وأشعلت المدفأة بنفسها، حتى ذهبت لتملأ الماء .. وقرب حلول المساء ترنحت مرة أخرى، في حين ظل ياكوف طوال النهار يعزف على الكمان .. وعندما حل الظلام تماماً، تناول الدفتر الذي يسجل فيه خسائره كل يوم .. ومن جراء الملل قام بعمل إجمالي سنوي لهذه الخسائر .. وكانت النتيجة أكثر من ألف روبل مما زلزل كيانه لدرجة أنه ألقى بالأوراق على الأرض وأخذ يدوسها بقدميه، ثم رفعها مرة ثانية ومزقها متنفساً بعمق وتوتر، وكان وجهه محمراً ومبللاً من أثر العرق. راح يفكر فيما إذا كان قد وضع هذه الألف روبل الضائعة في البنك، لتراكمت الأرباح السنوية على الأقل بمقدار أربعين روبلاً .. مما يعنى أن الأربعين روبلاً هذه تعتبر أيضاً خسارة .. وباختصار فحيثما اتجهت وأينما كنت فليس هناك سوى الخسارة ولا شىء سواها ..-ياكوف -نادته مارفا بغتة- إنني أموت ..!تطلع إلى زوجته .. كان وجهها وردياً من ارتفاع درجة حرارتها، وصافيا وسعيدا بشكل غير عادي .. أما برونزا المعتاد دائماً على رؤية وجه زوجته ممتقعاً شاحباً وتعيساً، فقد اعتوره الآن الحزن والارتباك .. كان الأمر أشبه ما يكون بأنها ماتت بالفعل، وكانت هي راضية بذلك وسعيدة لأنها أخيراً تخرج إلى الأبد من هذا البيت القروي، ومن التوابيت ومن ياكوف نفسه .. نظرت إلى السقف وتمتمت شفتاها بشيء ما، وكان التعبير المرسوم على ملامحها ينم عن سعادة عميقة وكأنها بالفعل قد رأت ملاك الموت وتهامست معه ..كان النهار قد شقشق، وبان من النافذة كيف تلألأت شمس الصباح. عندما نظر ياكوف إلى العجوز، تذكر لسبب ما أنه طوال حياته لم يلاطفها أو يشفق عليها، ولم يفكر مرة واحدة أن يشترى لها منديلاً أو يحضر لها شيئاً ما حلواً من عرس، فقط كان يصرخ فيها، ويكيل لها الشتائم بسبب الخسائر والانتكاسات، وينقض عليها مهدداً بقبضتيه .. وفي الحقيقة فهو لم يضربها أبداً، وبالرغم من ذلك فقد كان يفزعها ويخيفها، وكانت هي في كل مرة تتجمد من الرعب .. وأيضاً لم يكن يسمح لها بشرب الشاى لأنه بدون ذلك ستكون المصاريف أقل .. أما هي فقد كانت تشرب فقط الماء الساخن .. ولقد فهم لماذا يبدو وجهها غريباً وسعيداً، الشيء الذي أصبح بالنسبة له مرعباً ..جاء الصباح بعد طول انتظار، فاستعار حصان جاره ونقل مارفا إلى المستشفى .. كان المرضى هناك قليلين، وما كان عليه الانتظار إلا قليلاً، حوالى ثلاث ساعات .. ولحسن حظه لم يستقبل المرضى في هذه المرة الطبيب الذى كان هو نفسه مريضاً، وإنما التمرجي “مكسيم نيكولايتش” العجوز الذى كان الجميع يتحدثون عنه في البلدة بأنه على الرغم من كونه سكيراً وصاحب مشاكل إلا أنه يفهم أكثر من الطبيب .. وبعد أن أدخل ياكوف العجوز إلى حجرة الاستقبال، قال :- السلام عليكم .. سامحونى فنحن دائماً نزعجكم، يا مكسيم نيكولايتش بأمورنا التافهة، اسمحوا لي أن ألفت انتباهكم .. لقد أصاب المرض أهلى، رفيقة حياتي كما يقال، أعذروني على التعبير ..قطب التمرجى حاجبيه الأشيبين، ومسد فوديه، وراح يفحص العجوز وقد تقوست على مقعد بدون مسند، هزيلة ومدببة الأنف بفم مفتوح، تشبه من جانب وجهها طائراً يهم بشرب الماء ..قال التمرجي ببطء بعد أن أخذ نفساً عميقاً :-آ.. نعم.. هكذا.. أنفلونزا، وربما حمى، فالتيفوس منتشر الآن في البلدة .. ماذا نفعل ؟ لقد عاشت العجوز طويلاً .. الحمد لله .. كم عمرها ؟- سبعون إلا سنة واحدة يا مكسيم نيكولايتش ..-ماذا نفعل ؟ عاشت العجوز طويلا ً.. وآن الأوان لرحيلها ..- هذا الكلام بالطبع معقول إذا سمحتم، يا مكسيم نيكولايتش (قال ياكوف هذا وهو يبتسم من باب التأدب)، ونحن شاكرون وممتنون على تفضلكم.. ولكن اسمحوا لي أن أذكركم بأن الحشرة أيضاً تريد أن تعيش أطول ..- كل شيء جائز .!ثم قال التمرجي بنبرة كما لو كان موت العجوز أو حياتها متوقفين عليه :- إذن.. هكذا، يا ولد .. سوف تضع على رأسها كمادة باردة .. وأعطها هذا المسحوق مرتين كل يوم، ثم مع السلامة .. بانجور ..لمح ياكوف من تعبيرات وجهه، أن الحالة سيئة ولن تساعدها أي مساحيق .. وكان من الواضح له أن مارفا على وشك الموت، إذ لم يكن اليوم فغداً .. عندئذ دفع التمرجي من مرفقه برفق، وغمز له بعينيه، ثم قال بصوت خافت :- ماذا لو حجمناها يا مكسيم نيكولايتش ..-اطلاقا ً.. إطلاقاً يا ولد .. خذ عجوزك وأذهب في أمان الله .. مع السلامة ..قال ياكوف بتضرع :- اعملوا معروفاً .. اسمحوا لى أن أعرف .. لو افترضنا أن بطنها آلمها أو أي شيء داخلي، فعندئذ نعطيها مساحيق وقطرات .. ولكن من الواضح أن عندها نزلة برد وأول شيء في حالة النزلة هو طرد الدم، يا مكسيم نيكولايتش ..ولكن التمرجي كان قد استدعى المريض التالي .. ودخل فعلاً إلى حجرة الاستقبال أب مع ولده، في حين قال ياكوف عابساً :- في هذه الحالة علقوا لها ولو حتى علقة ..! لتجعلوها تصلي لله إلى الأبد .!فصاح التمرجي في ثورة :- علمني أيضا .ً! يا بليد …اغتاظ ياكوف وتضرج كلياً، لكنه لم يتفوه بكلمة واحدة، وتأبط ذراع مارفا وأخرجها من حجرة الاستقبال .. ولما جلسا في العربة، طالع المستشفى بنظرة قاسية ساخرة قائلا ً:- أجلسوكم هنا .. ممثلين .! لو كان غنياً لحجمهولكنه يستكثر على الفقير حتى ألقة واحدة … معاتيه مشوهون ..!.عندما وصلا إلى البيت، ظلت مارفا واقفة لعشر دقائق بعد خولها ويدها على كليتها .. وبدا لها أن ياكوف لو رآها مضطجعة فسوف يبدأ حديثه عن الخسائر والانتكاسات، وسينهال عليها بالشتائم متهماً إياها بالنوم وعدم الرغبة في العمل .. وتطلع ياكوف إليها في تذمر وملل، وتذكر أن عيد الناسك يوحنا غداً، وعيد نيكولاي صاحب المعجزات بعد غد، وبعد ذلك يوم الأحد، ثم يوم الاثنين الصعب، أربعة أيام لا يجوز العمل فيها، وربما تموت مارفا في أي منها .. إذن ينبغي أن يصنع لها اليوم تابوتاً .. وأخذ أرشينه الحديدى ثم استلقت هي على الفراش بينما رسم علامة الصليب، وبدأ في عمل التابوت ..حين أصبح التابوت جاهزاً، لبس برونزا عويناته وسجل في دفتره :- تابوت مارفا إيفانوفنا 2 روبل و40 كوبيك .وتنفس الصعداء في حين كانت العجوز مستلقية طوال ..الوقت وهي مغمضة العينين، وفي المساء عندما حل الظلام، نادت عليه العجوز فجأة، وسألته متفرسة فيه بسعادة :- أتتذكر يا ياكوف ؟ أتتذكر … كيف رزقنا الله قبل خمسين عاماً بطفل أشقر الشعر ؟ آنذاك كنا نجلس طوال الوقت على ضفة النهر نغني .. تحت شجرة الصفصاف ..وبعد أن ابتسمت بمرارة، أضافت :- ماتت البنت .أجهد ياكوف ذاكرته، ولكنه لم يستطع أبداً تذكر الطفل ولا الصفصافة فقال :- هذا يخيل لك ..جاء القس وأجرى مراسيم الاعتراف .. بعدها راحت مارفا تتمتم بأشياء غير مفهومة .. وفي الصباح ماتت. قامت الجارات العجائز بغسلها وإلباسها ووضعها في التابوت .. ولكي لا يدفع ياكوف مبلغاً إضافياً للشماس تلا هو بنفسه القداس على روحها، فيما لم يأخذوا منه شيئاً عن حفر القبر لأن حارس المقابر هو الذي كان قد عمد ابنته في الكنيسة بعد ولادتها .. وحمل النعش إلى المقبرة أربعة رجال من قبيل الاحترام والتوقير، وليس من أجل النقود، وسار خلفه النسوة العجائز، والمتسولون، واثنان من المجاذيب، بينما كان المارة يرسمون علامة الصليب بورع وتقوى .. وكان ياكوف مسروراً للغاية إذ كان كل شيء محترماً ولائقاً ورخيصاً، وليس هناك ما يمكن أن يكون فيه إهانة لأحد .. وفيما كان يلقي النظرة الأخيرة على جثمان مارفا المسجى في النعش، لمس بأصابعه حافة التابوت، وفكر في نفسه : صنعة ماهرة ..!بعدما عاد من المقبرة، انتابه حزن شديد واستحوذ عليه الملل، وشعر بتوعك : كان تنفسه حاراً وثقيلاً، وقدماه ضعيفتين، وانتابته رغبة شديدة لشرب الماء .. راحت الأفكار بذاكرته من جديد أنه لم يشفق عليها مرة واحدة في حياته كلها، ولم يلاطفها .. وقد عاشا في بيت واحد اثنين وخمسين عاماً مرت بطيئة، ولكن حدث على نحو ما أنه طوال هذا الوقت لم يفكر فيها، ولم يلاحظ وجودها أو يهتم بها كما لو كانت قطة أو كلباً بينما كانت كل يوم تشعل المدفأة تطبخ وتخبز تذهب لملء المياه، تقطع الأخشاب، وترقد إلى جواره في فراش واحد .. وعندما كان يعود ثملاً من الأعراس، كانت في كل مرة تعلق كمانه على الحائط باحترام وتبجيل، وترقد في فراشه، وكل ذلك بصمت وعلى وجهها أمارات الهيبة والاحترام ..التقى روتشيلد بياكوف في الطريق، فابتسم له محيياً إياه بانحناءة ، وقال :- أنا أبحث عنكم يا جدي ..! موسي إليتش يسلمون عليكم ويدعونكم لزيارتهم حالاً ..كان ياكوف في شغل شاغل عن ذلك، وكانت لديه رغبة شديدة في البكاء :- دعني .!قال ذلك وتابع سيره، بينما انزعج روتشيلد واندفع مهرولاً إلى الأمام :- كيف يمكن ذلك ؟ موسي إليتش سيغضبون ..! إنهم طلبوك حيالا ..ً!كان سبب امتعاض ياكوف أن هذا (اليهودى) كان يلهث ويتلعثم في كلامه، ويطرف بعينيه، ولديه نمش أحمر كثير على نحو ما، وكان من المقرف لياكوف النظر إلى سترته الخضراء المرقعة بقطع قماش قاتمة، وإلى قامته الهشة الهزيلة بكاملها ..صرخ ياكوف:- مالك تتدخل في شئوني يا آكل الثوم ؟ دعني وشأني ..!غضب (اليهودي) وصرخ بدوره :- ولكن الزموا حدودكم من فضلكم، وإلا ستطيرون من فوق السياج ..!زعق ياكوف واندفع نحوه مهدداً بقبضتيه :- أغرب عن وجهي .. ألا يمكن العيش بعيداً عن الوسخ .!مات روتشيلد في جلده من الرعب، فقرفص مذهولاً وأخذ يطوح بيديه فوق رأسه كمن يحميه من اللطمات، ثم نهض وفر هارباً، وأثناء ركضه كان يقفز ويضرب كفا بكف بينما ظهره الطويل الهزيل يرتعد بوضوح .. وفرح الأولاد لما حدث واندفعوا يركضون وراءه صائحين : “يهودي! يهودي ..! ” وجرت الكلاب أيضاً خلف الجميع وهي تنبح .. انطلق أحد المارة في قهقهة عالية ثم أطلق صفارة فعلا نباح الكلاب وازداد .. ويبدو بعد ذلك أن أحد الكلاب قد عض روتشيلد، فقد سُمعت صرخته المرعوبة من اليأس والفزع ..راح ياكوف يتمشى في المراعي، ثم اقترب من أطراف البلدة وأخذ يسير على غير هدى .. فيما كان الأولاد يتصايحون : “برونزا قادم” .! برونزا قادم ..! وها هو النهر حيث طائر الشنقب يتراكض مسرعاً فوق الرمال، والبط يزعق، والشمس تلفح الوجوه، وصفحة المياة تتلألأ بلمعان أخاذ يؤذي العين .. سار ياكوف في الطريق الضيق بمحاذاة ضفة النهر، ولمح كيف خرجت سيدة ممتلئة حمراء الوجنتين من حوض الاستحمام .. فراح يفكر فيها : ” ياه يا لك من كلب بحر ..!”. وبعيدا عن حوض الاستحمام كان الأولاد يصطادون السمك بلحم السرطان .. ولما لمحوه راحوا يصرخون بحنق “برونزا ..! بروزنزا “. وها هي الصفصافة العريضة القديمة ذات التجويف الضخم وفوقها أعشاش الغربان .. وفجأة نما في ذاكرة ياكوف طفل صغير بشعر أشقر كأنه حي يرزق، بينما كانت الصفصافة التي تحدثت عنها مارفا تقف خضراء ساكنة، وحزينة .. فكم شاخت، مسكينة ..! جلس تحتها وراح يتذكر .. على هذه الضفة، حيث المرج الذي تغمره الآن مياه الفيضان، كانت هناك آنئذ غابة من أشجار البتولا، وعلى الجبال الجرداء كان يتراءى على خط الأفق حرش الصنوبر العتيق الذى كان يلوح وقتذاك بزرقته بينما تسير في النهر قوارب التنزه .. أما الآن فالأمر سيان وعلى الضفة الأخرى تبدو الأرض جرداء إلا من شجرة بتولا واحدة فقط، شابة وممشوقة كفتاة بكر. وفي النهر لا يوجد إلا البط والوز، وليس في الأمر ما يشير إلى أنه في وقت من الأوقات كانت تسير القوارب للتنزه، ويبدو أن الوز قد صار قليلاً على عكس ما كان في الماضى .. أغلق ياكوف عينيه، فراحت تركض فى مخيلته أسراب ضخمة هائلة متقابلة من الوز الأبيض ..لم يكن يدري كيف حدث أنه خلال الأربعين أو الخمسين سنة الأخيرة من حياته لم يذهب مرة واحدة إلى النهر .. ولو كان قد حدث وذهب، فهو لم يلق بالاً إليه أبدا ؟ إلا أن النهر مخلص وأمين، وليس شحيحاً ووضيعاً .. وكان من الممكن ممارسة صيد السمك فيه، وبيعه للتجار والموظفين وصاحب البوفيه على المحطة، وبعد ذلك يمكن وضع النقود في البنك .. وكان من الممكن السباحة في قارب من ضيعة إلى ضيعة، والعزف على الكمان ولدفع الناس، حينها، من مختلف الطبقات نقوداً من أجل ذلك .. وكان من الممكن تجريب قيادة قوارب التنزه، وهذا أفضل من صناعة التوابيت .. وفي النهاية كان من الممكن تربية الوز واصطياده ثم بيعه شتاءا في موسكو، وعندئذ كان من الجائز تحصيل ما يقرب من عشر روبلات في السنة من بيع الريش وحده .. ولكنه غفل عن كل هذا ولم يفعل أي شيء منه في حينه، ويالها من خسارة ..! ياه، يا لها من خسارة ..! ولو كانت كل هذه الأشياء معا : صيد السمك والعزف على الكمان وقيادة القوارب واصطياد الوز، فأي رأسمال كان من الممكن تحقيقه ..! ولكن لم يكن هناك أي شيء من ذلك حتى في المنام .. ومرت الحياة دون جدوى، بدون أية لذة، ضاعت هباء وهدراً، ولم يتبق أي شيء في المستقبل، وإذا نظرت للوراء فهناك أيضاً لا يوجد شيء سوى الانتكاسات والخسائر، وتلك الفظائع التي تقشعر منها الأبدان، لماذا لا يستطيع الإنسان أن يعيش بحيث لا توجد هذه الخسائر ؟ يا ترى من أجل ماذا قطعوا شجرة البتولا وحرش الصنوبر؟ ولماذا كف الكلأ عن العطاء ؟ ومن أجل أي شيء يفعل الناس دائما كل ما هو غير ضروري لهم ؟ من أجل ماذا أمضى ياكوف حياته كلها يتشاجر ويتخاصم، ويزعق ويصرخ، يهدد بقبضتيه، ويسئ إلى زوجته .. ويا ترى ما الداعي لكي يفزع (اليهودى) ويهينه الآن ؟ لماذا يعرقل الناس، بشكل عام بعضهم البعض عن الحياة ؟ فما أكثر الخسائر الفادحة ..! وما أكثر الانتكاسات البشعة من جراء ذلك ..! ولو لم يكن الحقد والضغينة لكان للناس من بعضهم البعض منافع عظيمة ..في المساء وبالليل كان يتراءى له الطفل الصغير، والصفصافة، والسمك، والصيد، والوز، ومارفا تشبه من جانب وجهها طائراً يهم بشرب الماء، ووجه روتشيلد الممتقع المسكين، وسحنات ما أخرى تميل عليه من جميع الاتجاهات مدمدمة بخسائره .. وراح يتقلب من جنب إلى جنب، ونهض من فراشه ما يقرب من الخمس مرات لكي يعزف على الكمان ..في الصباح رفع جسده من الفراش بصعوبة بالغة، وذهب إلى المستشفى، أمر له مكسيم نيكولايتش بنفسه بوضع كمادة باردة على رأسه، وأعطاه مسحوقاً، ولكن ياكوف أدرك من ملامحه ومن نبرة صوته أن الحالة سيئة، ولن تنفع أي مساحيق .. وبعد عودته إلى البيت أدرك أن هناك منفعة واحدة من الموت : فليست هناك ضرورة للأكل، ولا للشرب، ولا لتسديد الصدقات والإتاوات للكنيسة، ولا الإساءة للناس، وبما أن الإنسان سيرقد في القبر ليس عاماً واحداً، وإنما مئات وآلاف السنين، فلو حسبنا المنفعة لبدت عظيمة .. ومن حياة الإنسان لا يتأتى أي شيء سوى الخسارة، أما من موته فتأتى الفائدة، وهذه الفكرة بالطبع بديهية، ورغم ذلك فكل هذا مؤلم ومرير : فلماذا يوجد في العالم ذلك النظام الغريب، حيث الحياة التي توهب للإنسان مرة واحدة فقط تمر هكذا دون جدوى ؟لم يكن مؤسفاً له أن يموت، ولكن ما إن وقعت عيناه في البيت على الكمان حتى انقبض قلبه، وشعر بالأسى والأسف لكونه لن يستطيع أخذ الكمان معه إلى القبر، وسيبقى الآن يتيماً، وسوف يحدث معه نفس ما حدث مع غابة البتولا وحرش الصنوبر. كل شيء في هذا العالم قد ضاع، وسوف يضيع على الدوام ..!خرج ياكوف من البيت وجلس قرب العتبة وهو يضم الكمان إلى صدره بقوة .. وبينما راح يفكر في حياته الخاسرة التي ضاعت هدراً، عزف على الكمان دون أن يدري هو ذاته ماذا يعزف. فخرج العزف حزيناً ومؤثراً وانهمرت الدموع على خديه، وكلما استغرق في التفكير، غنى الكمان بشكل أكثر حزناً ..أصدر مزلاج الباب الخارجى صريراً، مرة ومرتين، وظهر روتشيلد في الباحة الخارجية أمام البيت .. قطع نصف المسافة بشجاعة، وما إن رأى ياكوف حتى توقف فجأة وانكمش تماماً .. وراح من رعبه يصنع بيديه تلك الإشارات التى كما لو كان يود بها أن يبين على أصابعه كم الساعة الآن ..قال ياكوف بحنان داعياً إياه:- تعال .. لا تخف .. تعال .!تطلع روتشيلد بارتياب .. وبخوف أخذ يقترب، ثم توقف على بعد ساجين منه .. وقال مقرفصاً :- انتم .. أعملوا معروفا لا تضربونى ..! لقد أرسلونى موسي إليتش من جديد .. قالوا لا تخف، اذهب ثانية إلى ياكوف وقل له إن الأمر بدونهم غير ممكن إطلاقاً .. فيوم الأربعاء عُرس .. نعم.. نعم.. السيد شابوفالوف .. سيزوج ابنته لإنسان جيد .. وأضاف (اليهودي) مضيقاً عيناً واحدة :- والعُرش سيكون رغيداً .. أو.. أوو..!قال ياكوف متنفساً بصعوبة :-لا أستطيع .. لقد مرضت يا أخي ..وراح يعزف من جديد والدموع تتقاطر من عينيه وتتساقط على الكمان .. وأخذ روتشيلد ينصت باهتمام مائلا نحوه بجانبه وعاقداً ذراعيه على صدره، بينما التعبير المذعور على وجهه يتحول شيئاً فشيئاً إلى شعور حزين مشفق، وجحظت عيناه كأنما يعاني من إحساس بالإعجاب المضنى .. ثم تمتم وااه … ..! وسحت دموعه ببطء على خديه وراحت تقطر على سترته الخضراء ..ظل ياكوف طوال النهار راقداً مغموماً .. وبينما كان القس يحصل منه على الاعتراف في المساء، سأله عما إذا كان قد نسي الاعتراف بذنب ما مهم .. وفيما راح ينشط ذاكرته الضعيفة، تذكر من جديد وجهه مارفا الناضح بالشقاء، والصرخة المؤلمة (لليهودي) الذي عضه الكلب، ثم قال بصوت لا يكاد يسمع :- سلموا الكمان لروتشيلد ..فأجابه القس :-حسناً ..الآن يتساءل الجميع في البلدة : من أين لروتشيلد بهذا الكمان الجيد ؟ اشتراه أم سرقه، أو من الممكن أن يكون قد حصل عليه كرهن؟ أما هو فقد ترك الناي منذ زمن بعيد، ويعزف حالياً على الكمان فقط .. ومن تحت قوسه تنساب أيضاً تلك الأنغام الحزينة كما كانت تنساب آنذاك من الناي .. ولكنه عندما يحاول إعادة ما عزفه ياكوف وقتما كان جالساً على العتبة، كان يخرج منه شيء يوحي بالحزن والأسى بحيث ينخرط السامعون في البكاء رغماً عنهم، فيما كان هو في نهاية اللحن يجحظ بعينيه متمتماً : واااه ه ه ..!وفي ما أثارت الأغنية الجديدة الإعجاب في البلدة، راح التجار والموظفون يدعون روتشيلد أثناء فترات الراحة ويرغمونه على عزفها عشرات المرات ..



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى