محمد الطايع - سرير الوجع.. قصة قصيرة

هناك.. لا أعرف البيت على وجه التحديد، لكني أقصد أحد تلك المنازل القريبة، يحدث أن ينتبه البعض للحرب الدائرة في الخفاء بين الرجل وزوجته. وبالنسبة لصديقي سعيد وقريبتي لبنى، تبدو الأمور بينهما هادئة في الظاهر.. وكانا قد تزوجا منذ سبعة عشر عاما، ويحكى أنهما اجتمعا على حب، لكن الحب مات وبالتدريج. ثم أتى العنف الصامت على ماتبقى بينهما من مودة ورحمة، فإذا بهما غريبان تحت سقف واحد. أو بالأصح غريبان في منزل واحد..
لم تتواجد لبنى تحت سقف غرفة نومنا منذ عامين..! هذا ماصرح به سعيد، حين سألته عن زوجته..
في البداية كان هجرها لي أمرا صعبا.. ثم جاء اليوم الذي قررت فيه أن أوقف مهزلة الابتزاز الجنسي، وألا أنام معها مادام القرب منها يكلفني الكثير. وحين أخبرني صهري عبد العزيز أنه يدفع لأختها الكبرى رحمة، نقودا في كل مرة يريد النوم معها.. ضحكتُ بجنون، ثم ضربتُ كفا بكف وقلت: لاحول ولا قوة الا بالله، ماهذا الحمق؟ أي سلالة عوالق هذه؟! بينما أكد لنا صهرنا رشيد زوج الأخت الوسطى كريمة أنها لا تلين له الا إذا قدم مابين يدي خلوتهما هدايا، ولابد أن تكون تلك الهدايا ثمينة، فهي لاتقنع بأي شيء، لذلك لجأ الى صحبة العاملات الفقيرات الخاضعات لإمرته في المصنع..
في بداية زواجهما.. كانت لبنى تخبر سعيدا عند كل جماع، أنها رأت خاتما جميلا.. أو دملجا.. أو سلسلة.. فكان لا يتردد في كتابة شيك بالمبلغ المطلوب، لكنه لما حسب الأمر جيدا.. أدرك أن مضاجعة الزوجة أصبحت مكلفة بشكل يتعدى كل التوقعات.
قال سعيد متسائلا:
- وإذن.. ما الذي يميزني عن الرجال المسرفين الذين يوزعون أموالهم على نساء الحانات والمراقص؟
ثم رفعت لبنى سقف طلباتها، فكانت البداية همسا، ثم تحول الهمس إلحاحا يوميا وبصوت مرتفع، اذ كانت خطتها تقتضي الا تمنحني مهلة للتفكير، وقد خططت أن تصبح المالكة الشرعية للبيت أو نصفه كمطلب معتدل، مع رغبتها في الحصول على نصف فوائد تجارتي.. ولأنني ترددت في إجابة طلبها، فقد بدأت تلوح بوادر المعركة..
ثم اختفت الابتسامة من على وجهها، فأيقنت أن الحرب قد بدأت فعلا، لن أنسى كيف كانت تهينني وهي تغلق باب غرفتها في وجهي بعنف، كلما أبصرتني متوجها نحو المطبخ، وقد توقفت عن الاهتمام بي كليا، لكن حيلتها تلك لم تنفع معي، فلن اقدم على أي فعل طائش يوجب اعتذارا بعد ذلك، لقد عرفت أنها تستدرجني الى مرحلة أكثر تصعيدا، وأنها تدفعني الى بؤرة الأخطاء الفظيعة، لكنني لست غبيا، كما أنني أدين وبشدة من يضرب المرأة، أو يعاملها باحتقار، نعم هناك الكثير من الرجال القساة، لكنني قطعا لست منهم، لقد كنت دائما على بينة من أمري، فأنا اعتبر الرجل الذي يمد يده على امرأته حيوان.
انما وبرغم صلابتي تهاوت شجاعتي، ودمرني تمزقي وحيرتي وسببا لي الكثير من الحزن، مما جعلني أضعف أحيانا فأفكر في إرضائها والنزول عند رغبتها.. لولا قربي من صهري عبد العزيز.. واطلاعي على مدى بؤسه وسوء حالته، فلن أبالغ إن قلت إن زوجته رحمة امرأة متطرفة، وأنها تستطيع كتابة مجلد كبير عن فن ترويض الرجال..
ذات يوم أدرك المسكين أنه اصبح نكرة، وأن وجوده في بيته لم يعد يساوي فردة حذاء، خاصة بعدما أصبح ممنوعا من ابداء رأيه أو استرجاع بعض حقوقه، وذاك أنه بات مهددا بالطرد من بيته، وهذه عاقبة من يقبل بسلسلة الكلب في عنقه من أجل شهوة الجنس..
المغفل الكبير.. لقد أصبح فقيرا بعدما وزع مثل الأحمق جميع ممتلكاته على أبنائه وهو حي يرزق، فلم يحرك ساكنا حتى وهو يرى سخافة زيجات بناته المتوالية، فتلك عقود النكاح كانت مجرد صفقات خالية من قيم التعايش والحب.
لا صوت يعلو على صوت رحمة، المرأة الحديدية التي تدير عالمها بكل عتو وجبروت، مع أنها يوم دخلت بيته أول مرة، لم تكن تمتلك الا عدة زينتها وابتسامتها الماكرة، تلك المرأة الآن أصبحت آلة لعد النقود.. وكانت سيدة بالغة الاغراء والحسن، حديثها ساحر وقوتها تعادل قدرة جيش من محترفات الإغواء. هذا ويشهد الجميع أنها عفيفة، إذ لم يسبق لأحد أن رآها بصحبة غريب.
بعد سنوات من الإهمال العمد، أصبح عبد العزيز غريبا مهمشا وسط عائلة هو مؤسسها، ثم اكتفى بالاقامة في غرفة صغيرة قرب الباب، بعدما كلفته الزوجة بكل المهام الحقيرة التي كانت من اختصاص البواب.
وهو يقص علي بعضا من فصول مأساته.. ضحكت بشكل هستيري، فلقد أخبرني انه ذات مساء.. صعد متسللا الى غرفتها، فلما توسلها وتمنعت.. تعالى صياحهما وهي تطرده، ابنهما الأكبر فؤاد، هو من تطوع و سحب والده من ذراعه، وأرغمه على المغادرة قبل أن تسوء الأمور..
يومها قررت أن أكون أكثر حذرا مع لبنى وألا أستسلم لها مهما كلفني الأمر.. لبنى ليست بمثل قسوة أختها رحمة، لكنها تعتبرها مثلها الأعلى وهذا مايخيفني.. حين تتأكد المرأة أنك في حاجة إليها.. تستغل رغبتك الطبيعية، فتساومك على القبلات والابتسامات، وتجعل لكل لمسة ثمنا، ولكل همسة سعرا، أحيانا.. تلجأ الواحدة منهن لفرض حصار جنسي رهيب داخل البيت، كنوع من العقاب الجماعي..
حين تختفي الألفة بين الزوجين، يتعكر مزاج الجميع.. حتى الاشياء الجامدة، مثل الاواني والستائر والأرائك، التي اقتنيناها ذات حلم بالفرح، تغدو أشبه بسلع معروضة للبيع.. في سوق خال من الزائرين، مما لاشك فيه أن استعمالنا لها بحب، هو ما يمنحها حياة داخل الحياة..
أستاذ سعيد، ما لم أفهمه حتى الان، هو أنك ترفض فكرة طلاقك من لبنى..!!
ببساطة.. انه تحد بارد، أنا أكرهها، وهي تمقتني، وكلانا يتمنى الموت للآخر، لكن أن يلوح أحدنا بفكرة الطلاق، فذاك معناه أنه تعبَ ولم يعد قادرا على مسايرة قانون اللعبة التي تتطلب صبرا وذكاء.. إنها تجتهد كي تثبت أنها أقوى، وأنا ألاعبها حتى آخر الأشواط..
يوم جمعتنا آخر مائدة غذاء، انزعجتُ حين سحبتْ من أمامي صحن الفاكهة، مع أنني أنا الذي أدفع مقابل كل شيء، فكان ان انتظرتُ حتى تفرق أبناؤنا، فخاطبتها قائلا:
- لماذا كل هذا العنف يا امرأة؟
قالت وملامح وجهها بالغة الجدية:
- إنك عديم الثقة، لقد خاب ظني بك..
وأنا أرى الطريقة الفجة التي تتكلم بها، كدت أن أركل المائدة، لكنني تداركت نفسي.. ثم اكتفيت بالتحديق في راحتي يدي المرتجفتين، بينما اضافت قائلة:
بسببك أصبحت محط سخرية من طرف أختاي، رحمة وكريمة، أنا الوحيدة التي لا أملك شيئا.. أنا الوحيدة التي حرمتُ من أن يكون لدي بيت باسمي وأكون المالكة الحقيقية لسيارتي، أنا التافهة التي لاتعرف كيف تخبر صديقاتها البارعات، أنها لاتملك رصيدا بنكيا محترما يحميها من الضياع، مع أنني الأصغر والأجمل والأذكى.. وزوجي أكثر ثراء من أزواجهن..
- إنها تبالغ، أليس كذلك؟
حين فرغت من شكواها.. دنوت منها وقلت:
- انتبهي يا لبنى، ألست أنا وكل ما أملك، مِلك لكِ ولأبنائك؟
فما كان جوابها الا نظرة استهجان، قبل أن تقول بوضوح كامل:
- دعك من هذا الكلام الذي لانفع فيه، لقد جعلتني أضحوكة، ما الذي استفذته حتى الآن من زواجي منك؟ ما الذي ربحته لقاء تعبي الطويل؟ هل تزوجتني فقط لكي أنجب لك الأطفال؟ إن كان هذا هدفك لن يسامحك الله ابدا..
- يا للعجب! قلت مستغربا:
لطفك يارب.. هل انت لبنى الطيبة الجميلة الحالمة الرومانسية التي أحببت ذات يوم؟
بماذا أجابتك اذن؟
قالت بكل جدية:
- لم أكن يوما رومانسية تافهة وساذجة، يشتريها رجل بوردة، أو كتاب مربوط بشريط ملون..
- هل أنت متأكد أنها لاتخونك..؟
- نعم أنا متأكد من ذلك، انها لا تفكر في الجنس اطلاقا، ولا الحب ولا أحاديث الغرام التي تظنها تافهة، كل الذي يشغلها هو امتلاك ثروة، إنها تسرق مني الكثير، وهي الان تشيد منزلها الخاص، انما فوق قطعة أرضية أنا مالكها الفعلي، غاية استمتاعها أن تصدق صاحباتها أنها الآمرة الناهية وأنها المتحكمة في الجميع. لكنها ليست سوى مقلدة وشتان بينها وبين أختها رحمة سيدة الاستحواذ.. كل الذي برعت فيه لبنى لحد الآن.. تشويه سمعتي بين الناس، وإشاعتها بينهم أنني عديم المروءة والذوق.
سوف أكون سعيدا بحق، اذا ما عجزتْ عن إتمام المشروع.. لعلها تتوسلني لكي أخلصها من ورطتها، وان كنت استبعد ذلك..
- هل تساعدها إذا ما احتاجت اليك؟
- أنا أساعدها طوال الوقت.. فهي في الأصل سيدة بيت، ولا تملك اي دخل مادي مستقل..
- ماذا لو نجحت .. ؟
- ربما تنجح..
- لم أفهم.. هل تريدها أن تنجح..؟!
- نعم، كلما اجتازت شوطا جديدا، كلما تورطت أكثر..
- هلا شرحت لي..
- لاوقت لدي، تلك تفاصيل كثيرة يصعب تلخيصها الان.. يكفي أن تعلم أنني أوقعتها في فخ طويل الأمد، ويوم تكتشف أن سلطتي هي الأعلى.. سوف تغدو فاقدة للكثير من الحماس والقوة،
انني ياصديقي أرسم لها نهاية لا أحد يتوقعها.. طموحها الجارف يساعدني للايقاع بها. وقد أوحيت لها حتى الآن بطرق شتى، فابتكرتْ أساليب سرقة تظنها متطورة، لكنها من منظوري محض أساليب متهورة.. وذاك أنني على علم بأدق تفاصيل تحركاتها، لذلك أسهل عليها الأمر، أحيانا أتظاهر بالغفلة والنسيان، لست أدري كأنني أتسلى بما يحدث..
- كان الله في عونك صديقي، لكنك لم تخبرني هل لديك خليلة؟ الا تنوي الزواج من امرأة أخرى؟
- لا أفكر في ذلك، على الأقل في الوقت الحالي..
- حسنا.. لو كنت مكانك لطلقتها واسترحت. وهذا طبعا إن كنت صادقا فيما قصصته علي، لأنني حتى الآن استمعت لطرف واحد، ولست أدري ما الذي يمكن للبنى أن تفاجئني به إن أنا سألتها عنك، فلربما تحاول أن تلمع صورتك، ربما مارست بعض التدليس في حديثك، وصوَّرْتَها بما يخدم مصلحتك، ولأنك سميت مايحدث بينكما حربا، فإنه من غير المستبعد أن أسلوبك اللبق في الحديث، مكر وتحايل على هامش الأحداث، ومن يدري لعلك صادق جدا.. بيد أني لمست بعض المبالغة فيما يخص حديثك عن أختيها رحمة وكريمة. خاصة مسألة المقابل المادي عند ممارسة الجنس.
- لا أدري بماذا أجيبك صديقي، الأيام ستحكم بيننا، أما بخصوص الطلاق، فإنه غير وارد، لاتنس أن لدينا أبناء.. لا أريدهم أن ينتبهوا لما نعيشه من صراع أنا وأمهم، لكن وللأسف، تظل خسارتي لأبنائي وشيكة.. إنها تصورني للبنات كما لو كنت وحشا.. حتى أن ابنتي البكر عفاف، ماعادت تبادلني تحايا الصباح والمساء. صدقني.. لو كان الطلاق حلا لأمثالنا، لما أصبح هناك سوى بضعة ازواج في هذه المدينة..
- ماذا تقصد ياصديقي؟ أليس في هذه الانحاء أزواج سعداء؟
- موجودون.. لكنهم قلة، إنما لا يتحقق التعايش، الا اذا كانت سيدة البيت امرأة عاقلة. وكان طموحها أن ترى زوجها وأبناءها في أحسن الأحوال.. مفتاح الحياة السليمة في جل البيوت بيد المرأة، وهذا ما يجب أن يفهمه الجميع..
- حسنا.. أتمنى لكما السعادة..
- لست سعيدا إطلاقا، يا صديقي. أما لبنى فإنها لم تعد تجرؤ على التظاهر بأن أمورها على ما يرام.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى