عبد الرزاق بوكبة - كتب سرقتها

ـ 1 ـ

كنتُ تلميذا داخليا في متوسطة الشهيد محمد بلغربي بمدينة برج بوعريريج، ألتحق بها صبيحة يوم السبت، وأغادرها إلى القرية عشية يوم الخميس. كان ذلك مواكبا لبدايات انطلاق آلة الإرهاب في حصد الأمان والأرواح مطلع التسعينيات من القرن العشرين، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن علاقتي بالغرق في الكتب قد بدأت قبل هذا التاريخ بسنواتٍ قليلة.. لقد فَرضتْ علي عبارة الغرق في الكتب نفسَها، لأنها ترى نفسها الأولى من بين العبارات الأخرى بالتعبير عن الحالة.. حالتي وأنا أمسك كتابا.. في الحافلة.. في سيارة الأجرة.. في البيت.. في الداخلية، حتى أنني قرأت كتبا كثيرة في مرحاض المرقد ليلا، بعد أن ينام التلاميذ الداخليون وجوبا بأمر من الحارس الصّارم، أليست تجربة مثيرة أن أكتب عن الكتب التي قرأتها في المراحيض؟
لقد ورثتُ هذه العادة عن تلك المرحلة، ولا زلت إلى غاية اليوم أمارسها بمتعة عميقة، رغم اعتراض أمي في كل مرة: لا تُدخلْ كتاب الله إلى بيت الرّاحة.. حرام عليك. إنها تعتقد أن كل كتابٍ هو كتاب الله.
أذكر مرة.. أنها تهاوشت مع جدتي التي عَرَضَتْ عليها أن تحلف على كتاب الله، فأخرجتْ من محفظتي كتاب الرياضيات، وراحت تقسم عليه.. إنها تشبه السلفيين الذين يعتقدون أيضا ألا كتاب إلا كتاب الله، لكنها تعرف اللهَ أعمقَ منهم.. قالت لي يوما، وقد اعترفتُ لها بأنني سرقتُ كتابا من مكتبة المتوسطة: يا ولدي.. أعد لله كتابَه، هل هناك عاقل يسرق ربَّه؟
خالتي سعدية
يا خالتي سعدية
ويقتاش تخلصيني في البرية؟
أغنية يسأل كاتبُها خالته سعدية عن اليوم الذي تدفع له فيه أجرة أنه كتب لها رسالة إلى غائب ما، وأنا احتلتُ على خالتي سعدية المسكينة.. من المسكين الحقيقي منا يا ترى؟
لقد جاءت إلي ذات خميس، وقد عدت من المتوسطة، فقالت لي إنها سمعتْ أن هناك شيخا في المدينة التي أطلب فيها العلم، يكتب حروزا تجمّد الماء، وإنها مستعدة لأن تبيع نعجتها مقابل أن يكتب لها حرزا يجعل زوج ابنتها يحبها من جديد، فقد بات لا يشاركها الطعام والمنام والمقام، وهو ينوي أن يتزوج عليها.
عدت في الأسبوع القادم، فوجدتها قد باعت النعجة، وتركت لي مبلغا سمينا عند أمي، كان أكبرَ مبلغ يقع في يدي.. أقول يدي الأمينة في تلك اللحظة، أما بعدها بيومين فلم تعد كذلك.. لقد دخلتُ المدينة بنية أن أذهب إلى الفقيه فعلا، وأسرد عليه حكاية المغبونة ليكتب لها حرزا، لكن ما أن دخلت السوق، ووجدت بائع الكتب المستعملة حتى عَدِلْتُ عن الفكرة.
في البداية قلت إنني سأشتري كتبا ببعض المبلغ، وأترك بعضه أجرة لحرز الفقيه، ثم تخلّيتُ عن الفكرة تماما، وصرفته كلَّه على الكتب.. ليتكِ أعطيتني ثمن النعجة كله يا خالتي سعدية.. لكن ما فات حال.. سأقول لك حين أعود إن الفقيه طلب مبلغا إضافيا حتى يكتب الحرز النافع، وهذا الذي كان. عدت إلى البيت، فوجدتها تنتظرني غارقة في لهفةٍ لا تتفوق عليها إلا لهفتي، وأنا أشرع في كتاب من جملة الكتب التي اشتريت.
أذكر أنني اشتريت كتاب ألف ليلة وليلة، كنت قد قرأت الجزء الأول من قبل، ولم أحظ ببقية الأجزاء، هذا الكتاب حفر في ذاتي حفرا لم تحفره إلا كتب قليلة، إذ ليس هناك خلفية لحبي السافر والعميق للسفر مثلا تسبق خلفية تأثري بالسندباد البحري، واشتريت كتاب الأيّام لطه حسين، وقد كان سببا في أنني أحببت هذا الكاتب، فقرأت كتبه كلها فيما بعد، واشتريت رواية الزلزال للطاهر وطار، كم ضحك عمي الطاهر حين قلت له بعد أن أصبحنا صديقين في الجزائر العاصمة إنني قرأته أول مرة بتلك الطريقة، واشتريت ديوان عبد الله بن قيس الرقيّات.. الشاعر الأموي الرقيق الذي ساهم في أنني تجاوزتُ عقدة عدم فهم الشعر الجاهلي، وقد سمي بالرقيات لأن النساء اللواتي أحبهن، وكتب عنهن كن جميعا يحملن اسم رقية، واشتريتُ رواية الحلزون العنيد لرشيد بوجدرة، لست أدري لماذا لم أحْكِ له بعد أن أصبحنا صديقين أنه حرّرني بتلك الرّواية من عقدة الخوف من الفئران التي ورثتُها من عضة فأرٍ حصلتْ لي في طفولتي المبكرة، لماذا لا نكتب عن الكتب التي حرّرتنا من عقدة ما؟
وجدت خالتي سعدية تنتظرني في البيت، متلهفة للقائي أكثر من أمي، وكم كانت خيبتها سمينةً حين قلتُ لها إنني لم أجلبْ لها الحرز، لأن الفقيه طلب مبلغا إضافيا، تسرّبتْ إلى حوشها كحمامةٍ منتوفةٍ من غير أن تعلق، أو تعطيَ انطباعا بأنها ستعود، لكنني كنت أثق في عودتها، وهذا الذي حصل، عادت بالمبلغ الإضافي.
في العدد القادم: اشتريت بالمبلغ الإضافي كتبا إضافية ـ كتبتُ حرزا بنفسي لخالتي سعدية ـ نتيجة الحرز.


خير جليس.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى