حليم بركات - العائلة العربية هرمية على أساس الجنس والعمر

نتناول هنا ظاهرتي اضطهاد المرأة والطفل، فالعائلة العربية منظمة في بنيتها تنظيماً طبقياً هرمياً على أساس دونية النساء والصغار وسيطرة الرجال والكبار.
أ ـ دونية النساء:
يتفق الباحثون والمراقبون العاديون على أن المرأة تحتل موقعاً دونياً في بنية العائلة العربية القديمة منها والمعاصرة. أما في ما يتعلق بتفسير هذه الدونية وموقف الباحثين منها، فإن هناك تيارات محافظة وتحررية:
هناك أولاً، تيار يقول إن الدين، أو الاسلام بكلام أدق، سوّى بين الرجل والمرأة، وإن دونية المرأة تعود لأسباب اجتماعية واقتصادية وثقافية أخرى أو لسوء تفسير الدين. تؤكد الكاتبة المصرية أمينة السعيد أن الاسلام جاء (بمثابة أضخم ثورة اجتماعية في تاريخ الأوضاع النسائية، لا عندنا وحدنا بل في الدنيا بكاملها. فقبل مجيئه... لم تكن المرأة، في أي ركن من العالم، أكثر من كائن حي، لا حقوق لها ولا احترام لآدميتها، ثمّ إذا بالدين الذي ظهر في منطقة صحراوية جرداء يسكنها قوم خشنون على الفطرة، يقلب الوضع رأساً على عقب، ويعترف للمرأة بكامل آدميتها، ويسلّحها بالاستقلال الاقتصادي على أوسع معانيه، ويحررها من ولاية الرجل عليها فيما يتصل بجواهر الحقوق، مثل التعليم والبيع والشراء والعمل والتجارة، بل واشراكها أيضاً في تدبير شؤون الدين والسياسة).
ويذكّرنا دعاة هذا التيار، عادة، بظاهرة وأد البنات من قبل بعض القبائل في عصر الجاهلية الأول. ويذهب البعض إلى تفسير هذه الظاهرة تفسيراً أخلاقياً فيعتبر الوأد وسيلة (لتجنب سبي النساء) يقتضيها مفهوم العرض أو الشرف في حالات الغزو والسبي بين القبائل.
ويفسر البعض ظاهرة وأد البنات في الجاهلية تفسيراً واقعياً. فيقال مثلاً إن الوأد قصد به حرمان القبائل الغازية من سبي نساء القبائل المغزوة كي لايستعملن (أدوات انجاب وقوة... فوأد البنات في الجاهلية يساوي إذن عدم تمكين الخصم من ان يزيد من قوّته عن طريق استيلاد الأبناء من نساء يمكنه سبيهن). وقد يذهب بعض أصحاب التفسير الواقعي إلى أن منزلة الزوجة في بيت زوجها كانت في الجاهلية (تتوقف إلى حد بعيد على منزلة أهلها وقوتها بين القبائل... فإذا كانت الزوجة صاحبة منزلة عالية في بيتها، شاورها الزوج في الأمور البيتية والمعيشية وقدر لها رأيها... أما إذا كانت منزلتها وضيعة، فلم يكترث الزوج لشأنها و لرغباتها وقل احترامه لها).
ونجد بين أصحاب التيار الذي يقول بمساواة المرأة بالرجل في الاسلام من يعترفون ببعض الفروقات، ولكنهم يسوغونها أو يجدون مبررات لها. فقد اعتبر الشيخ محمد عبده (1849 ـ 1905) إن الاسلام ساوى بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات ولكنه قدّمه عليها درجة، وعرف (درجة) بأنها تعني القيادة أو الرياسة التي تقتضيها ضرورات توزيع العمل في الحياة الاجتماعية، إذ (لابد لكل اجتماع من رئيس... والرجل أحق بالرياسة لأنه أعلم بالمصلحة، وأقدر على التنفيذ بقوته وماله، ومن ثم كان هو المطالب شرعاً بحماية المرأة والنفقة عليها، وكانت هي مطالبة بطاعته في المعروف). في ضوء هذا التعريف يفسر محمد عبده الآية القرآنية (الرجال قوامون على النساء) يقوله أن (المراد بالقيام هنا هو الرياسة التي يتصرف فيها المرؤوس بارادته واختياره، وليس معناها أن يكون المرؤوس مقهوراً مسلوب الارادة لايعمل عملاً إلا ما يوجهه إليه رئيسه، فإن كون الشخص قيماً على آخر هو عبارة عن ارشاده والمراقبة عليه في تنفيذ ما يرشده إليه،... أن المرأة من الرجل والرجل من المرأة بمنزلة الأعضاء من بدن الشخص الواحد، فالرجل بمنزلة الرأس والمرأة بمنزلة البدن).
انطلاقاً من هذا المفهوم يتحدث محمد عبده عن (ان المرأة أضعف من الرجل) مستعيناً بمفاهيم الدين و(الفطرة)، وعن ضرورة (تعليم المرأة أمور دينها، أولاً، وقبل كل شيء، ثم بعضاً من أمور الدنيا) مما يطلبه منها (نظام بيتها وتربية أولادها).
وترى مجلة الفكر الاسلامي الصادرة عن دار الفتوى في لبنان (1975) ان النساء صنو الرجال، فهن الأمهات والأخوات والأزواج والبنات، والحاضنات، والمربيات، وان الاسلام كرّم المرأة (وسوّى بينها وبين الرجل فيما يمكن التسوية فيه فقال تعالى: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف...) وقد فاضل بينهما فيما لايمكن التسوية فيه فقال تعالى: (الرجال قوامون على لانساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم)، فأوجب على الرجال الجهاد... والسعي على العيال. وخفف عن المرأة في ذلك مراعاة لامكاناتها الجسدية وظروفها الشخصية وتكاليفها العائلية.
وترى زاهية قدورة في العدد نفسه من المجلة ان الاسلام جعل الرجل والمرأة من نفس واحدة، ولكنها تورد قولاً للرسول (ص) جاء فيه: (إنما المرأة خلقت من ضلع عوجاء فإن تحرص على اقامتها تكسرها فدارها تعش بها).
ويتناول أحمد شلبي موضوع الإرث موضحاً أن الاسلام يجعل للذكر مثل حظ الانثيين لأنه (يرفع التكاليف المالية عن المرأة في مختلف مراحل حياتها، فالأب يحمل مسؤوليتها قبل زواجها، والزوج يحمل هذه المسؤولية بعد الزواج، والأبناء يحملونها لو مات الزوج... ومن هنا فالرجل بمسؤولياته عن المرأة والبيت أخذ ضعف المرأة ولهذا فمن الواضح أن خمس أوراق نقدية من دون مسؤوليات اثمن وأبقى من عشرة بمسؤوليات جسام).
ويطرح الشيخ حمزة شكر في عدد المجلة نفسه مسألة مسؤولية المرأة، فيذهب إلى أن الاسلام حمّل المرأة (مسؤولية تتوافق وتكوينها الجسماني) وان حق (القوامة مستمد من التفوق الطبيعي في استعداد ارجل، ومستمد من نهوضه بأعباء المجتمع وتكاليف الحياة، أليس هو أقدر من المرأة على الكفاح في خضم الحياة... ولكن في عرف الحياة قليلات من هن في مستوى ا لرجال عقلاً وجسماً وارادة وامكانية جسمانية).
ينعكس هذا التيار التقليدي في القول الأخير وفي مقولات وعبارات وتعميمات لاتحصى، ترد دائماً في الكتب والأحاديث العابرة. تضمن كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي فصلاً خاصاً حول (آداب النكاح) ورد فيه أن على الزوج أن يكون حسن الخلق مع النساء (واحتمال الأذي منهن ترحماً عليهن لقصور عقلهن)، وعدم التبسط (في الدعابة وحسن الخلق والموافقة باتباع هواها إلى حد يفسد خلقها ويسقط بالكلية هيبته عندها... قال الحسن: والله ما أصبح رجل يطيع امرأته فيها تهوى إلا كبه الله في النار. وقال عمر (رض): خالفوا النساء فإن في خلافهن البركة. وقد قيل شاوروهن وخالفوهن... إذ حق الرجل أن يكون متبوعاً لا تابعاً، وقد سمى الله الرجال قوامين على النساء وسمى الزوج سيداً... قال الشافعي (رض): ثلاثة إن أكرمتهم أهانوك وإن أهنتهم أكرموك: المرأة، والخادم، والنبطي...
وفي العصر الحديث يقدم الكاتب المصري عباس محمود العقاد موقفاً رجعياً مشابهاً في كتابه المرأة في القرآن، فيؤكد على قوامة الرجال على النساء ويعمم (ان الواقع المتكرر في المجتمعات الانسانية كافة، أن المرأة تتلقى عرفها من الرجال، حتى فيما يخصها من خلائق الحياة والحنان والنظافة... فهي إنما تستحي لأنها تتلقى خليقة الحياء من الطبيعة أنها تخجل من مفاتحة الرجل بدوافعها الجنسية، وتنتظر المفاتحة من جانبه، وإن سبقته إلى الحب والرغبة. وشأنها في ذلك شأن جميع الإناث في جميع أنواع الحيوان، فأنها تنتظر ولا تتقدم، أو تتعرض ولا تهجم، ويمنعها أن تفعل ذلك مانع من تركيب الوظيفة لايصدر عن وازع أخلاقي، ولا عن أدب من آداب السلوك... فإنما خلق تركيب الأنثى للاستجابة ولم يخلق للابتداء والارغام...
(... والصق من الحياة بالمرأة حنانها المشهور، ولا سيما الحنان للأطفال من أبنائها وغير أبنائها. وهذه صفة من صفات الغرائز، توجد في أناث الأحياء، ولا تمتاز فيها أنثى الانسان إلى على قدر امتياز العاقل على غير العاقل...).
(... أما النظافة فليست هي من خصائص الانوثة إلا لاتصالها بالزينة، وحب الحظوة في أعين الجنس الآخر).
وهناك مقابل هذا التيار المحافظ، تيارات اصلاحية تحررية منها ما هو ليبرالي غربي ومنها ما هو راديكالي ثوري. وكثيراً ما يعود الباحثون إلى قاسم أمين (1865 ـ 1908) الذي نشر سنة 1899 كتاباً في تحرير المرأة، ربط فيه بين دور المرأة في المجتمع و(اصلاح أخلاق الأمة). رأى في هذا الكتاب إن النظام القائم يقوم على احتقار القوي للضعيف وامتهان الرجل للمرأة، ففقدت حقوقها الضرورية للقيام بدورها في المجتمع. وقد اعتبر قاسم أمين أن مركزة المرأة يتحسن بالتربية التي تشمل اعداد المرأة لكسب الرزق بالاضافة إلى القراءة والكتابة والعناية بتدبير المنزل. وقبل أن تتمكن المرأة من إعالة نفسها، تظل رهينة باستبداد الرجل وتحت رحمته، يجردها من مزاياها الانسانية ويحصر وظيفتها بالإنجاب والتمتع بجسدها وتدبير المنزل، وتقوم علاقته بها على عدم الثقة بها. وقد سخر أمين من المعتقدات السائدة حول المرأة واقترح أن يتحجب الرجال أنفسهم طالما يظنون أن المرأة تستسلم بسهولة لجاذبيتهم التي لا تقاوم، وأن يكون لها حق الرجل في الطلاق.
ونزّه قاسم أمين الاسلام عن امتهان حقوق المرأة في هذا الكتاب واعتبر أن الشريعة ساوت المرأة بالرجل إلا في حالة تعدد الزوجات، وكان حذراً فلم يقل بمنح المرأة حقوقها السياسية، واعتبر أن المرة بحاجة إلى وقت طويل من التثقيف قبل أن تصبح جديرة بالاشتراك في الحياة العامة. رغم ذلك آثار كتابه هذا عاصفة من التهجم والتأييد، فرد على نقاده بكتاب ثان حول المرأة الجديدة تجاوز فيه موقفه الأول معتمداً على العلوم الاجتماعية بدلاً من النصوص والمراجع الدينية، ومصراً على استقلال الانسان في التفكير والارادة والفعل، وعلى اعتبار حرية المرأة أساساً لجميع الحريات الأخرى. ثم انه في هذا الكتاب أظهر العلاقة بين اضطهاد المرأة والاضطهادات الأخرى في المجتمع فقال: (فانظر إلى البلاد الشرقية، تجد أن المرأة في رق الرجل، والرجل في رق الحاكم. فهو ظالم في بيته، مظلوم إذا خرج منه). وهو اضافة إلى ذلك يرفض (تحري الكمال في الماضي، حتى في الماضي الاسلامي، وإذا كان له أن يوجد، فسيوجد فقط في المستقبل البعيد).
ويتمثل هذا التيار التحرري أيضاً في اعمال سلامة موسى وخاصة في كتابه المرأة ليست لعبة الرجل، وفي أعمال نساء معاصرات بينهن الكاتبة الجزائرية فاضلة مرابط في كتاب لها حول المرأة الجزائرية، والكاتبة المغربية فاطمة مرنيسي في كتاب لها بالانكليزية حول ديناميكية علاقة الرجل ـ المرأة في مجتمع اسلامي، وخالدة سعيد في بعض مقالاتها، ونوال السعداوي في مجموعة من الكتب وغيرهن.
ترى خالدة سعيد ان المرأة العربية كائن بغيره لا بذاته، إذ تحدد هويتها بكونها (زوجة فلان أو بنت فلان أو أم فلان أو أخته... هي أنثى الرجل، هي الأم، هي الزوجة، وهي باختصار تعرف بالنسبة إلى الرجل، إذ ليس لها وجود مستقل. إنها الكائن بغيره لا بذاته. ولأنها كائن بغيره فلا يمكنها، في إطار الأوضاع التقليدية، أن تعيش بذاتها. لا هي تشعر الاكتمال بذاتها، ولا المجتمع يقبلها ككائن بذاته. إنها المثال النموذجي للاغتراب، ذلك ان واحداً من أبعاد شخصيتها يطغى على سائر الأبعاد، أو على انسانيتها كلها. وما دامت كائناً موجوداً بغيره، فهي تسعى بكل الوسائل إلى الدخول في آلة مهما صار إليه وضعها في هذه الآلة. والآلة التقليدية هي مؤسسة الزواج). ضمن هذا الاطار التقليدي ترتبط قضية المرأة بالنظام الطبقي، فحيث تكون العلاقات علاقات (بين سيد ومسود، يصعب أن تجد فيه المرأة الحرية الحقيقية، وأن تستعيد فيه انسانيتها) فتعاني المرأة من (اغترابين: اغتراب طبقي واغتراب على صعيد البنية التحتية في نطاق الأسرة، فهي عبدة العبد. حتى لقد رأي ماركس في علاقة الرجل بالمرأة خلاصة اضطهادات الانسان واغتراباته. وليس مؤكداً أن تتحرر بتحرر البروليتاريا. فقد لايرفعها هذا إلا درجة واحدة في سلم العبودية، إذ ان استغلال المرأة لاينتفي بالضرورة بانتفاء الاستغلال الاقتصادي وإن كانت الأسباب الاقتصادية في أصل استعباد الرجل للمرأة). وضمن هذا الاطار الطبقي لايعني التخلص من (الحجاب) ولبس (الميني جوب) أن المرأة قد تحررت حقاً، فكلاهما (في مستوى واحد باعتبار الحالين اقراراً بأن المرأة أولاً وآخراً جسد يمتلك ويصان ويخبأ أو يعرض).
وتفضح الطبيبة المصرية نوال السعداوي الازدواجية الأخلاقية في علاقة الرجل بالمرأة في المجتمع العربي المعاصر، (فالأب الذي يضرب ابنته لأنها حادثت زميلاً لها يخون زوجته في معظم الأحيان. والأخ الذي يتظاهر بالتدين بالنهار يمد يده في الليل ليلمس جسد أخته الصغيرة). وتتجلى هذه الازدواجية أيضاً من خلال القيم التجارية السائدة التي تشجع (عرض أفلام الجنس والرقصات العارية وأجساد النساء وتأوهات المطربين والمطربات ليل نهار في الراديو والتلفزيون وعرض الأفخاذ والنهود العارية في صفحات المجلات. ويصبح علي البنت المصرية أن تحل وحدها المعادلة الصعبة. عليها أن تتشبع بهذه الأفلام والصور والأصوات الصارخة بالجنس والشبق، وعليها في الوقت نفسه إلا تتأثر بها). وتعتبر السعداوي أن علاقة الزوج بالزوجة تشبه علاقة السيد بالعبد فلا تختلف (ملكية الرجل للمرأة كثيراً عن ملكية السيد للعبد. فالرجل يشتري المرأة بمقدم الصداق، وينص عقد الزواج في أول بنوجه على أن الزوجة ملك لزوجها واجبها الطاعة المطلقة. وتخدم الزوجة في بيت زوجها بغير أجر فإن عصيت أو تذمرت أو مرضت أو وهنت باعها الرجل بحقه المطلق في الطلاق). وتدعم السعداوي استنتاجها هذا بالعودة إلى نص المادة (67) من مواد قانون الزواج في مصر الذي يقول (لاتجب النفقة للزوجة إذا امتنعت مختارة عن تسليم نفسها بدون حق، أو اضطرت إلى ذلك بسبب ليس من قبل الزوج. كما لاتستحق النفقة إذا حبست ولو بغير حق، أو اعتقلت، أو غصبت، أو ارتدت، أو منعها أولياؤها، أو كانت في حالاة لايمكن الانتفاع بها كزوجة). كذلك تذكر السعداوي انه كما كان العبيد يخصون لتفرض عليهم العفة فقد كانت الإناث في المجتمع المصري تجرى لهن عملية الختان التي هي أشبه ما تكون بالاخصاء لفرض العفة عليهن. ولأن (الرجل يشتري المرأة بالزواج لتخدمه وتكون أداة أمتاعه ووعاء ينجب أطفاله فهو يختار تلك الفتاة التي تصغره في السن بأعوام كثيرة ليظل جسدها شاباً قادراً على الخدمة والانجاب طوال حياتها معه). وفيما يتعلق بتغيير وضع المرأة وتحريرها ترى السعداوي (إن تحرير المرأة لايمكن أن يحدث في مجتمع رأسمالي، وان مساواة المرأة بالرجل لايمكن أن تحدث في مجتمع يفرق بين فرد وفرد، وبين طبقة وطبقة. ولهذا، فإن أول ما يجب أن تدركه المرأة أن تحريرها إنما هو جزء من تحرير المجتمع كله من النظام الرأسمالي).
إن التيار التحرري يرفض ادعاء المساواة والتسويغات التي يلجأ إليها بعض الذين يعترفون بعدم وجود مساواة، ويرفض التفسيرات التقليدية التي تنسب تخلف المرأة لعوامل طبيعية وليس للعوامل الاجتماعية التي تربط بين التخلف وبين عزل المرأة عن المشاركة في الحياة العامة وتجريدها من مسؤولياتها.
ان أوضاع المرأة الاجتماعية والاقتصادية وليس طبيعتها الجسمانية هي التي تحيلها إلى كائن مغترب. ويسبب الأوضاع السائدة التقليدية تتحول المرأة إلى كائن يتصف بما يلي:
ـ انها مضطرة أن تعتمد على الزواج، وبدونه يعتبرها المجتمع عانساً (وليس للرجل الذي يظل عازباً مثل هذا اللقب السلبي) وعالة وموضوع سخرية أو شفقة أو كليهما معاً.
ـ يقدّر المجتمع في المرأة تلك الصفات التي تتعلق بالأنوثة والأمومة والزوجية والمهارة في الشؤون المنزلية، وبكونها موضوعاً جنسياً فيكون جمالها رأسمالها الأهم. ولابد للمرأة أن تفرض وجودها كانسان قبل كل شيء، وليس لكونها مجرد دور (أم، أخت، زوجة، بنت... الخ) فتعرف بالنسبة للرجل وليس بالنسبة لكونها كائناً مستقلاً.
ـ تعتبر المرأة في المجتمع التقليدي مسؤولة ليس عن انحرافها وحسب، بل عن انحراف الرجل أيضاً، فهي في نظر التقاليد أصل الغواية والفتنة والشر والتعاسة. ولذلك عرف المجتمع جرائم الشرف ضد المرأة، وليس ضد الرجل.
ـ ينتظر المجتمع التقليدي من المرأة أن تكون مطيعة ومخلصة وأمينة لزوجها وتدبر شؤون منزلها، وتحترم أهل الزوج وأقربائه وراضية بمعيشتها ما دام يؤمن لهاه حاجاتها المادية. مقابل ذلك، لايلزم الزوج بواجبات أخلاقية مماثلة تجاه زوجته. من هنا الازدواجية التي يمارسها المجتمع وخاصة كما يظهر في أمور الزواج والطلاق والإرث والالتزامات الأخلاقية.
إن الموقف التحرري في المجتمع العربي يرفض شرعية الأوضاع القائمة ويدعو إلى إلغاء الازدواجية في المجالات المذكورة سابقاً، وفي مجالات الانتخابات والعمل والتعلم والإرث وادلاء الشهادة وفي التصرف الجنسي. ان قيماً جديدة تنبثق وتفرض نفسها في المجتمع العربي، ولذلك نلمس مزيداً من تحرر المرأة واقبالها على العلم والعمل خارج المنزل والمشاركة في الانتاج الاقتصادي والعمل السياسي والدفاع عن البلاد. وبقدر ما تتعلم وتعمل وتنتج وتستقل اقتصادياً وتسهم في صنع مصيرها ومصير المجتمع، يصبح أمر مساواتها بالرجل واقعاً حقيقياً. وحتى يتحقق هذا الأمر، ومهما كان تقديرنا للانجازات التي تحققت حتى الآن، فإن المرأة لاتزال مغتربة تعاني من مشكلات أساسية، بما في ذلك موضوع الحجاب (رمز الانفصام بين عالم المرأة وعالم الرجال) الذي لايزال سائداً في عدد من البلدان العربية ومنتشراً في بعضها الآخر.
ان هرمية العائلة هي جزء من هرمية المجتمع، فلا يتم تحرير المرأة بمعزل عن عملية تحرير المجتمع نفسه. هذا لايعني أن تؤجل مسألة تحرير المرأة حتى يتحرر المجتمع. إن هناك علاقة تفاعلية جدلية بين عمليتي التحرر، وتكون البداية بالنسبة للمرأة بمزيد من مشاركتها في قوة العمل والحصول على الاستقلال الاقتصادي. وحتى الآن كانت نسبة مشاركة المرأة في العمل الاقتصادي الانتاجي متدنية جداً في البلدان العربية، حتى بالمقارنة مع دول العالم الثالث الأقل نمواً. صحيح ان المرأة العربية تسهم بالانتاج الاقتصادي وبنسبة أعلى من النسب الضئيلة التي توردها الإحصاءات، ولكن هذا الانتاج لم يكن مستقلاً عن سيطرة الرجل واشرافه وملكيته لوسائل الانتاج ومن ضمن نشاطاتها المنزلية الغالبة. وما زال النظام العام يضع الحواجز في طريق اشتراك المرأة في قوة العمل متسلحاً بمسوغات عدة غير التسويغات الغيبية التي أشرنا إليها، كالقول ان اشتراكها سيؤدي إلى زيادة حدة مشكلة البطالة وإلى نتائج سلبية في حياة الأسرة.
ب ـ دونية الصغار:
وتقوم بنية العائلة الهرمية على أساس العمر كما تقوم على أساس الجنس، فالصغار تقليدياً عيال على الكبار وتوجب عليهم الطاعة شبه المطلقة في علاقة سلطوية. ويتم التواصل تقليدياً بين الكبار والصغار ليس أفقياً بل عمودياً، فيتخذ من فوق إلى تحت طابع الأوامر والتبليغ وتوجيه التعليمات والتلقين والمنع والتحذير والتخويف والتهديد والتوبيخ والتنديد والتخجيل والاستهزاء والاذلال والشتم والتحريم وتوليد الشعور بالذنب والقلق... الخ. وقد يقترن هذا التواصل من فوق إلى تحت بالعقاب والحرمان والغضب والصفع والاخضاع وكسر (الأنف) أو (الشوكة) أو العنفوان. أما التواصل من تحت إلى فوق فيتخذ طابع الترجي والاصغاء ورفع التقارير والانصياع والاسترحام والتذلل والاستعلام والترديد والتجاوب والاستجابة مقترناً بالبكاء والكتب والصمت والانسحاب واحناء الرأس والمراقبة الذاتية واخفاء الأسرار والمشاكل والتكتم والتخفي والتحجج والمكر والمسايرة والاستغابة والحذر والاحساس بالذنب والقلق والخوف والرضوخ... الخ. ويتي كل ذلك نتيجة لعلاقات الاستبداد التي تعتمد فلسفة تربوية تقوم على الترهيب والترغيب وليس على الاقناع.
في بحثه حول أثر طرق تربية الطفل في العائلة البرجوازية، يرى شرابي أن الأب يضطهد الصبي فيما تسحق الأم شخصيته عن طريق الافراط في حمايته. أما البنت فتدفعها العائلة منذ طفولتها المبكرة إلى الشعور بأنها عبء وغير مرغوب فيها. ان هذا الافراط في الحماية وهذه السلطوية في العقاب يؤديان إلى شعور الأبناء بالعجز، والاتكالية، والتهرب من المسؤولية. ويرى شرابي انه (خلافاً لما يعتقده الكثيرون، فإن نظام العائلة عندنا ـ على ما فيه من حسنات كاحترام الكبار وحماية أفراد العائلة بعضهم بعضاً في الملمات يقوم على التنابذ والخلاف أكثر مما يقوم على التعاون والوثام. إن الغيرة والحسد يسودان علاقات أفراد العائلة أكثر مما تسودها المحبة والتسامح. وهكذا الحال تماماً في علاقات أعضاء المجتمع بعضهم ببعض. أن أولادنا يتعلمون منذ الصغر كيف يجري اغتياب الأصدقاء والأقرباء وكيف يجهر الانسان بما لايضمره ومن أين تؤكل الكتف. وفي تنافسهم على محبة الأم وعطفها يتعلمون بشكل تلقائي كراهية الأشقاء واعتبارهم منافسين ومنافسات يجب التحسب لهم. كذلك فإن الوالدين ينميان روحا لغيرة في نفوس أطفالهما وذلك بتصرفاتهما اللاواعية نحوهم. فإذا ميزت الأم، ولو بكلمة واحدة، بين ولد وآخر فإنها قد تسبب عند الواحد أو الآخر نقمة أو شعوراً بالنقص يصبح جزءاً من تركيب شخصيته فيؤثر في سلوكه تجاه نفسه وتجاه الآخرين).
ويظهر واضحاً ان الأبناء في العائلات التقليدية نادراً ما يشاركون أهلهم أسرارهم أو يستشيرونهم في حل مشاكلهم، وكثيراً ما يلجأون إلى أترابهم بدل أن يلجأوا إلى أهلهم. وبقدر ما تتصف العلاقات بالسلطوية، يمارس الأبناء والبنات الرقابة على تصرفاتهم ومشاعرهم في حضور الأهل. كذلك يمارس الأهل بدورهم نوعاً من الرقابة فيمتنعون عن بعض التصرفات أو عن بحث الأمور بحضور أبنائهم وبناتهم. ونلحظ أن المشاركة والاستشارة والتعبير العفوي تزداد بازدياد العلاقات الديمقراطية ضمن العائلة.
كذلك يظهر الأهل، تقليدياً، تحذيراً لبعض الأبناء والبنات حسب العمر والجنس، وأحياناً حسب الجمال والذكاء وطاعة الأهل ومسايرتهم. وقد عرف المجتمع العربي عادة تفضيل الأهل للابن الأكبر ومنحه حقوقاً وامتيازات لاتمنح لغيره. ورغم اضمحلال عادة حصر الإرث والسلطة بالابن الأكبر، فإن الكثير من آثار هذه المفاضلة لاتزال تعكس نفسها بشكل أو بآخر في الحياة اليومية. وتحدث المفاضلة أكثر ما تحدث على أساس الجنس وخاصة بالنسبة للإرث وتوفير فرص التعليم. وليس من النادر أن نصدف في الوقت الحاضر عائلة أصبح ابناؤها أطباء ومهندسين ومحامين وأساتذة فيما ظلت البنات دون علم أو مهنة. بل كثيراً ما تتخذ الأخوات دور الأم، فيخدمن إخوتهن منذ الصغر، وقد تستمر هذه العلاقة حتى بعد الزواج.
وقد ينشأ لدى بعض الأبناء إحساس بأن الامتيازات التي يتمتعون بها على حساب الأخوات والاخوة الصغار إنما هي حقوق طبيعية نادراً ما يتساءلون حولها. كذلك قد ينشأ عند بعض الأخوات احساس بأن هذه الامتيازات حقوق طبيعية للاخوة وانهن عندما يخدمن اخوتهن إنما يفعلن واجباتهن ليس إلا، فيظهرن استعداداً هائلاً للتضحية. وكثيرً ما تتخلى بعض الأخوات عن حقوقهن بارث العائلة، وقد يرتبط ذلك بحس المرأة بعد زواجها أن بيت أهلها هو بيتها الحقيقي وان الزواج نفي اختياري اضطراري معاً، ربما لذلك تبكي عندما تخرج عروساً من بيت أهلها. ولذا قد لايشكل الطلاق صدمة عاطفية، إذ بامكانها أن تعود إلى أهلها إذا شاءت أو اضطرت إلى ذلك.
وليس التنظيم العائلي الهرمي هو وحده المسؤول عن هذه النتائج السلبية، فللمؤسسات الاجتماعية الأخرى أنظمتها الهرمية الخاصة التي تعزز واقع التنشئة هذا في العائلة. ثم ان بعض هذه الأوصاف لاتنطبق على جميع العائلات العربية. إن تعميمات شرابي نفسها تقتصر على ذلك النموذج العائلي الذي يجسد (القيم والمواقف السائدة في وسط اسلامي مدني، وفي طبقة اجتماعية وسطى أو أقرب إلى الوسطي، هذا مع العلم أن بعض التعميمات يمكن أن تنطبق على المجتمع العربي ككل بما فيه البدو والفلاحون). إن نزعة الاتكالية، مثلاً، قد لاتنطبق على أطفال العائلات الفقيرة الذين يضطرون للعمل الشاق والكفاح منذ صغرهم.
ان محور العلاقات في العائلة العربية ليس الفرد بل الجماعة، ويرتبط ذلك ارتباطاً وثيقاً بكونها عائلة ممتدة بالاضافة إلى أنها وحدة إنتاجية اجتماعية معاً.

--------------------------
المصدر : المجتمع العربي المعاصر


حليم بركات

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى