أنيس منصور - مع طه حسين

لأول مرة: طه حسين!

لو سألتني: قل لي ما تعرفه عن طه حسين؟ فلن يطول كلامي. ولكني أعرف أنه رجل عظيم. لكن لماذا؟ ليست عندي إجابة عن ذلك. كان طه حسين يلقي محاضراته في قسم اللغة العربية. وأنا في قسم الفلسفة.. وكانت عندي محاضرة هامة. ولكن فضلت طه حسين عليها. كانت القاعة قد امتلأت إلا قليلا. وفي هذا القليل أخذت مقعدي. وجاء طه حسين ومعه سكرتيره. وأجلسه على المقعد..
وابتسم طه حسين. وتكلم عن الشعر في العصر العباسي. ووجدتني لا أسمع بوضوح فنقلت مكاني وجلست على الأرض بالقرب من الصف الأول من القاعة. وتكلم طه حسين بلا توقف. إنه يتراجع إلى الوراء ويرفع رأسه ويخفضه عند الكلام. ولكنه لا يتوقف. أسلوبه مختلف وكلامه، ونبرة صوته مختلفة. ويمضي طه حسين في كلامه..
ولا يزال يصف الجو في العصر العباسي.. الجو السياسي، وبعد ذلك الشعراء وعلاقاتهم بالساسة في زمانه وما يشيع ذلك من قصائد مديح وهجاء.. ولا يتوقف طه حسين. فهو يتكلم بصفة متصلة. لا يغير من نبرته في الكلام. ولا صوت يعلو على صوته. وانتهت المحاضرة. وجاء السكرتير وخرج طه حسين. وبدأ الطلبة يتناقشون. طبعا كلهم معجبون بطه حسين بلا حدود. بعضهم يقول: إن خلاصة ما قال طه حسين ربما في جملة أو جملتين. ولو كان العقاد هو الذي يتكلم لكانت هناك ألف فكرة. ولكن للأسف العقاد لا يحاضر هنا. هو لا يريد أو أنهم لا يريدون لأن العقاد ليس جامعيا. فهو لم يحصل إلا على شهادة الابتدائية. ولكنه أكبر وأعظم من كثير من أساتذة الأدب العربي، ولكنهم لا يدعونه فهم دراويش طه حسين..
ولكني عدت لطه حسين في مذاكرتي التي مزقتها. قلت ما معناه: الرجل صغير الحجم. نحيف قصير. ملامحه حادة رغم أن كلامه من حرير. ولكن نرى في ملامحه عظمة هادئة وإصرارا ساكنا وهو لا شك موهبة عظيمة. وكلامه في المحاضرات سهل. وهو يشرح كثيرا ما يقول، كأنه على يقين من غباوة بعض الطلبة. ولذلك يكرر ويعيد ويزيد. وكأنه مطرب يجد هو الآخر لذة فيما يقول وفيما يسمعه من إطراء عليه في كل مكان..



* نشرت هذه المقالات في جريدة الشرق الأوسط وكان المقال الأول يوم السبـت 20 ذو القعـدة 1430 هـ 7 نوفمبر 2009 العدد 11302

انيس منصور.jpeg

تعليقات

للمرة الثانية: طه حسين!
أنيس منصور


تشجعت. وطلبت من سكرتير طه حسين: أرجو أن ألتقي بطه حسين. ولم أنتظر طويلا حتى تحدد موعد اللقاء في بيته في ساعة مبكرة.. كانت الثامنة. وفي الموعد تماما انفتحت لي كل الأبواب. وعلى اليمين مكتب طه حسين. وطه حسين كان جالسا بالقرب من الباب. سمعني فوقف لتحيتي قائلا: أهلا بك يا سيدي!
هذا الأدب أذاب الكلام الذي كنت قد أعددته وقررت أن أغير الكلام وأحوله إلى حديث معه. وأيامها كنت المحرر الأدبي لصحيفة «الأخبار».. وابتدعت أسئلة وقضايا. وكما كان طه حسين يتحدث في الجامعة كان يتحدث لي في مودة. شيء غريب. إن هذا الذي رأيته عند طه حسين لم أره عند العقاد. فالعقاد جاف خشن صارم أحيانا.
طبيعي أن يحب الطلبة طه حسين. والأساتذة وكل الناس. ماذا يطلبون من عظيم إلا أن يكون أكثر تواضعا وأشد ألفة وأعمق مودة. ماذا نقول لرجل يقول لطالب يا سيدي.. قالها عشرين ثلاثين مرة في هذا الحديث كلما أراد أن ينتقل من موضوع إلى آخر.
اختلقت سؤالا: ما رأيك يا أستاذنا العظيم في الترجمة.. نحن لا نترجم عن الغرب كتبا كثيرة. إننا نحتاج إلى من ينقل لنا حضارة الغرب، فالإقبال على اللغات عندنا قليل. فالإنجليز احتلوا مصر سبعين عاما وليس بيننا من يتكلم الإنجليزية كأهلها.. أما الاحتلال الفرنسي لسورية ولبنان وتونس والجزائر والمغرب ترك فيهم أناسا كأنهم فرنسيون في التحدث والتفكير وأكثر ارتباطا بالأم فرنسا؟!
ابتسم طه حسين واعتدل في جلسته ورفع رأسه وكأنما يتلقى الوحي وقال: يا سيدي أنت أثرت قضية هامة جدا. لأننا لسنا نحتاج إلى ترجمة الكتب وإنما إلى ترجمة العلوم. فالشعوب ترقى بالعلم وتنتعش بالأدب.. فالعلم لا يفسد الذوق. والأدب لا يصيب العلم بالخرافة. والمثل الأعلى أن نتلقى العلم وأن ننقله للناس في سهولة ويسر. وقال يا سيدي عشرين مرة..
وكان في نيتي أن أعرض عليه شكوانا من خشونة الأستاذ العقاد ورفضه لأن نناقشه أو يكون لنا رأي مخالف!
 
لثالث مرة: طه حسين!
أنيس منصور


فكرة أن نذهب إلى طه حسين هي فكرتي. قد هدم العقاد الدنيا كلها دون أن يهتز له جفن. وهدمها واتجه يبحث عن شيء آخر يهديه. ولم ينتبه إلى أنه أصابنا في مقتل. يقال إن الإسكندر قد ذهب في غزواته إلى آسيا. نظر إلى السماء فسألوه: لماذا؟ قال: أبحث عن مكان آخر أغزوه!
غرور. طيش شباب. والعقاد لم يلتفت إلى شيء آخر يبديه. لم ينظر إلينا. كأنه هدم الأوثان والأبطال جميعا، داخل دنيانا من كل من نحب ونعجب به.
يا أستاذ كأنك الجرجون يا أستاذ.. الجرجون التي إذا نظرت إلى شيء صار حجرا وإذا نظرت للناس أو النبات أو الحيوان كلهم يصيرون أحجارا. وهذا ما فعله الأستاذ. قد أمات كل شيء حولنا ولنا..
وكما أن حيوان الجرجون لما ضاقوا به قدموا له مرآة. رأى نفسه فيها فصار حجرا أيضا.. ولا بد أن نذهب إلى طه حسين ليحول هذه الصحارى القاحلة إلى شيء حي جميل.. لا يمكن أن يكون طه حسين قد أمات الدنيا وعاش على جثث المفكرين والفلاسفة والأدباء.. لا يمكن. إنها فكرتي أن نذهب إلى طه حسين نسأله نستهديه.. إنه عندما تحدث عن الشعر في العصر العباسي كان عاشقا يحب ما يقول. والذي لا يعجبه يقوله بذوق بلطف، بينما العقاد يمسك فأسا يعلو على كبيرنا ويقول إنه لا ينطق. طه حسين ليس عوليس الذي يبذر الأرض بالملح ويتوقع أن تنبت. فالأرض لا تنبت بالملح.. وطه حسين لا يميت أحدا ويمشي في جنازته..
وكنت أول المتكلمين. وقبل أن أنطق قال طه حسين: أين أنت يا سيدي!
وتلفتُّ حولي فوجدته يكلمني أنا.. ويقول يا سيدي.. أريد أن أشرح لك كيف قالها. الوجه باسم والرأس عالٍ ويتجه إليك ويظل يبتسم ويقول: وحشتنا يا سيدي أين كنت ما الذي ومن الذي شغلك عنا..؟
أنا يسألني ويقول لي إنني انشغلت بغيره عنه. ما هذا الأدب. ما هذه الرقة. ثم إنه أستاذ عظيم. لا يقلل منه ومن قدره أنه يقربنا منه أستاذا لطلبة وأبا لأبناء.. شيخا لحَوارِيّين..
وجاء أحد الزملاء يتكلم.. فسبقته إلى الكلام: أستاذنا العظيم. إننا في محنة. إننا في حالة ضياع.. لقد ضاع منا كل شيء.. لقد أضاع وهدم وأباد وأعدم كل الدنيا..
قال طه حسين: من يكون هذا يا سيدي..
قلت: العقاد..
قال: هاها.. وماذا قال لكم العقاد؟
قلت وأطلت. وضحك طه حسين قائلا: اسمع يا سيدي!
 
لرابع مرة: طه حسين!
أنيس منصور

الله.. الله على الذي قاله طه حسين. لم يشتم العقاد وإنما قال لنا: إن العقاد عصبي مزاجه حاد. وشكواه من المصران الغليظ نتيجة لحالته العصبية. والعقاد لم يكن أستاذا جامعيا حوله المئات من الطلبة.. وإن كان العقاد يحتقر الأستاذ الجامعي والجامعة. ولما قيل للعقاد إنهم سيعطونه الدكتوراه الفخرية قال: ومن الذي يستطيع أن يمتحن العقاد. والدكتوراه الفخرية ليس لها امتحان.. إنها هدية من الجامعة أو من أية هيئة علمية. ولكنه لا يعرف. ولم يشأ أن يسأل فهو لا يرى أحدا أعلم منه. ونحن في المجمع اللغوي نناقش معاني الكلمات ودلالتها. وأذكر مناقشة بين العقاد ومنصور باشا فهمي عن الزمن والزمان والدهر والأبدية والسرمدية. ومنصور باشا فهمي رجل لطيف ومهذب ورقيق جدا. سأل عن الفرق بين الزمن والزمان.
وانفجر العقاد ضاحكا ساخرا. إن الزمن كلمة ولكن الزمان أطول ولذلك يجب أن نجعل الألف تمتد إلى ما لا نهاية هاها..هاها.. ولم يضحك أحد وغضب منصور باشا بصورة واضحة. ولم يحاول العقاد ترضيته أو الاعتذار له.. وحاولت أن أخفف من وقع هذه الصاعقة. فقلت لا فرق بين الزمان والزمن. كلها لحظات محسوبة. وهي إذا قورنت بالخلود والأبدية فهذه أطول وهذه أقصر. ولا بد أن نعود في هذا الرأي إلى علماء الفيزياء هم الذين يقيمون الزمن. وهم الذين يقولون ما قاله أينشتين من أن الزمن هو البعد الرابع للطول والعرض والارتفاع ولسنا الذين نحكم في مثل هذه القضايا..
وقال طه حسين: أنت يا سيد أنيس من المعجبين جدا بالعقاد. تعلن ذلك كثيرا..
فقلت: ولكني لا أستطيع يا أستاذ أن أهاجم العقاد وأرد عليه.. صعب نفسيا. ولكني أقول كما قلت يا أستاذ إنها لحظة عصبية جعلته يطيح بكل ما ليس عباس العقاد..
وضحكة طه حسين أو ابتسامته هي التي فيها سخرية لطيفة مهذبة. ويقول إن كذلك فولتير..
وتحدث طه حسين عن العصر العباسي للشعر وتحدث عن المتنبي وأبي تمام. وأعاد المقارنة وقال: المتنبي كان كالعقاد في عصبيته.. ولم يقل إن أبا تمام كان هادئا راسخا كطه حسين..
وقال طه حسين: هذا موعد الغداء. نلتقي غدا. فغدا سوف يكون ممتعا. ولم نعرف السبب. ولكن من الذي يرفض دعوة طه حسين!
 
لخامس مرة: طه حسين
انيس منصور


وكان صادق الوعد. فاليوم يوم مشهود. كان طه حسين قد استضاف اندريه جيد الأديب العظيم الحائز جائزة نوبل. وقدمنا طه حسين الذي وقف وانحنى تحية لنا ، وقدم لنا اندريه جيد: انه الأديب الفرنسي العظيم الذي احب الشباب طوال حياته . وأحبه الشباب. هاها

وابتسم اندريه جيد، وكان طه حسين يشير بصراحة إلى أن اندريه عنده شذوذ جنسي يحب الشباب ويحبونه، واندري جيد لا يخفي هذ الخصلة وذكرها طه حسين.

واستأنف طه حسين حوارا بينهما فقال طه حسين ردا على ما كتبه بالأمس من أن الأدب قد انتعش في ظل القياصرة وانحسر وانكسر في العصر السوفياتي، وهذا طبيعي. إنما ينبت الأدب والفن في الحرية. وفي كل عصور الانحطاط في أوربا كان الأديب والفنان مطرودا من رحمة الكنيسة والملكة. ولذلك ثار فولتير وسخر مونتيني. و الذي قرأته في " ألف ليلة " هو خيال أطفال لا يخلو من أدب وفن. وحلم بعالم أفضل وأحسن، وعلى أساس هذا الخيال تطور الأدب وأصبحت " ألف ليلة " مثل الإلياذة والأوديسة مصدر إلهام الأدباء والشعراء.. وخسارة ان لا نقرأ " ألف ليلة " ونتوقف عند قصصها البديعة التي تصور عالما يحلم بعالم آخر.. و تخترع كائنات لا وجود لها، وإنما هو الخيال الذي أثار وأبدع الخيال في الأدب والفن والموسيقى. إننا لا نعرف كم عدد الأعمال التي استوحت الجمال من " ألف ليلة " ولا عدد الذين استوحوا الإلياذة.

وكان طه حسين قد أحس انه ابتعد عن المشكلة التي جئنا من اجلها فسال أندري جيد: كيف تنظر إلى الشبان الذين هدمنا على أدمغتهم كل عقائدهم ولم نعطهم بديلا عن ذلك؟

قال اندري جيد: كأنهم عراة. كأننا ضحكنا عليهم. قلنا لهم اخلعوا ملابسكم فقد اعددنا لكم ملابس أخرى. أو اغتسلوا فلسنا في حاجة إلى طهارة الجسم والنفس.. هناك حكاية تروى في أحد كتب الشاعر جوته أن هناك كهفا للعبقرية. هذا الكهف يجب أن تدخله عاريا. وهناك شرط للدخول. والشرط هو أن من يدخل كهف العبقرية يجب أن يترك عضوا من أعضائه. يده، رجله، عينه، أذنه. وقد دخل الكهف كثيرون لكنهم لم يفقدوا عقولهم. فقد ذهبوا وعادوا يقولون لنا. لكن شرط العبقرية ان تفقد شيئا. أن تضحي بشئ، وبعد ذلك كل شيء يهون من اجل العبقرية. وقد هان على العظماء كل شيء إلا العقل والخيال. فليس شيئا عظيما ان يفقد الإنسان عضوا من اجل أن يكون عبقريا. ولا بد من أن يكون مكافأة عن أي قرار كبير.. فإذا جردنا الشباب من دينهم فلا بد أن نعطيهم بديلا وإلا استحالت الحياة والفلسفة..

وكأنه أجاب عن كل ما أردنا أن نعرفه. استرحنا إلى حد كبير. فكل شيء قد قاله طه حسين في هدوء ولطف ورقة..

وكان لا بد أن نعود إلى صالون العقاد..
 
أعلى