محمد مزيد - زبدة الفستق.. قصة قصيرة

كنتُ أمني نفسي وأنا أتجول في طابق الأطعمة تحت أرضية المول الكبير ، الذي أدمنت زيارته كل يوم تقريبا ، من العثور على " زبدة الفستق " التي طلبتها صغيرتي . لن أستطيع وصف هذا الطابق الا بالقول أن مساحته تعادل نصف ملعب كرة قدم ، فيه كل مالّذ وطاب وبإسعار مدعومة من الحكومة . بحثتُ في قاطع " المربيات " و " العسليات " ، أسير بخطوات وئيدة ، متجنبا الإصطدام بأكتاف النساء حتى عثرت على نوع معين من " زبدة الفستق " . وعندما أردت تناول العلبة القهوائية ، أمتدت يد أمرأة بيضاء الى الزجاجة نفسها ، ألتقت يدانا في المكان نفسه ، فسحبتُ يدي بسرعة مبتسما للمرأة . وهي بدورها أبتسمت أيضا وأشارت لي بتناولها ، رفضت سخاءها ، بإبتسامة أصطنعتها مشيرا بإصرار الى العلبة راجياً منها أخذها . لاحظت المرأة هزة يدي أمام وجهها ( يوك ، يوك ، يوك ) كلا كلا كلا . المرأة في العمر الخمسيني ، جميلة جدا ، ترتدي تنورة خضراء وسترة بيجي جمّلت أناقتها . سارت بالعلبة وأختفت في الزحام . تناولت زجاجة مثلها وأتجهت بها الى طوابير دفع الحساب . عندما وقفتُ في أحد الطوابير ، وجدتني خلف السيدة نفسها . رأيتها دفعت الحساب وقامت الموظفة بوضع زجاجتها في الكيس . في تلك الأثناء أبصرتني السيدة ، وأنا أنتهي من دفع حسابي . فانتظرتني . ولما أقتربت منها ، قالت عبارة لم أفهمها ، فابتسمتُ كالأبله . سرنا معا ، تتحدث هي وأنا أبتسم ، صوتها كنغمات موسيقية تعزفها آلة الكمان في وادٍ لا أحد فيه سوانا ، وعندما تتوقف أمام واجهة زجاجية أقف معها مسطولا ، تشير أصابعها الجميلة الى شيء ما وتتحدث ، وأنا بدوري أبتسم واؤشر برأسي وأقول كلمة واحدة " ايفت ايفت ايفت " نعم نعم نعم ، صعدنا السلم الكهربائي معا ، وقفت بجانبي ، عطرها الفواح مزق كل الأواصر في داخلي ، ، أسنانها البيض عندما تضحك تمزقني ، تجردني من وقاري الذي أعتصم به ، لأبدو أمامها مثل مراهق يتابع فتاته أنى ذهبت . وصلنا الى الطابق الأعلى ، سارت بإتجاه مصعد كهربائي آخر في نهاية ممر كان مزدحما بالنساء حول الواجهات الزجاجية التي تعرض آخر موديلات الملابس والاحذية وأصباغ الوجوه والاظفار والشعر . مازالت السيدة تتحدث وأنا أبتسم وأوشر برأسي ، تظن إنني من أبناء البلد. صعدنا سلما كهربائيا ثانيا ، وقفت السيدة هذه المرة على يساري ، يفوح عطرها في روحي. ما أقسى أن تسكن في بلاد قرابة الأربع سنوات ولاتعرف من لغة أهلها سوى ايفت ويوك ( نعم ولا ) ؟ ومعك سيدة محترمة يستحي الجمال أن يغادرها .وصلنا الى نهاية السلم . هناك مقاه عديدة ومطاعم في هذا الطابق . سرت خلفها حذرا متخلفا عنها بخطوتين ، وفكرت : لعلها تجد نفسها أخطأت في تقدير وجود شخص مثلي ليكون بمرافقتها ، لكنها وقفت تنتظر حتى وصلت قربها ، رطنت مع إبتسامة بكلمات لم أفهم معناها كالعادة . يغرد صوتها الناعم كالبلابل ، وتستعير ضحكتها الدافئة نغماتها من موسيقى لن تؤلف بعد . دخلنا الى مقهى يفتح صدره على شرفة مطلة فوق حديقة واسعة تحت المول. سرتُ خلفها منقادا كالإسير لا أعرف ماذا أفعل ولايبدو على المرأة إنها تعرف ماذا تريد مني ،. ولما أقتربنا من منضدة ، جلست الى جوار رجل أكبر سنا مني ، أناقته ستينية العمر . حدثته المرأة ، أصغى لها ولم يلتفت . جلست هي بجانبه وبقيتُ واقفاً مضطربا في مكاني لا أعرف هل استأذن بالمغادرة ام أجلس ، لكنها أبتسمت وأشارت لي بالجلوس بجانبها . جلست وأنا خائف من الرجل الذي ظهرت عليه علامات غضب ، لاحظت إنه لم يغير حركة رأسه عن متابعة الأفق في وقت تدحرجت فيه الشمس خلف جبل ايرجيس .تحدثت المرأة بصوت خافت الى الرجل ، يجيبها بصوت أخفت بينما تصرخ في داخلي الأصوات . طلبت السيدة الجميلة من النادل شراب القره توت الذي أعشقه ، شربته على مضض . بعد ساعة من الأحاديث والضحك والأبتسام والهمس مع الرجل ، شعرت بدفء فخذها يلتصق بفخذي ، فززتُ ، أدركت إنني قد وصلت الى مرحلة خطر ، وأن السيدة ربما تكون أساءت التقدير لشخصي المتواضع ، أو تريدني ألعب دورا لست مؤهلا له ولاتقبله أعرافي وأخلاقي . صعدت الدماء دافقة الى رأسي ، ما جعلني أعزم على المغادرة حاملا زبدة الفستق ، فنهضتُ ، محاولا توديعها . ولما ودعتها لم يلتفت الرجل إلي ، كأنه في عالم آخر . لكزت هي بالمقابل الرجل حتى ينهض أيضا ، فأستجاب إليها صاغرا . وقبل أن أبتعد كثيرا في الهروب من المطب الذي وضعت نفسي فيه ، ألتفتُ الى الوراء ، فوجدتها تمسك ذراعه وهي تقوده وسط الزحام البشري حتى لايصطدم بإحدٍ .




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى