شهلا العجيلي - عمّي عبد السلام... هويّة المكان

لطالما قيل إنّ «المعاصرة حجاب» لكنّ معاصرتي ومعايشتي لعمّي عبد السلام العجيلي، لم تمنعني من إدراك قيمته الحقيقيّة. وكلّما مرّ الزمن، وادْلَهَمّ، أرى هذه الحقيقة تزداد سطوعاً، إذ يتكشّف لي وجه من وجوه شخصيّته الثريّة، لا سيّما مع توغّلي في حقل الأدب ودراساته. لقد مكّنني هذا التعمّق، على وجه من الوجوه، من أن أكتب عن العجيلي بكثير من التجرّد والموضوعيّة.
لا بدّ في الكلام عن عبد السلام العجيلي من تسليط الضوء على كلّ من الظرف التاريخيّ، والبنية الثقافيّة الاجتماعيّة التي انتمى إليها، وهي مدينة الرقّة، أو بلدته كما يحبّ أن يسمّيها، ولنقل المنطقة الشماليّة الشرقيّة في سوريا بعامّة. لقد رأت هذه المنطقة في العجيليّ نموذج المخلّص، إذ خرج أهلها منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية، وبعد استقلال سوريا من حسابات الجميع واهتماماتهم، فاليمين يجدهم خليطاً من البدو والريفيّين، يبتزّهم لتدور آلته البرجوازيّة، واليسار يراهم المسحوقين المجهّلين الذين يمكن أن يكونوا قاعدته القطيعيّة، التي سيحقّق المكتسبات على حساب بؤسها وإفسادها، لذا سلّط عليها أكثر الشخصيّات فساداً في تاريخه.
أستطيع أن أقول بطلاقة: إنّ الرقّة من أكثر الأماكن حريّة، التي يمكن للمرء أن يعرفها في العالم، أقول حريّة وليس تحرراً، لأنّ الحريّة أصل والتحرر مجلوب! لكنّ هذا المكان الوديع يعيش اليوم أقسى أيّامه، لقد صارت ربيبة الفرات أكثر الأماكن تطرّفاً وثالث أخطر مدينة في العالم، وذلك نتيجة للممارسات التي كانت منذ النصف الثاني من القرن العشرين، والتي خلّفها الصراع بين اليمين واليسار.
كان الناس في المنطقة ينظرون إلى العجيلي بعين القداسة، فهو ينتمي إلى عائلة من عشيرة «البو بدران» التي تعود بنسبها إلى الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهذا ما لمّح إليه العجيلي في روايته «أرض السيّاد». كان يعتزّ بهذا الانتماء، ونحن أيضاَ بيننا وبين أنفسنا نعتزّ به كثيراً، لأنّنا نجد ذواتنا معه أهمّ من أية سلطة أخرى، ما دمنا ننتمي إلى نسل الأسياد، ممّا منح العجيلي هاجس الالتزام بناسه، بآلامهم على المستوى الصحيّ، وبهمومهم على المستوى الاجتماعيّ الذي تجلّى في الأدب، وبمطالبهم على المستوى السياسيّ الذي تجلّى في النيابة والوزارة، والتي عاد منها إلى الرقّة ليكون أكثر التصاقاً بالناس، متمثّلاً أبيات نسيبه الشريف الرضيّ: «مهلاً أمير المؤمنين فإنّنا.. في دوحة العلياء لا نتفرّقُ ..ما بيننا يوم الفخار تفاوتٌ..أبداً كلانا في المعالي مغرقُ.. إلاّ الخلافة، ميّزتك، فإنّني..أنا عاطلٌ منها، وأنت مطوّقُ».
لعلّ الإيمان بهذا الالتزام الاجتماعيّ الثقافيّ كان وراء شعور العجيلي ومعه العائلة كلّها، بأنّنا لسنا ضحايا على الإطلاق بل أصحاب قضيّة، حتى مع الأحداث الأخيرة التي طرأت على الرقّة، من سيطرة للجماعات المتطرّفة، والتي معها تعرّض للاختطاف العديد من أفراد العائلة، ومنهم أبي المهندس عبد العظيم العجيلي شقيق عبد السلام.
كان عبد السلام العجيلي عصيّاً على التصنيفات الأيديولوجيّة، لم يساوم يوماً على ثوابته، ولم يكن مهادناً لأيّة سلطة، مثلما لم يكن معارضاً مأجوراً أو رخيصاً. يراه اليمين يساريّاً، لحماسته للتغيير، ولالتزامه بقضايا المستضعفين، فيما يراه اليسار يمينيّاً لأنّه من أصول إقطاعيّة، ولموقفه من الوحدة بين سوريا ومصر.
لم تكن عائلتنا إقطاعيّة، بالصورة التي تصوّرها كاميرا الأفلام عن إقطاع روسيا، أو أوروبا، أو جنوب أميركا. كان جدّي مجتهداً، جمع مالاً من الترجمة والقضاء، وبدأ بشراء الأراضي، وساعدته بذلك جدّتي التي ورثت عن أبيها ثروة طائلة. كان جدّي من الذين يسمّون اليوم برياديي الأعمال، أو أصحاب رؤوس الأموال المغامرة، إذ كان شجاعاً في مواكبة التغيير، تاجر بمستلزمات الزراعة، فأنشأ مطحنة للحبوب، ثمّ أنشأ فرناً لشيّ الآجر للبناء، وكان يتطلّع إلى توسيع ملكيته من الأرض على عادة أهل المنطقة، وهكذا... وكان الناس يعملون عنده بأجرهم، يعطيهم حقوقهم، وييسّر أمورهم، ويفكّ ضيقهم بلا ربا ولا غصب، وإن لم يتمكّنوا من السداد كان يحتسبه في خزائن الله. لقد راحت جلّ الأراضي مع التأميم، وبقيت التهمة الإقطاعيّة التي التصقت بعبد السلام العجيلي عقوداً طويلة، والتي عانينا منها جميعاً، وحدّدت مستقبلنا جميعاً، ورغم ذلك لم تقف أمام التمسّك بالثوابت، وبالقيم الجماليّة التي صاغها كلّ من الدين، والمجتمع، والتاريخ، ولعلّ هذه القصة تُحكى للمرة الأولى: كانت الرقة مدينة قصيّة بلا مرافق أو خدمات، وكان القضاة يأتون من مناطق أخرى للنظر في قضايا أهل المكان، وكان ثمّة قاض جاء من حلب، وهو صديق لعمّي عبد السلام، وحيث إنه لا فنادق في المنطقة مكث في بيت جدي. جاء القاضي ليحكم في قضيّة أرض متنازع عليها بين طرفين من أهل البلد. استضاف جدي القاضي، وجلسوا إلى العشاء، وتسامروا، ورقدوا. وفي الصباح خرج القاضي الصديق إلى مهمّته، ولم يخرج جدي من البيت، فسأله عمّي: أليس اليوم هو اليوم المحدّد لمحاكمة الأرض بيننا وبين جيراننا، قال جدّي: بلى، لكنّني لن أذهب. لا شكّ في أنّ عدم الذهاب يعني خسارة الدعوى، فاستغرب عمّي، لكنّ جدّي أردف: لعلّك لم تلاحظ أنّ صديقك القاضي الذي نزل في بيتي، هو الذي سيحكم في هذه القضيّة، فكيف أقف أمامه وأحرجه، وقد أكل من طعامي ونام في فراشي! وهكذا راحت أرض من أجود أراضي الفرات، ثمنها يقدّر بالملايين، وتسفك من أجلها الدماء...

الالتزام

مثّل عبد السلام العجيلي فكرة الالتزام الحقّ، قولاً وفعلاً، غير مغالٍ، وبدافع شخصيّ ووطنيّ، لا يمتّ بصلة للالتزام الذي فرضه الفكر الاشتراكيّ، وقد تجلّى هذا الالتزام بأنصع وجوهه في روايته الرائعة «المغمورون» التي سلّط فيها الضوء على واقع المستضعفين والمهجّرين، الذين غُمرت بيوتهم وأراضيهم بمياه بحيرة سدّ الفرات، تماماً مثلما ترك مقعده في البرلمان السوريّ عام 1949، وتطوّع في جيش الإنقاذ مسافراً إلى فلسطين، حيث دوّن أحداث المرحلة في كتابيه «فلسطينيّات» و«جيش الإنقاذ»، ولعلّ قصّته «بريد مُعاد» أشهر من أن نذكّر بها.
أمّا عالميّة عبد السلام العجيلي، فلا يختلف عليها أهل الثقافة، وإنّني ما ذهبت إلى مؤتمر أو مركز ثقافيّ أصيل في أقطار الدنيا، إلا وقيل لي: عبد السلام العجيلي مرّ من هنا! عدا أنّ بيتنا في الرقّة كان قبلة للمستشرقين، والإعلاميين، والسياسيين، والفنّانين، والمثقّفين من كلّ مكان في العالم، وخير شاهد على ذلك ترجماته الكثيرة إلى لغات العالم، على يد أهمّ المترجمين، وأشهر دور النشر العالميّة، في وقت كان اتحاد الكتّاب العرب بدمشق قد أعلن الحرب الأيديولوجيّة، وصدّر أسماءه الخاصّة، فأساء إلى انتشار الثقافة السورية كثيراً. وفي هذا الإطار أذكر حكاية حدثت مع العجيلي قبل وفاته، رحمه الله، بسنوات قليلة: كان العجيلي في دمشق، ولمّا علم مسيو لوشون، الرجل الموظف في الملحق الثقافي الفرنسيّ بذلك، هاتفه ودعاه إلى زيارته في مكتبه، وكان مسيو لوشون قبلها قد جاء إلى الرقّة لزيارة العجيلي، الذي حينما دخل مكتب الرجل، وجد في صدره على الجدار صورة نادرة لعمّي وهو يركب الفرس أيّام شبابه، مكبّرة، ومؤطّرة، فاندهش، وسأله من أين حصل عليها؟ فأجابه بأنّه أخذها من أحد الأشخاص في زيارته إلى الرقّة، فقال العجيلي: أليس من المفترض أن تضع مكانها، وأنت في مكان عملك صورة مسيو ميتران، رئيس بلادك؟! فأجابه لوشون: لكنّك أبقى من ميتران!
كلام كثير يقال ولا يقال عن عبد السلام العجيلي، ومعه تمرّ مياه كثيرة تحت جسري الرقّة، مياه ممزوجة بالدماء، وملوّثة بالقهر، لكنّ ذلك سيمضي، وستعود الرقّة إلى أهلها، ويعود ماؤها فراتاً يشفي غليل المعذّبين والمغمورين، ويحمل السلام لأهلها، السلام الذي أراده لهم دائماً عبد السلام.



شهلا العجيلي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى