حسن حنفي - من علم أصول الدين إلى علوم الحكمة

أـ علم أصول الدين وعلوم الحكمة كلاهما علمان نظريان يؤسسان عقائد ونظريات في مقابل العلمين المنهجيين اللذين يؤسسان مناهج وطرقا، علم أصول الفقه وعلوم التصوف. وعلى الرغم من وجود موضوع منهجي في علم أصول الدين وهو "العقل والنقل"، وموضوع منهجي آخر في علوم الحكمة وهو "المنطق" الا أن الطابع العام للعلمين هو الطابع النظري. وهذا لا ينفى وجود فكر عملي أخلاقي سياسي في كلا العلمين، الإيمان والعمل والامامة في علم اصول الدين، وعلم الأخلاق والسياسة وتدبير المنزل في الحكمة العملية في علوم الحكمة، ولكنه فكري عملي نظري أي دراسة نظرية خالصة لموضوعات الأخلاق والسياسة والاقتصاد.
ب_ علوم الحكمة تطوير طبيعي لعلم أصول الدين، وإعادة تفكير في نظرية العلم التي تحولت إلى منطق، ونظرية الوجود التي تحولت الى طبيعات، والالهيات التي ظلت إلهيات، والسمعيات أو النبوات إلى نفسانيات أو شرعيات كما هو الحال عند إخوان الصفا باضافتهم قسما رابعاً إلى علوم الحكمة. وقد كان الفلاسفة الأوائل متكلمين قبل التحول إلى فلاسفة بفضل قراءة الوافد بالاضافة إلى الموروث مثل الكندي. ويقل الكلام تدريجياً حتى تبتلعه الفلسفة كما هو الحال في علم الكلام المتأخر ابتداء من القرن السادس.
ج_ علوم الحكمة أيضاً تطوير طبيعي لعلم أصول الدين من حيث منهج الاستدلال. فبينما يعتمد أصول الدين على الدليل النقلي والدليل العقلي فإن علوم الحكمة تعتمد في الغالب على الدليل العقلي وحده. صحيح أن الدليل النقلي وحده دون دليل عقلي دليل ظني طبقاً لنظرية العلم في علم أصول الدين، وأن العقل أساس النقل عند المعتزلة، وأن من قدح في العقل فقد قدح في النقل لموافقة صحيح المنقول لصريح المعقول عند ابن تيمية، ومع ذلك فإن استعمال الدليل النقلي يعادل استعمال الدليل العقلي في علم أصول الدين. أما علوم الحكمة فإنها استغنت استغناء شبه كلي عن الدليل النقلي، واعتمدت على اتساق الخطاب العقلي وحده. فالحكمة تتجاوز الديانات والكتب المقدسة. هي الحكمة الخالدة الواحدة التي وراء تنوع الشرائع وتعدد الديانات. علوم الحكمة بهذا المعنى تطوير للاعتزال. كان الكندي متكلما قبل أن يصبح فيلسوفا، وله رسالة في الاستطاعة في موضوع خلق الأفعال. ثم خطا خطوة أبعد نحو علوم الحكمة. فكان أول فيلسوف، فيلسوف العرب.
د_ علوم الحكمة تطوير طبيعي لعلم أصول الدين وتحول للعقائد إلى نظريات، وقواعد الإيمان إلى تصورات عامة للكون، وباختصار تحويل "الثيولوجيا" إلى "أنطولوجيا". لقد وضع علم اصول الدين نظرية الذات والصفات والأفعال، وتنازعها تصوران، التشبيه والتنزيه، الحلول والمفارقة، التشخيص والتعقيل. ثم طورتها علوم الحكمة إلى نظرية واجب الوجود، الموجود لذاته في مقابل الموجود بغيره، انتقالا من عالم الأذهان إلى عالم الأعيان، دون ما حاجة إلى أدلة على وجود الله كما هو الحال في علم أصول الدين أو إلى دليل انطولوجي كما هو الحال في الفكر الغربي. صحيح أن نظرية الوجود في المقدمات النظرية في علم أصول الدين قد اقتربت أيضاً من مباحث الأنطولوجيا ولكنها ظلت أنطولوجيا الأجسام المادية أي الجوهر والأعراض منها إلى الأنطولوجيا العامة. وصحيح أيضاً أن علوم الحكمة ما زالت متصلة بالعقائد بالرغم من تحولها إلى تصورات. فصفات واجب الوجود مثل العلم والحياة والقدرة تشبه صفات الذات في علم أصول الدين. كما أن موضوع قدم العالم وحدوثه هو الغاية القصوى من مبحث الوجود في علم أصول الدين من أجل اثبات حدوث العالم كدليل على وجود الله. وموضوع المعاد في علم أصول الدين مشابه لموضوع البعث في علوم الحكمة دون صوره الفنية ابتداء من عذاب القبر حتى الصراط والميزان والحوض. علم العقائد يغذي علوم الحكمة من الباطن وإن لم يبدو على السطح في التصورات النظرية العامة في علوم الحكمة.
ه‍_ علم أصول الدين علم مفرد كما يدل على ذلك تسميته بلفظ مفرد، لم تتمايز علومه بعد إلى علم الالهيات وعلم النبوات أو علم العقليات وعلم السمعيات في حين أن علوم الحكمة علوم بالجمع كما يدل على ذلك تسميتها بلفظ الجمع. تمازيت فيها علوم المنطق والطبيعات والالهيات طبقاً للقسمة الثلاثية الشهيرة. وبالتالي تُعتبر علوم الحكمة أكثر تطورا من علم اصول الدين من حيث العلم الواحد الشامل إلى علوم جزئية متخصصة. وقد حدث نفس التمايز في علوم التصوف بالنسبة الى علم أصول الفقه.
و_ علم أصول الدين يتعامل أساسا مع الداخل، مع الموروث الديني. في حين تتعامل علوم الحكمة أساسا مع الخارج، الوافد المنقول بعد أن أصبح موروثا بعد عصر الترجمة. صحيح أن علم أصول الدين يتعامل أيضا مع الخارج ولكن في مرحلة متأخرة وليس في مرحلة النشأة، في مرحلة التطور والاكتمال وليس في مرحلة التكوين الأولي أو حتى في مرحلة الانهيار الأخيرة، مرحلة قواعد العقائد السلفية. وقد استخدم البعض منه كأدوات وثقافات حديثة لنصرة العقائد القديمة والدفاع عنها وليس كحقائق مستقلة بذاتها. كانت أقرب إلى علوم الوسائل منها علوم الغايات في حين أنها في علوم الحكمة أقرب إلى علوم الغايات منها إلى علوم الوسائل. كان هدف علم أصول الدين الدفاع عن الأنا ضد الآخر خاصة في البداية وعلى مستوى العقائد في حين كان هدف علوم الحكمة تمثل الآخر واحتوائه واستعماله كأدوات وألفاظ للتعبير بها عن مقاصد الحضارة الجديدة الناشئة. وبالرغم من اقتراب علم الكلام المتأخر من علوم الحكمة الا أنها ظلت فيه خارجية عن بنية العقائد، مجرد مقدمات نظرية وصلت إلى حد ثلاثة أرباع العلم. أما علوم الحكمة فإنها تكاد تخلو من العقائد الكلامية المباشرة، وتعبر عن تصورات عامة وشاملة للكون اعتماداً على الثقافة الوافدة ومن خلال مفاهيمها والفاظها وتصوراتها.
ز_ كان المشتغلون بعلم العقائد أكثرية حريصة على عقائد العامة في حين كانت علوم الحكمة للخاصة. وكان المشتغلون بها أقلية تصدم عقائد العامة. كانت علوم العقائد تدرس في المساجد في حين حمل لواء علوم الحكمة أفراد قلائل متهمون بالكفر من خطباء المساجد وأئمتها. كان علماء الكلام من الحرفيين وتجار السوق. كان منهم النجار والعلاف والغزال. في حين كان الفلاسفة من العلماء والوزراء وعلية القوم وندماء البلاط. وإذا كان علم أصول الدين مستمرا كمخزون نفسي عند الجماهير خاصة فيما يتعلق بتراث السلطة فإن علوم الحكمة قد انقطع الاتصال بها لأنها كانت أقرب إلى الدوائر الخاصة المغلقة منها إلى الثقافة العامة لم يبق منها شيء في وعي الجماهير إلا جانبها الأشراقي من خلال التصوف. ومن هنا ارتبطت ثقافة الجماهير بعلم أصول الدين أكثر من ارتباطها بعلوم الحكمة. بينما ارتبطت ثقافة الصفوة بعلوم الحكمة أكثر من ارتباطها بعلم اصول الدين. وبدلا من علوم الحكمة القديمة انتشرت الثقافة الغربية المعاصرة كوافد حديث يملأ فراغ الموروث القديم. كما انتشرت ايضاً بين الخاصة دون العامة.
ح _ كان هدف الفرقة الناجية من بين الفرق الهالكة تدعيم السلطة دفاعا عن النظام القائم. بينما كان الغرض الأساسي من علوم الحكمة تقويض السلطة القائمة من الداخل. إذ انتشرت في الجماعات السرية مثل إخوان الصفا، وارتبطت بفرق المعارضة العلنية مثل المعتزلة أو السرية مثل التشيع. صحيح هناك فرق كلامية للمعارضة كما أن هناك من الفلاسفة من كان جليس السلطان مثل الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد، ولكن الغالب على العقائد السنية تدعيم الدولة السنية بينما كان الغالب على نظريات الفلاسفة الاستقلال عن السلطة الدينية والسياسية. وربما للشيعة باع طويل في علوم الحكمة أكثر مما للسنة.
ط_ قام علم الكلام في صورة فرق أي تيارات جماعية أو أحزاب سياسية أو قوى اجتماعية مثل السنة والشيعة، والمعتزلة والخوارج، والمرجئة والجهمية. وقد كتب تاريخ علم الكلام بطريقة تاريخ الفرق وبطريقة نسق العقائد معا. في حين حمل لواء الحكمة أفراد قلائل، الكندي والرازي والفارابي والعامري وابن سينا وابن باجة وابن طفيل وابن رشد. صحيح أنه كان هناك رؤساء للفرق مثل الأشعري وواصل بن عطاء. وكان هناك فكر فلسفي جماعي مثل إخوان الصفا ولكن ظل التمايز بين العلمين هو التمايز بين عقائد الفرق ومذاهب الفلاسفة. المتكلمون كثرة والفلاسفة قلة. يعد المتكلمون بالمئات في حين يعد مشاهير الفلاسفة على أصابع اليدين. صناعة الكلام مشاع في حين صناعة الفلسفة نادرة.
ى_ وكما ارتبط علم أصول الدين بعلم أصول الفقه، فكلاهما شقان لعلم واحد هو علم الأصول، الأول أصول النظر، والثاني أصول العمل، ارتبطت علوم الحكمة بعلوم التصوف من خلال حكمة الإشراق. فمن الحكماء من ارتبط بالعقل والعلم أي بالطبيعة مثل الكندي والرازي وابن رشد. ومنهم من ارتبط بالذوق والإشراق مثل الفارابي وابن سينا وابن باجة وابن طفيل. ومن الصوفية من ارتبط بالتصوف العلمي والرياضيات والمجاهدات مثل الصوفية الأوائل وصوفية المرحلتين الأخلاقية في القرون الثلاثة الأولى وصوفية المرحلة النفسية في القرنين الرابع والخامس. ومنهم من ارتبط بالتصوف النظري مثل صوفية القرنين السادس والسابع، السهروردي وابن الفارض وابن عربي وابن سبعين. بل قد نشأت خصومات وعداوات بين المجموعة الأولى، علم أصول الدين وعلم أصول الفقه، وبين المجموعة الثانية، علوم الحكمة وعلوم التصوف، بين علماء التنزيل وعلماء التأويل، بين استنباط الواقع من الوحي واستقراء الوحي من الواقع.
ك_ علوم الحكمة تالية على علم أصول الدين، كما أن علم أصول الدين سابق على علوم الحكمة في الزمان. نشأ علم أصول الدين أولاً نشأة داخلية صرفة، ابتداء من أحداث محلية خالصة مثل الإمامة ومرتكب الكبيرة، واستمر الأمر كذلك على مدى قرنين من الزمان. في حين لم تنشأ علوم الحكمة إلا بعد عصر الترجمة، بعد دخول عنصر ثقافي جديد، هو الوافد، بالإضافة إلى الموروث القديم. فنشأ علم ثالث من حدث ثقافي يجمع بين الموروث والوافد. يطور الموروث ويُعقله كي يتمثل الوافد. ويؤول الوافد ويوظفه للتعبير عن رؤية الموروث المتجددة.
ل_ غلب علم أصول الدين على ثقافة المشرق دون المغرب، ربما لقرب المشرق من منطقة الديانات والمذاهب التي نشأ علم الكلام للرد عليها والدفاع عن الشبهات الآتية منها، في حين كان صقع المغرب بعيدا عن هذه المنطقة كما يعترف بذلك ابن رشد. وبالرغم من جمع ابن حزم لأقوال المتكلمين في "الفصل" في إطار علم تاريخ الأديان المقارن كان هناك عداء لعلم الكلام في المغرب على ما وضح في "الكشف عن مناهج الأولة" لابن رشد. وربما كانت سيطرة الفقهاء في الأندلس على الحياة العقلية أحد أسباب غياب علم الكلام فيه. في حين شاعت الفلسفة في المغرب شيوعها في المشرق بالرغم من محنة ابن رشد. فظهر فلاسفة في المغرب كما ظهر فلاسفة في المشرق. ولا يعني ذلك وجود عقلية مشرقية صوفية إشراقية وعقلية مغربية عقلانية علمية. فقد ظهرت العقلانية والعلم في المشرق قدر ظهور التصوف والاشراق في المغرب. العقلية مفهوم أوربي وافد، نشأ بدافع عنصري حضاري. إنما التيار الغالب مفهوم علمي ووصف تاريخي.

-------------------------------------
المصدر : من النقل الى الابداع / مجلد1/ النقل

حسن حنفي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى