نزار حسين راشد - مداخلات القد

كان رحمه الله ظالماً غاشماً، غصب أرض أخته من ميراث أبيها، وأجبرها على توقيع تنازل عن حصتها، التي تربّعت على أجمل تلة في أجمل موقع في القرية، أرض منبسطة، وسماء فسيحة وهواء لا مثيل له في النقاوة.
بحكم الجيرة، كنت أراه يخطر ذاهباً إلى منزل أخته، مرتدياً حلّته التي تشعشع نظافة، وكأنها غطاء لطويته السوداء.
أخته رفضت كما أشارت عليها بعض النساء، أن ترفع كفيها وتتحسب عليه او تدعو عليه، قالت:
-لقد رعاني وأنا صبية صغيرة، وصان كرامتي من أن يعتدي عليها أحد، وزوّجني لصديقه، وأنجبتُ منه أربعة أولاد قرّت عيني بهم، كلهم مرضيين، وترفع ظاهر يدها وتقبلها شكراً لله على نعمائه.
في الحقيقة لم يكن صديقه هذا أقّل منه ظلماً وغشماً، ولكن المرأة رضيت بقسمتها ونصيبها من الدنيا،ورأت في أولادها خير تعويض.
المهم أن صاحبنا هذا باع الأرض بسعر باهظ لمديرة مدرسة متقاعدة من المدينة المجاورة، حين رأى تلهفها على الأرض ووقوعها في نفسها موقع استحسان، او كما عبّر هو:
- كانت مستميتة على الموقع فحصلت منها على أعلى سعر.
المهم أن صاحبنا اختفى من المشهد، فارّاً بغنيمته،وترك لنا السيدة الجديدة الأنيقة، وفكّرت أن هذا قاسم مشترك بينهما الأناقة وحسن المظهر، وخطر لي أنها ربما تكون مثله تستر سواد قلبها، بهذا المظهر الناصع.
ولكن وشائج ود سرعان ما نمت بين أخت الغاصب والسيدة الجديدة، حتى رأت فيها خير تعويض عن ظلم اخيها، وقالت أن الجار الطيب أفضل من مائة أرض، وانها تفضل أن تتصابح بوجه هذه الجارة السمح، على وجه أخيها العابس، على الرّغم من أنها التمست له عذراً، انّ الله خلقه هكذا.
أنا عن نفسي طالتني أيضاً بعض بركات السيدة الجديدة، فكلما مرت وأنا أمسك بطرف خيط طيارتي الورقية كانت تمسح على رأسي، وتحبوني بابتسامة عريضة، كاشفة عن أسنان بيضاء لا أدري كيف احتفظت بها، ولكن بعض القرويات أشعن أنها اسنان زراعة، وأن أطباء المدينة بارعون في هذا المجال.
المهم أن السيدة بعد ان نمت الألفة بيننا، دعتني إلى منزلها واعدة أن تقدم لي هدية، وتذكّرتُ تحذيرات أمي من أن السيدات العجائز الوحيدات، يخدّرن الأطفال ويبيعونهم إلى الخواجات.
قلّبت الأمر في رأسي، وتوصلت إلى نتيجة أن أحاديث أمي أحاديث خرافة، فهي مغرمة بالترويج لكل إشاعة يطلقها القرويون على أهل المدن، وقرّرت زيارة السيدة، وكانت مكافأتي كيساً من الحلوى وطائرة ورقية ملوّنة، اشترتها من سوق المدينة خصيصاً لي.
حملت هديتي وعدت إلى بيتنا بأمان وسلامة.
سارت الأمور هادئة وادعة على خير ما يرام، إلى أن تصايحت الجارات ذات يوم أن عايدة لدغتها عقرب وهي تلعب أمام بيتهم، وفزِعت الجارة مغصوبة الارض إلى السيدة المدنية، فهذه هي التسمية التي اتفقوا أن يطلقوها عليها، علها أن تنقلها بسيارتها إلى عيادة القرية، ولكن السيدة طمأنتهم إلى انه لا داعي لذلك، وتناولت مرطباناً زجاجياً، وهرعت بصحبة الجارة إلى بيت عايدة التي كانت تصرخ بأعلى صوتها من الألم، حدّق الجميع بدهشة بالغة في المرطبان الزجاجي المملوء بعقارب ميتة منقوعة في سائل ، أخرجت مشرطاً من حقيبة يدها،وطلبت إلى النساء المفزوعات أن يثبتن عايدة بقوة، وفتحت الجرح برفق، ثم نزعت غطاء المرطبان وسكبت شيئاً من السائل في فم الجرح المفتوح، وما هي إلا دقائق حتى هدأت عايدة ولم تعد تصرخ، ووقفت مذهولاً بدوري أمام هذه المعجزة، أنا الذي تسلّلتُ إلى المشهد دون أن يشعر بي أحد،فقد كنت أكنّ لعايدة في قلبي شيئاً من الوُدّ والمحبة.
انتقلنا بدورنا إلى المدينة، ونسيتُ هذه الحادثة تماماً، وارتقيتُ في الصفوف حتى أصبحتُ في الخامس الإبتدائي، وفي حصة العلوم التي أحبها كان الأستاذ يشرح لنا عن اكتشاف اللقاحات والأجسام المضادة، وعلى الفور استعدت في ذهني قصة عايدة ومرطبان السيدة المدنية، وعثر ذهني النتشوف منذ ذلك الحين على تفسير ما ظننته معجزة، وكنت فرحاً بذلك كثيراً.
كانت اخبار القرية تصل إلينا أولاً بأول ومن ضمنها، أن السيدة المدنية عالجت لدغة أفعى وشفي الملدوغ تماماً، ومنها أيضاً أن الغاصب صحا ضميره أخيراً، وعوض أخته بقطعة أرض أخرى في طرف القرية، مقام عليها علّية.
وهكذا انتهت الامور كلها إلى نهاية سعيدة، في قريتنا المحروسة بعناية الله سبحانه وتعالى.

نزار حسين راشد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى