سعد محمد رحيم - فتنة الحكاية

يصدر في أمريكا، في كل سنة، مجلد ضخم يحوي مجموعة من أفضل المقالات التي نُشرت خلال السنة السابقة. وقد اختارت غادة حلواني أربعاً من مقالات المجلد الصادر في عام 2009 لتضمها في كتاب ( فتنة الحكاية/ كتاب مجلة الدوحة المترجم 2011 ) وفيه احتفاء بفن المقال بوصفه "رحلة طليقة للعقل"، و"النوع الذي يفكّر ويشعر ويسبر بصبر الأفكار والمشاعر". ولذا فإن الكتّاب الكبار في حقله نادرون بحسب محرر السلسلة ( الأمريكية ) روبرت اتوان.. وانطلاقاً من نصيحة صامويل أميرسون في أن على المرء أن يحيا حياة مجربة تقول ماري أوليفر ( محررة الكتاب ) أن المقال مليء غالباً "بالاكتشافات الشخصية والتجارب والكشف عن الذات المجرِّبة.. ومليء بالإثارة الناجمة عن اكتشاف ما يقع وراء الذات".
يكتب جون أبديك عن خريف الكاتب، بعد أن تُغرقه هالة الشهرة، وبعد أن يكون قد أنجز تلك الأعمال المفعمة بالمرح والخفة والحماس، الطافحة بفرح الحياة. حين ينضج تماماً ويكون بمقدوره تخليق نصٍ أكثر إتقاناً وصقلاً مما سبق، وربما أكثر عمقاً بالمنظور الإنساني، لكنها أبداً لن تكون "العمل ألإنساني الذي يحرّك الأرض". فأبديك يرى أن؛ "مواد الكاتب الرئيسة هي ذكريات أول عشرين سنة له على الأرض وانطباعاتها وأحاسيسها، وقليل هو المهم مما يأتي بعد ذلك".. إن الكتابة الإبداعية، من وجهة نظره، وظيفة خبرة، وفي النادر نجد من يقدّم أعمالاً كبيرة في سن مبكرة، فيما "قاعدة المعجبين بالكاتب على عكس نجم الغناء، هم الناضجون والمتحملون نسبياً ندبات الزمن". وإذا كان الفلم والبرنامج التلفزيوني يستقطب جمهوره، ويطير، في غضون وقت قصير جداً فإن الكتاب يصمد "فيزيقياً في المكتبات العامة والخاصة لأجيال متعاقبة".. ويظل يداعب خيال الكاتب الأمل في أن يكون كتابه الأخير هو الأفضل.
تتكلم سينثيا أوزيك عن الكتّاب الأشباح، الذين هم، على وفق ما تقول "كينونات خفية". وتتساءل فيما إذا كنا قد قابلنا كاتباً حقاً؛ العبقري لا البرجوازي، "فالبرجوازي فقط هو الذي نعرفه شخصياً".. ينغمر الكاتب في مهمته، منزوياً في عتمته الخاصة، ليعطي عمله قدراً من ولعه وشكّه وجنونه.. قد يكون متعجرفاً متكبِّراً خارج محترفه، لكنه، وهو يواجه "الشعاع المتوحد لشاشة كومبيوتره لا يصبح أكثر من شخص ضعيف هادئ جبان عاجز يشلّه أن عليه أن يبدأ جملة جديدة". وتهب أوزيك نصيحة ثمينة للكتّاب الباحثين عن مساعدة من خارج أنفسهم؛ "لا أحد... توجد وسيلة وحيدة فقط. اذهب إلى داخل نفسك. اكتشف الدافع الذي يأمرك بالكتابة".
وتدعونا جيل ماكوركل في مقال ( وقت اللعن ) إلى أن نكون أنفسنا، وأن نلج المناطق الممنوعة إذا ما أردنا أن نكتب.. كانت تُجبر، في طفولتها، كلما تلفظت بكلمة خاطئة أو نابية، على لعق الصابون.. غير أنها ابتكرت طريقة ذكية في امتصاص انفعالات ابنها وذلك بمنحه وقتاً يجهر فيه باللعن.. تقول؛ "كثيراً ما فكرت كم كنت سأكون شخصاً أفضل وأكثر جدارة بالثقة إذا تربيت فقط على وقت اللعن بدلاً من لعق الصابون". ما تريد ماكوركل تأكيده هو أن شرط الإبداع الأول هو الحرية، وتوسيع قوس الاحتمال بنبذ المحددات المعيقة للعقل والخيال.
أما باتريشيا هامبل فتذهب مباشرة إلى فن الحكي/ السرد، لاسيما مع نوع ( السيرة الذاتية ) وتختار للحديث عنصراً جوهرياً فيه وهو الوصف؛ تلك التفاصيل الدقيقة الموحية التي تصوِّر جوانب فذة ومثيرة ولافتة من الحياة.. أن تختار كلمة بدل أخرى، وأن تضع الكلمة المناسبة في الموضع الصحيح من سياق الجملة والنص.. أن تعرض لا أن تحكي.. هنا تتجلى براعة الأسلوب وقوته. "إن الوصف في السيرة الذاتية هو حيث يتوطد وعي الكاتب مع مادة القصة في تناغم، حيث الذات مفقودة في المادة وفي المعنى". ولذا فهي تثق بالوصف أكثر من ثقتها بالحبكة. حتى وإن اقتضى الأمر تجاوز الشخصية والثيمة!.
يسعى محررو هذا الكتاب إلى إعادة الاعتبار لفن المقال الأدبي بعدِّه نوعاً أدبياً راقياً وصعباً، لا يمتلك ناصيته إلا الكتّاب المجرِّبون والحاذقون.. وفي هذه المقالات المختارة نتلمس قوة الأفكار، حتى وإن لم نتفق مع بعضها، ورصانة الأسلوب، والعرض الممتع، واللغة المشعّة.




خير جليس.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى