محمد جبريل - فــــــــــراق

فاجأتنا الفتاة بنفخ الكيس الورقى الملون ، الصغير . استطال فى لولبية ، وأحدث صفيراً ، وتقلص..
قال محيى معوض :
ـ إنها تعاكسنا ..
هززت رأسى فى عدم فهم . خمنت من حوارنا الهامس اختلافنا فى معنى تصرفها . أعادت نفخ الكيس ، فاستطال ، وأحدث صفيراً ، وتقلص ، ثم غمزت بجانب عينها ، وواصلت السير ..
فتحت أمامنا عالماً مجهولاً من المغامرة : الفضول ، والتوقع ، والرغبة فى الاكتشاف ، والدهشة ..
عانى الباص زحام الطريق ، فقال محيى معوض :
ـ أثق أن السير فى هذا الزحام أفضل من ركوب الباص ..
التصقنا فى مواجهة الزحام ، ولجأنا ـ لمغالبة الضوضاء ـ إلى إشارات الأيدى والأعين ، وإيماءات الرأس ..
تركنا لأقدامنا سبيلها فى الشوارع المتوازية ، والمتقاطعة . نخلى أعيننا للمشاهدة والتأمل . نتعرف على السحن والبنايات والأسواق واللافتات والإعلانات والمطاعم والمقاهى وعازفى الأكورديون وراسمى البورتريهات على الجدران والسيارات واقفة على جانبى الأرصفة ، معظمها فيات . تلتقط العين كل ما تراه . تودعه الذاكرة . ما نراه ربما لن نعود إليه ثانية . أحتفظ بعنوان الفندق فى جيبى لأعود إليه إن تاهت خطواتنا . أزمعنا تأجيل الإحساس بالتعب حتى نعود إلى القاهرة . نعوض ما فات بالبقاء فى البيت يوماً كاملاً أو يومين ..
بدت البيوت والشوارع ـ ربما لأنى أسير فيها للمرة الأولى ـ متشابهة . بنايات عالية ومتوسطة الارتفاع وأبراج كنائس ومساحات خلاء ومقاهى ومحطات أوتوبيس وترام وأفيشات أفلام ومسرحيات وبضائع ودعاية انتخابية ..
واجهت الحيرة فى الأيام الأولى لالتحاقى بكلية الفنون الجميلة . بدت البنايات متشابهة ، وتقاطعات الشوارع ومساحاتها متقاربة . ثم فرض الاختلاف نفسه فى توالى ترددى على المبنى ذى الحديقة الواسعة . غاب التشابه ـ فى الأيام التالية ـ فغيرت طريقى بالتعرف على ما يحيط بالكلية من الشوارع والمحال والمقاهى ومداخل البيوت ..
رأينا الفتاة ـ للمرة الأولى ـ فى شارع جانبى ، قلت فيه حركة المارة والسيارات ..
أبطأت خطوات الفتاة ، تتظاهر ـ لابد أن هذا هو ما تفعله ـ برؤية ما بداخل الفاترينات . تظاهرنا بالتطلع إلى الصحف المصفوفة على الحامل الحديدى ، فى ناصية الشارع . نلتقط بجانب العين ما تفعله ، ونحدس الخطوة التالية ..
ألقت علينا نظرة سريعة ، لم أجد فيها معنى محدداً ، وإن اعتبرها محيى تحريضاً على أن نسير وراءها ..
حين استأذنت الدكتور رفيق صفوت أن يفتتح معرضى الأول ، احتضننى بنظرة ود :
ـ معرض لاثنين .. أليس كذلك ؟
حدست أنه يقصد محيى معوض . لم نكن نفترق فى المدرجات ، ولا فى قاعات الرسم ، وألفنا دغم أول الاسمين فى اسم واحد ..
أومأت برأسى تصديقاً لحدسه ..
ومض السؤال : ماذا نفعل لو أن الفتاة وافقت على التحدث إلينا ؟ وأين نذهب بها لو أنها وافقت على دعوتنا ؟ هل نستضيفها فى واحدة من عشرات المقاهى المتناثرة على امتداد الطرق ؟ أو نصحبها فى جولة على ضفة نهر التيبر ؟ وما هى العبارات التى أتصور أننا نتبادلها بعد مقدمة التعريف : محيى معوض ومحمد سامى ، من مصر . فلانة من إيطاليا . ثم ماذا ؟ هل تأذنين لنا بدعوتك إلى فنجان قهوة ؟ هل تأذنين لنا بدعوتك إلى مشروب بارد ؟ هل تأذنين لنا بدعوتك إلى جلسة فى مقهى ؟ . نكتفى بمحادثتها فيما يفد إلى خواطرنا . نتكلم ونتكلم حتى .. ماذا ؟ حتى تضغط اليدين على اليدين ، وتهمس الكلمات المودعة ..
لماذا إذن كانت المطاردة السخيفة منذ البداية ؟
قال محيى كأنه أدرك ما يجول بذهنى :
ـ إنها تتصرف مثل الأطفال ، وربما يقتصر تصرفها على ما تفعل ..
قلت فى حسم :
ـ لماذا لا نعود ؟
قال مدفوعاً بأمل لم أتبينه :
ـ نحن نتمشى ، ولن نخسر شيئاً !
قال الدكتور قاسم البحر وهو يمد يده بالمصافحة من وراء المكتب : لا يحتاج قسم العمارة إلا لمدرس واحد فقط . أجدركما ستختاره الكلية ..
فرضت المناقشة نفسها من قبل أن نستقل الطائرة إلى روما . لم نحاول مجرد الإشارة إلى الثمرة التى لابد أن يلقفها أحدنا بمفرده . شغلتنا الدراسة فى الأكاديمية المصرية ، فأهملنا التوقع . محيى هو زميل الدراسة منذ السنة الأولى بالكلية ، وصديقى . مثلت الأمر نفسه فى حياته . أثق فى صدقه ، وإن يصعب ـ فى ظل طبيعته المرحة ، المشاكسة ، المندفعة ـ أن أحدس ما ينوى فعله . يضع عينيه فى عينى ويقول : سهل أن أعرف ما بداخلك من النظر فى عينيك ! . وكنا نتفاهم بالإشارة ، أو إيماءة الرأس ، أو تعبير العين عن المعنى المقصود ..
سلكت الفتاة ـ ونحن نتبعها ـ شارعاً مرصوفاً بأحجار البازلت السوداء الصغيرة . على جانبيه فيلات ذات شرفات حجرية بنقوش وزخارف وثقوب طولية ومقرنصات ودعامات من تماثيل الرخام والمرمر ، وتتهدل على أسوارها الحديدية أغصان كثيفة تترامى منها رائحة الياسمين ..
عبرت ميداناً تتضوع منه رائحة القدم . ثمة كنيستان متماثلتان ، ومسلة رومانية ، محاطة بأربعة أسود من الرخام ، تغطيها الأضواء غير المباشرة من الأحواض الرخامية ، ويحمل الهواء رذاذ الماء الذى ينبثق من أفواه الأسود . وفى الوسط نافورة ، ينبثق الماء من فتحاتها الإثنى عشر ، وينحدر على الأحجار والصخور ، إلى الحوض الرخامى المستطيل ..
لاحظت خروج يده من جيبه بعملة معدنية . قلت :
ـ لا تفعل !.. فى الدليل السياحى أنها تسحر من يشرب منها ولا يرمى فيها نقوداً ..
ثم وأنا أغمز بعينى :
ـ من يكتفى بالشرب منها يعود إليها ثانية ..
ورحلت نظراتى إلى بعيد :
ـ شئ يذكرنا بما يقال عن الذى يشرب من ماء النيل ..
أطلنا الوقوف أمام ما بدا مسلة مصرية ، بجانبها نافورتان تنبثق منهما المياه ، فى ميدان تطل عليه كنيسة هائلة ..
أشار محيى إلى شاب وفتاة يتبادلان القبلات فى ظل شجرة :
ـ عقبى لنا !
مضت الفتاة ناحية سوق هائلة تلاصقت فيها طاولات الخضر والفاكهة والأسماك واللحوم ، واختلط الزحام والروائح النفاذة والصيحات والنداءات والشتائم ..
تباطؤ خطوات محيى وشى بإدراكه صعوبة اللحاق بها . قبل أن يهمس بالميل إلى طريق جانبى ، كانت قد اخترقت شارعاً موازياً ، يكاد يخلو من المارة ، على جانبيه بيوت لا تعلو على طابقين أو ثلاثة ، تتصل بها حدائق صغيرة ، كأنها فيلات تمتد أمامها أشجار الأكاسيا ..
لاحظت انشغال محيى بتأمل مشيتها . شعرها المنسدل على كتفيها يهتز بخطواتها الطفولية ، وذراعاها تتطوحان ، ولردفيها الممتلئين استدارة واضحة تختلف مع الضمور النسبى للخصر ، وأعلى الصدر ، والجونلة الصغيرة تبين عن ساقين مخروطتين ..
رفضت فكرة محيى أن ندور حول البنايات ، فنسبقها إلى تقاطع الطرق . ماذا لو أن المفاجأة أربكتها ، فتصرفت بما يؤذينا ؟
تقلصت المسافة بيننا وبينها بما أتاح لى تبين ملامحها . فى حوالى الثامنة عشرة ، ذات شعر كستنائى ، وعينان خضراوان ، باسمتان ، وبشرة بيضاء أقرب إلى الحمرة ..
اقترح محيى أن ننتقل من الفندق الصغير فى شارع جانبى ، إلى فندق خمسة نجوم . يعفى موظف الاستعلامات الداخلين إلى الفندق من السؤال السخيف : إلى أين ؟ الرواد يدخلون ويخرجون . يجلسون فى الصالة الواسعة . يتعاملون مع محال الخدمات فى الداخل . يتجهون إلى المصاعد . لا شأن لأحد بأحد . عمل موظف الاستعلامات هو الإجابة عن الأسئلة ، وملء الاستمارات ، وتسليم المفتاح ، واستلامه . لا شأن له بعد ذلك بشىء ..
قلت لمحيى :
ـ نحن فى مهمة دراسية .. بدل السفر الذى نتقاضاه يا دوب يكفى الأشهر الثلاثة فى روما ..
وضغطت بيدى على ساعده :
ـ لا معنى لهذه المطاردة ..
وواجهته بنظرة مشفقة :
ـ لو أنها رحبت بإقامة علاقة فسيصعب أن نصحبها إلى أى مكان ..
شوح بيده :
ـ خرجنا لرؤية المدينة .. أترك لها مهمة الدليل ..
وطرقع بإصبعيه الوسطى والإبهام :
ـ المثل يقول : إذا كنت فى روما .. افعل مثلما يفعل أهلها ..
مضت فى طريقها ، لا تتلفت ، ولا تشير بإيماءة من أى نوع ..
كنت ألجم اندفاع محيى بالتباطؤ . يبطئ بالعدوى ، وتظل المسافة على طولها بيننا وبينها ..
لكزنى محيى بكتفه فى الظلمة وهمس :
ـ دع لى مكانك !
تسللت يد المرأة متشجعة بالظلمة ، وبعرض الأفلام المستمر . لاحظت التماع سواد البشرة ، وإن لم أتبين الملامح ولا تقاطيع الوجه . لم أفطن إلى متابعة محيى الأمر من بداياته ، حتى لكزنى وطلب أن نستبدل مكانينا ..
اكتفينا بالمتابعة ..
لم نحاول تجاوز الفتاة . المهم أن تكون أمامنا . نتبعها ، وتشعر بمتابعتنا لها ..
ألقت نظرة سريعة ، ومالت إلى شارع جانبى ، هادئ ، مرصوف بمستطيلات البازلت الصغيرة . تظلله أشجار البانسيه والمارجريتا والباتونيا والفاولاكس ، وأسقف البيوت ـ على جانبيه ـ مغطاة بالقرميد . وألق الشمس يصطدم بالنوافذ الزجاجية على الواجهات ، فتبدو المرئيات ـ من ورائها ـ خيالات متحركة ..
مرقت من باب حديدى ضخم . فى داخله ظلمة شفيفة تبين عن مكاتب متلاصقة ، يجلس عليها موظفون يرتدون زياً أزرق موحداً ، ومن ورائها صفوف من الصناديق الخشبية الهائلة ، المغلقة ، اختفت الفتاة فى تقاطعاتها ..
غالب محيى الارتباك ، ثم عدل عن متابعة الفتاة إلى الداخل ..
لزمنا الوقفة تحت شجرة على الرصيف المقابل ..
حين عادت من الداخل ـ تلفتت بعفوية . خمنت أنها تنظر فيما إذا كنا قد انصرفنا ..
بدا أن محيى قد أهمل ما يمكن أن تؤدى إليه متابعتنا للفتاة . أهمل حتى تخوفى من أن تقودنا إلى خطر لا نتوقعه . نمضى وسط المارة ، والبنايات الهائلة ، والميادين ، والشوارع ، والمقاهى ذات المقاعد والشمسيات التى احتلت الأرصفة . لا ندرك ـ ولا حتى نملك التخمين ـ ما وراءها . غرباء فى مدينة غريبة . تطالعنا الواجهة وحدها . حتى الذى نلتقى به نسأله ، ونناقشه ، ونأخذ منه ونعطى . هو مجرد مصادفة ، لحظة عابرة ، تمضى بلا قبل ولا بعد . مجرد واجهة متسائلة ، أو جادة ، أو مبتسمة ، أو رافضة . قناع يخفى الملامح الحقيقية ..
وقفت الفتاة على باب المحل المغلق . واجهته من الزجاج ذى النقوش الملونة ، البارزة ..
نفخت فى كيسها الورقى الملون ، ثم دفعت الباب ..
حدجت محيى بنظرة متسائلة : هل نعود ؟
أسند ظهره إلى عمود إنارة فى هيئة المتريث ، فتوقعت أن ننتظر خروجها من المحل ..
قال الدكتور رفيق صفوت :
ـ إن أردتم شراء شئ ، احرصوا على الفصال ..
ثم وهو يهز إصبعه :
ـ العادة أنهم قد يقبلون تنزيل الأسعار إلى النصف أو أقل ..
واستطرد فى لهجة آمرة :
ـ الفصال مهم !
ابتسمت لتذكر قول عبد الله جعفر : أريد روائح روما ! ورسم بسبابتى يديه ما يعنى جسد امرأة . تقلصت التوقعات . انتهت إلى هذه الفتاة التى تداعبنا بالنفخ فى الكيس الورقى الملون ..
غادرت الفتاة المحل . عبرت الشارع . اتجهت ناحية مبنى ضخم كالكاتدرائية ، أو الكنيسة ، أو المؤسسة الهائلة ..
ظللنا فى وقفتنا على الرصيف المقابل، ننظر إلى المبنى من بعيد ..
أطلت من نافذة صغيرة تطل على جانب الطريق . أومأت برأسها ، فأشار محيى إلى نفسه . أهمل ترددى ، ومضى ـ بطبيعته المندفعة ـ ناحية المبنى ..
تشاغلت بقراءة عناوين الصحف المعلقة على جوانب الكشك المعدنى . تنبهت إلى ندائه على باب المبنى . أشرت إليه ، أنبهه إلى موضعى ..
لوح بما لم أتبينه فى يده ، وتقدم ناحيتى . رمقته بما لم أستطع فهمه ، كأنى أراه للمرة الأولى أربكنى شرود عينيه ، والارتعاشة الواضحة فى ملامحه . داخلنى توقع بالشر . لم يعد هو محيى الذى أعرفه . الرفقة فى المدرجات ، وقاعات الرسم . التفاهم بالإشارة ، أو إيماءة الرأس . تساؤل الدكتور رفيق صفوت : معرض لاثنين ؟ . قول الدكتور قاسم البحر : أجدركما ستختاره الكلية ..
تراجعت إلى الوراء ، أحاول السيطرة على نفسى من تأثير المفاجأة . تناوبتنى مشاعر غريبة ، غاب مصدرها . شلت الحيرة تفكيرى . تملكنى إحساس بالمحاصرة ..
اتسعت المسافة بينى وبينه . أدرت وجهى بعيداً عنه ..
ثم ملت إلى الطريق العكسية ..


* من مجموعة «إيقــــاعات» للقاص الكبير محمد جبريل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى