د. المعطي منجب - الجيش والسلطة في العالم العربي

لما ينظر الإنسان إلى التاريخ السياسي المعاصر لبلدان منطقتنا، يتبدى له بوضوح أن هناك قوتين اجتماعيتين تحكمتا في مقدرات الدولة المادية والاجتماعية ولعبتا فيها دور البلعمة (Phagocytosis) أي أنهما نمتا مع نموها وابتلعتا بطريقة مرضية مكوناتها وعناصر حصانتها. وهاتان القوتان هما:
ـ الجيش كما هو الحال في مصر والسودان والجزائر وسوريا وغيرها.
ـ أما القوة الثانية فهي ما يمكن أن نسميه «المنظومة التقليدية» التي قد تتمظهر في شكل عشيرة كما هو الحال في السعودية أو مجموعة أرستقراطية ذات أخطبوط زبائني منفتح على كل فئات المجتمع كما هو شأن المخزن المغربي أو التحالف «البدوي ـ الأميري» بالأردن.
هكذا فإن الجيش في مصر يتحكم في حوالي أربعين في المئة من الاقتصاد وأكثر من ذلك فيما يخص الاقتصاد الاجتماعي. فهو جهاز إنتاج قائم الذات إذ يتحكم في قطاع البناء والأشغال العمومية وخصوصا الطرق والقناطر والموانئ والمطارات وما إلى ذلك.
إن الجيش يصنع السلاح والأطعمة والتجهيزات الإدارية والمنزلية وقطع غيار السيارات ومعدات الفلاحة والملاحة الجوية. الشباب المجند وهو قوة انتاجية ضخمة بيد الجيش لا يتلقى في الغالب ألا أجورا تافهة ولكنه يتشبع رغم ذلك بإيديولوجية أن الجيش هو الدولة ومن يعارض الجيش يخون الوطن. وقد يتحول على الأقل جزء من هذا القطاع الاجتماعي «المتعسكر» والذي ترتبط مصالحه المباشرة بمصالح الجيش إلى قوة سياسية ضاربة تعد بالملايين إذا أضفنا إليها أعضاء الأسر ومتقاعدي الجيش والأمن وكل من اشتغل ولو مؤقتا ضمن هذا القطاع المتعسكر. فكل هؤلاء يشعرون رغم فقر وهامشية الجزء الأكبر منهم أن لديهم امتياز الارتباط الزبائني بالجيش ورجالاته الأقوياء الذين يسيطرون كذلك على الإدارة الترابية. فإن لم تكن تعرف جنرالا أو عقيدا فإنك على علاقة بمقدم أو ملازم أو عريف يتوسط لك للحصول على وثيقة إدارية أو منحة دراسية لابنك أو عقد عمل مؤقت أو لولوج مخيم صيفي شبه مجاني لأسباطك. هكذا تتم يوميا وعلى نطاق واسع عملية البلعمة غير الطبيعية ولكنها لطول استمرارها تنتهي لتصبح شيئا عاديا تماما في أعين أغلبية الناس.

الجيش في مصر يتحكم في حوالي أربعين في المئة من الاقتصاد وأكثر من ذلك فيما يخص الاقتصاد الاجتماعي. فهو جهاز إنتاج قائم الذات إذ يتحكم في قطاع البناء والأشغال العمومية وخصوصا الطرق والقناطر والموانئ والمطارات وما إلى ذلك

قلنا أعلاه أن هذا الخليط البشري المرتبط بالجيش قد يصبح قوة سياسية قابلة للتعبئة وللاستعمال في المناورات السياسية كبرى ضد المجتمع المدني والسياسي المستقل وهو ما حدث مثلا في مظاهرات نهاية حزيران/يونيو وبداية تموز/يوليو بمصر سنة 2013 للإجهاز على الديمقراطية الناشئة والمتعثرة.
هذا التحكم الانتفاعي للجيش المصري في الاقتصاد أصبح مع مر السنين ومع تبلور العسكر كفئة اجتماعية، هو المحدد الأول لموقفه السياسي وليس الأمن القومي كما يتخيل البعض. ولنعطي مثالا واضحا وقريبا منا على المستوى الزمني: تؤكد الباحثة شانا مارشال أن حكومة الإخوان المسلمين أذعنت في البداية إلى العديد من الضغوط والمطالب الاقتصادية للجيش وأن أصل الخلاف الذي سيؤدي إلى الإطاحة بالرئيس محمد مرسي كان هو رفض الجيش لتهميشه «في المشاريع الكبرى مثل تطوير قناة السويس ومشروع «توشكا» وهو مشروع لاستصلاح الأراضي». هاته المشاريع كانت ستضيع على الجيش مليارات الدولارات إن تم تسييرها من لدن الحكومة المدنية.
وجشع الجيش اللامحدود سيبرهن عليه الثمن الذي أدته المملكة السعودية وبعض دول الخليج له للقيام بالانقلاب على الحكومة الإخوانية المنتخبة والذي يقدر بعشرين مليار دولار.
أحيانا الجيش لا يتحكم فقط في الصناعة والبناء كما في مصر ولكن كذلك في الشركات التجارية الكبرى والتي تدر مداخل ريعية مضمونة ومجزية كما هو الحال في الجزائر وسوريا والسودان. ففي هذا البلد الأخير أصدر الرئيس ـ الماريشال جعفر النميري مرسوما سنة 1982 بتشكيل «التعاونية الاقتصادية العسكرية». يحدد المرسوم أهداف المؤسسة السابقة الذكر في أربع نقط تبدو عادية تماما وهي استعمال الموارد العسكرية الفائضة لدعم اقتصاد البلاد، تجويد عيش أفراد قوات المسلحة وأعضاء أسرهم، تجهيز الجيش بالمعدات والجهوزية اللازمة وتحسين مستوى الأداء الإداري والتقني لأعضاء الجيش.
ورغم أن الأهداف المعلنة للمرسوم تبدو مشروعة وبديهية فإن مآلها تجلى في تحويل الجيش إلى طبقة ذات هوية اقتصادية-اجتماعية قائمة الذات ترتبط مصالحها بشكل بنيوي بمصالح النظام اللاديمقراطي. هكذا ظهرت للوجود ونمت بشكل طفيلي فئة من رجال الأعمال هم في الأصل ضباط استعلامات أو أفراد من عائلاتهم يستغلون بشكل استباقي المعلومة الاقتصادية الحساسة وغير المتوفرة للعموم ـ وهو أمر يمنعه القانون ـ لاستمرارهم في احتكار السوق والفرص كما حدث مع الطفرة النفطية خلال العقدين الأخيرين.

كاتب مغربي



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى